الأدلجة “الآفاقية”: في خلط السياسة الايديولوجية (ideological politics) بالايديولوجيا المسيسة (politicized ideology)

بقلم الطاهر الأسود

باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

laswadtaher@yahoo.com

http://taherlaswad.blogspot.com

في مقال أخير بعنوان “في الايديولوجيا و الهوية” رد السيد الطاهر بن حسين ضمن موقع “قناة الحوار” على مقال سابق للسيد نجيب الشابي في صحيفة “الموقف” وعلى ما تضمنه حوار للأخير على شاشة “قناة الحوار”. و في الواقع لن أتعرض هنا لعرض محتوى مقال أو حوار السيد الشابي، و هو ما لا يعني أنني أتفق معه في مجمل آرائه، و لكن سأكتفي هنا بالتعبير عن اشتراكي معه بشكل عام (و ليس في التفاصيل) في مسألة أساسية هي محتوى مقالي هذا. و في العادة لا ألتجئ إلا في حالات استثنائية للرد على مقالات أي كان حيث أعتقد بشكل عام أن أفضل الوسائل للكتابة لا تكون في الرد على أفكار شخص ما بقدر ما تكون في صياغة أفكار و البرهنة عليها بمعزل عما إذا كانت أية أفكار أخرى تحتاج الدحض أم لا. و لكن في بعض الحالات الاستثنائية يمكن أن يكون توقيت و مصدر طرح بعض الأفكار مناسبة جيدة لمناقشة أفكار أخرى. و هنا من الضروري التأكيد بداية على احترامي للسيد الطاهر بن حسين و أن ما سيحتويه المقال أسفله لا يستهدف شخصه بأي حال بقدر ما يستهدف رؤية عقائدية راديكالية أعتقد أنها نرجسية بشكل بالغ و لكنها تطرح اشكاليات مهمة تستحق نقاشا مستفيضا لطبيعتها المعقدة. حيث أنه بالرغم من أنه لا يعبر عن هذه الرؤية سوى مجموعة صغيرة من الأشخاص فإنها لا زالت تلقى انجذابا ذهنيا لدى بعض الشرائح المثقفة في تونس من ذوي الانتماءات السياسية اليسارية الراهنة أو السابقة و لو أن هذه الشرائح ليست على ادراك تام بمدى انجذابها لهذه الرؤية.

النقطة الأساسية في مقال السيد الطاهر بن حسين هو أنه “لا يوجد أي حزب سياسي بدون ايديولوجيا”. يأتي ذلك افتراضا للرد على رؤية السيد الشابي. غير أن ما فهمته من الأخير (في مقاله و الحوار المعني) يصب في اتجاه غير الاتجاه الذي يرد عليه السيد بن حسين. و بشكل مختصر فإن السيد الشابي يرى، و أشاركه في ذلك، أن هناك صنفين من العمل السياسي، صنف أول تجعل ايديولوجيته “المغلقة” عمله السياسي مجرد إطار للدعاية الايديولوجية لا غير، في حين هناك صنف ثاني يهتم بايديولجيا “غير مغلقة” (مهما كان نوعها) تسمح له باجتهاد سياسي واسع. و بمصطلحات ربما تجعل السيد بن حسين بخلفيته الماركسية المعروفة يفهم ما أعنيه هنا بشكل أفضل: هناك صنف ايديولوجي يرى العامل الرئيسي في حركيته السياسية شروطه الايديولوجية في حين هناك صنف ايديولوجي آخر يرى في شروط الواقع السياسي عاملا رئيسيا على منطلقاته الايديولوجية التفصيلية. و هكذا المشكل الذي يطرحه السيد الشابي، و الذي أرغب في تعميقه هنا، ليس في وجود عمل سياسي بدون ايديولوجيا أم لا بل في طبيعة الايديولوجيا التي تحكم العمل السياسي و التي إما تجعل السياسي ثانويا أو رئيسيا. إن هذا النقاش يطرح في الواقع أسلوبين مختلفين في العمل السياسي: سياسة ايديولوجية (ideological politics) و ايديولجيا مسيسة (politicized ideology). و في حين يرغب السيد بن حسين في تصوير كل عمل سياسي بالضرورة سياسة ايديولوجية فإن هناك إمكان في الواقع و خاصة في الظرفية الدولية الراهنة لايديولوجيا مسيسة.

حول “الآفاقيين”: نموذج في “السياسة الايديولوجية”

لا يمثل السيد الطاهر بن حسين نفسه فحسب. بل هو يمثل أيضا مجموعة صغيرة من “الآفاقيين” (perspectivistes) السابقين يبدو أن السيد محمد الشرفي لايزال على رأسها. و لا تقلل هذه المجموعة من قيمتها البتة، و يندرج ذلك في إطار حقها الكامل في الحلم، حيث تعتقد أنها ليست فقط المدركة الوحيدة لدقائق “طبيعة المرحلة” في تونس بل هي أيضا تشعر بقدرتها على تصدر الساحة السياسية سواء انضمت للحكم أو انضمت للمعارضة بوصفها “الطليعة التقدمية” لمجتمع لا يفهم على ما يبدو الكثير و يحتاج الى عناية طليعته الدائم. و هكذا مثلا كان السيد الشرفي عندما أصبح وزيرا للتربية، بمعية من نجح أن ينقلهم معه الى داخل أطر الدولة من “الآفاقيين” السابقين في تحالف لا يرغب عموما في تذكره، يعتقد أنه يقود أكثر كتل الحكم “تقدمية” و “ثورية” و أنه الماسك الحقيقي للسلطة حيث كان هناك اعتقاد على ما يبدو بأنهم كانوا شرطا أساسيا لاستمرار مباركة أطراف دولية للنظام القائم. و رغم أن تفاصيل إقالة الوزير و بعض من مجموعته لا تزال غير واضحة، حيث يعمل السيد الشرفي بشكل دائم بما في ذلك خلال الحوارات المنتظمة على القنوات التي أدارها السيد بن حسين على عدم الخوض فيها كأنها عار قديم، فإن البعض يعتقد أن نرجسيته المتعاظمة و تعبيره في مناسبات متنوعة عن أنه “شخص لا يُمس” كانت وراء غضب القيادة الرئيسية في السلطة و قرارها بفسخ العقد و إحالة السيد الشرفي على تقاعد مبكر. و برغم اكتشاف المجموعة المعنية أنها يمكن “أن تُمس” بل و حتى الاهانة و التشهير (“فواتير العشاءات المفتوحة” المعروضة على صحيفة الشروق الموالية للسلطة) من دون تدخل الأصدقاء في باريس فإنها عوض الانسحاب في صمت من الساحة السياسية و الاعتراف بأنها خسرت المقامرة (على السلطة و على الأصدقاء غير العابئين الى حد إغضاب السلطة) فإنها قررت الانتقال مباشرة الى “الصف الديمقراطي التقدمي” في المعارضة لتقوده افتراضا الى سلطة جديدة. و هكