مظلمة يجب أن تتوقف.
صدر هذا المقال في العدد 374 من الموقف، الجمعة 22سبتمبر2006
فوزي الصدقاوي
لم يَعُد السؤال عن محاكمات التسعينات إن كانت تَوفرتْ على ضمانات وشروط المحاكمة العادلة، يَشغل المهتمين بشأن السجناء السياسيين ، فتراكم معاناة العائلات وأبناءهم طوال الستة عشر سنة التي أمضوها في السجون التونسية وما آلت إليه أحوالهم من تردي بسبب الإهمال الصحي ، لم تعد تحمل أحداً على الإنشغال بالبحث في الظروف التي حفت بتلك المحاكمات بعد أن ألفتَ السجناء وعائلاتهم عناية الحقوقيين [1] إلى أن أحكاماً سُلِِِّطت عليهم بصورة متكررة بسبب تُهَمٍ حوكموا لأجلها أكثر من مرة .!! بدا الأمر صعبٌ تصديقه ، فالقانون حين يجرّم فِعْلاً فإنه لايُحاكِم فاعله لنفس الفعل أكثر من مرة . غير أن مقارنة نُسخ أحكام هؤلاء السجناء بعضها ببعض كانت كافية لتـُذهب دهشة المندهش وتستوقف الحقوقيين وعدد من المحامين طويلاً عند أكثر المظالم التي حاقت بهؤلاء السجناء السياسيين وأضرت بهم أيّما ضرر. ولقد بحَ صوتُ السجناء السياسيين وهم يُطالبُون بمراجعة الأحكام التي سُلطتْ عليهم دون أن يُسعَفوا بحقهم في إتصال القضاء ،لاسيما وأنهم يجدون أنفسهم عاجزين على إثبات دعاويهم لأن إدارة السجون لاتمنح السجين أرقام أحكامه و كتابة المحكمة هي أيضاً لا تُسلِمُهم نسخاً عن الأحكام الصادرة ضدهم، فهذه الكتابة لاتقدم نسخاً للأحكام الصادرة في القضايا ذات الطبيعة السياسية. ولتوضيح الأمر نضرب للذكر لا للحصر الأمثلة التالية:
• فمن أجل الإنتماء إلى جمعية غير مرخّص فيها حُوكم زهير بن حسين لمرتين في[1] القضيةعدد24570بتاريخ 16/12/1994بسوسةو[2]القضيةعدد99261بتاريخ31/05/1997تونس.
• كما حوكم لأجل الإنتماء أيضاً دنيال بن محمدالصادق زروق في القضايا الثلاث التالية [1] القضيةعدد 72922بتاريخ 11/12/1992و[2] القضية عدد 18980بتاريخ 26/01/1994..و[3] القضية عدد 19630بتاريخ 23/05/1995..
• ولأجل نفس التُهَم حوكم فريد بن علي الرزقي مرتين في [1]القضية عدد23672بتاريخ 10/07/1997الإستئناف- تونس [2]القضية عدد23303بتاريخ25/11/1996 الإستئناف -تونس.
• كما حوكم فرج الجامي لأجل نفس التُهَم في قضيتين بمحكمةالإستئنافي تونس[1] قضية عدد19102بتاريخ 05/05/1994[2]قضيةعدد18926بتاريخ30/03/1994.
• والتهم ذاتها حوكم لأجلها أيضاً محمد بوعزة في قضيتين بمحكمة الإستئناف-تونس[1]القضية عدد23672بتاريخ10/07/1997 و[2] القضية عدد23303 بتاريخ 25/11/1996…
• وذات التهم التي وجّهت للسجين سامي النوري حوكم لأجلها في قضيتين بمحكمة الإستئناف-تونس[1]القضية عدد23672بتاريخ 10/07/ 1997و[2]القضية عدد23303 بتاريخ25/11/1996.
• أما عادل بن عمر فقد حوكم مرتين لأجل نفس التهم [1] القضية عدد76111بتاريخ 30أوت1992لدى المحكمة العسكرية –بوشوشة تونس ثم لأجل ذات التهم في[2] محكمة الإستئناف-تونس في القضية عدد20702بتاريخ 13/04/1995.
• كما حكمت المحكمة الجنائية بتونس على السجين إبراهيم الدريدي لأجل التهم نفسها في القضيتين[1]القضية عدد12/23785 بتاريخ10/06/1997 [2] القضية عدد 22268بتاريخ12/12/1995.
• وحكمت محكمة الإستئناف بالكاف السجين حمادي العبيدي لنفس التهم خمس مرات [1] القضية عدد41553بتاريخ 25/03/1992 [2] القضية عدد2296بتاريخ 30/03/1992.[3] القضية عدد 41168/28339بتاريخ25/03/1992.[4]عدد41376/28288بتاريخ29/01/1992[5]39574/28287 بتاريخ29/01/1992.
• أيضا حكمت محكمة الإستئناف-تونس على السجين الصادق العكاري مرتين على الأقل لأجل نفس التهم وذلك في[1] القضية عدد 23672بتاريخ10/07/1997و[2]القضية عدد23303بتاريخ25/11/1996.
وبمراجعة بعض نسخ أحكام السجناء السياسيين التي تم الحصول عليها يتبيّن أن أمثال الحالات العشر المذكورة أعلاه والتي تم فيها محاكمة السجناء أكثر من مرة لأجل نفس التهم يزيد عددها عن الثلاثين حالة نذكر منهم:حسين الغضبان و عبد الله دريسة وعلي الغضبان وتوفيق الزايري والبشير اللواتي و منذر البجاوي وماهر سلمان ومحمد القلوي وعبد الكريم بعلوش ونبيل النوري وشكري العياري وأحمد البوعزيزي و ماهر الخلصي ورمزي الخلصي وعيسى العامري وأنور بللح والشاذلي محفوظ ولطفي السنوسي وحمادي عبد الملك وعادل بن عمر وعبد الباسط الصليعي وخالد الدريسي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مايزيد عن 120سجيناً سياسياً قضوا بالسجن فترة تزيد عن المدة القانونية قبل أن يتم ،خلال مناسبات سابقة، تسريحهم وأن أحكاماً لأكثر من مرة و لأجل نفس الفعل ،كانت قد سُلطت عليهم ، كان من بينهم سجناء أربعة شمِلهم «عفو نوفمبر 2005 » و‹‹ عفو فيفري2006›› وهم: علي النفاتي ثم توفيق الفطناسي و أحمد العبدلي والناصر البجاوي ولم يتم إدراج هؤلاء المذكورة أسماؤهم ضمن قوائم المُسرحين إلا بعد أن أثارت منظمة( هيومن رايت وواتش) قضية أحكامهم المكررة.
أما السجين توفيق الشايب و السجين لطفي العمدوني اللذان شنَّا في السجن إضرابات عن الطعام ، إستمر الأول عليها لـ 52 يوماً بينما جاوز الثاني 67يوماً قضى منها خمسة عشر يوماً في حالة غيبوبة تامة ولم يتم إطلاق سراحهما إلا بعد أن أنهكتهما الإضرابات وبعد أن تدخلت منظمة (هيومن رايت واتش) والصليب الأحمر الدولي والجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين ومنظمة العفو الدولية وتبنت قضيتهما ، إذ لم يكن للسجينين من سبيل غير الإضراب عن الطعام لتحسيس منظمات المجتمع المدني التونسي وإبلاغ صوتيهما إلى المنظمات الحقوقية الدولية والتعريف بالمظلمة التي لحقتهما [2].
لم يَعُـد السؤال إذًًا عن تلك المحاكمات، إن كانت تتوفر على شروط المحاكمة العادلة وضماناتها مفيد طرحه الآن بالنظر إلى ما خلفته السجون ولازالت تفعل ، وإنما السؤال الآن عمّا يجعل قضاءاً يعتد بنفسه يأكل من أعمار السجناء السياسيين ويحرمَهم من أمهاتهم ونساءهم وأطفالهم دون موجب قانوني ؟ ماالذي يجعل قضاءاً يفخر باستقلاله يمتنع عن إتصال القضاء بموضوع بت في قضيته إن كان في الأمر ما يحقق عدلاً وينهي مظلمة ؟ فلقد ذهب الموت بالسجين السياسي رضا الخميري على إثر إضراب عن الطعام شنّه لمّا حـُرٍم من تلبية طلبه في إتصال القضاء لأن أحكاماً مكررة لأجل نفس التهم حوكم بها [3] ومن المفارقات الغريبة أن المحكمة نظرت بعد وفاته في قضيته وحُكمت له بعدم سماع الدعوى وكان يمكن للسجين السياسي الهاشمي المكي الذي توفي (في 15 جويلية 2006) بعد سراحه بأربعة أشهر وكان قد سُلطت عليه هو أيضاً أحكاماً مكررة لأجل نفس التهم ، أن يتدارك بالعلاج، وضعيتَه الصحية لو تم وقف تنفيذ الأحكام المكررة في حقه ، بل كان يمكن أن يغادر السجن سليماً معافى لو أنه اُسعف بإتصال القضاء وغادر السجن قبل سنة 2000. [4]
بل حتى هذه الأسئلة ذاتها لم يَعـُد مُجدٍ طرحها بعد الذي كان ،و الحال أن عشرات من السجناء السياسيين لايزالون في السجن إلى اليوم يعانون مظلمة الحرمان من حق إتصال القضاء بل ويُخشى أن يكونوا مرشحين ، لسوء أحوالهم الصحية ، إلى مصير كان من سبقهم قد بَلغهُ . فما الذي يُبطئ النظر في شكواهم إن كان فعلاً لايزال في« العدالة » عدلٌ ؟
ماذا كانت إدارة السجون ستخسر من هيبتها أمام السجناء لو أنها منحت أرقام القضايا التي حُوكموا فيها كلما طلبها صاحب علاقة ؟ ماذا كان يُعْجـِزُ كتابة المحكمة أن تقدم للمحامين ولعائلات السجناء السياسيين نسخ الأحكام ليدافعوا بها عن حق مهدور و يتداركوا خطأً تكرر في حق فئة مخصوصة من السجناء ويُدفعَ عنهم ما سيتحوّل ، مع طول الحبس ، إلى مظلمة حقيقية أكلت من أعمار التونسيين سنين طوال . وحين يضطر السجين ليضع نفسه بين خياري : السراح أو الموت على نحو ما إضطر إليه السجين السياسي رضا الخميري فلأنه بات يَشعر أن ظلماً مركباً يستهدفه منذ وقت ، فمحاكمته كانت مَظلمَة في ذاتها والإدانات التي وُجّهت إليه كانت محكومة بحسابات السياسة دون غيرها والأحكام بذات التهم المسلطة ضده تُكَرٍرُ نفسها ومَرَاجِعُ النظر الرسمية للسجين وعائلته ومحاميه موصودة أبوابها دونهم ولا تمكّنهم من وسائل إثباتٍ للدفاع عنه بغاية وقف تنفيذ الأحكام المكررة الصادرة ضده . حين تكون المظلمة إذاً على هذا النحو من التركيب والتضعيف فلابد أن تحمل السجينَ السبلُ التي تضيق به و الأسبابُ التي انقطعت دون حقه، إلى الإعتقاد أن الموت جوعاً أو السراح العاجل خيارين لن يطمع أن يتعلق رجاءه في ثالث خياره مرفوع .
وعلى نحو ما كان مع السجين السياسي لطفي العمدوني الذي اُطلق سراحه إثر إصدار وكيل الدولة لدى محكمة الإستئناف أمراً بوقف تنفيذ العقوبة ، بعد أن إطلع على قضاياه المكررة فإن إنهاء هذه المظالم ليس لها من سبيل غير الإستجابة لحقوق السجناء المكفولة بمراجعة الأحكام الصادرة ضدهم من أجل إيقاف تنفيذ تلك العقوبات ، كما أنه ليس أمام عدالةِ وزارة العدل وحقوق الإنسان لأجل صون كرامة الإنسان وحقوقه غير تمكين السجين السياسي من إلتماس إعادة النظر في قضاياه التي حوكم فيها مرات عديدة لأجل الفعل نفسه بعد أن ظهرت للسجين من الأدلة ،ما كان ممنوع عنه، إذ ليس يَحْمِي من جور السياسة غيرها ،فهي أساس آمان المواطن وأساس عمران الوطن .
[1] أشارت الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين بلاغ لها بتاريخ28أفريل2006 إلى أنه تأكد لديها ما كانت عائلات السجناء قد رددته من أن عددا من السجناء السياسيين يقيمون الآن في السجن، مسلطة عليهم أحكام مكررة لنفس التهم ، وناشدت الجمعية في نفس البلاغ السلطات القضائية والعدلية مراجعة ملفات نحو ثلاثين سجين ذكرت أسماءهم ، هم إلى اليوم واقعون تحت هذه المظلمة .
[2] أ / حوكم السجين السابق توفيق الشايب ثلاث مرات لأجل نفس التهمة ومن قبل نفس القاضي .
ب /في حالة السجين لطفي العمدوني مثلاً كان يُفترض أن تكون الأحكام المسلطة عليه قد إنقضت سنة2001 إلا أنه ظل بالسجن يناشد الجهات الرسمية والمنظمات طوال أربع سنوات إلى أن تدخل المنظمات الحقوقية ، ودعته على إثرها إدارة السجن ليلتقي بممثل عن وزارة العدل الذي أكد له أنه بعد التحري في وضعيته تبيّن أن هناك أحكام مكررة فعلاً مسلطة عليه وأنه كان يجب أن يكون خارج السجن منذ فترة وهكذا يكون السجين قد قضّى بالسجن ما يزيد علىالمدة المحكوم بها بـ« فائض عدل» أربع سنوات .
[3] لفظ رضا الخميري أنفاسه الأخيرة قبل أن تبلغ به سيارة الإسعاف مستشفى مدينة المنستير .
[4] لم يكن الهاشمي المكي إلى سنة 2000 وهو لايزال في سجنه، قد أصيب بالمرض الذي تطور لاحقاً إلى ورم خبيث وحين أطلق سراحه في مارس 2006 لم يكن بإمكان الأطباء تخليصه من الورم بعد أن إنتشر في كل جسمه .
iThere are no comments
Add yours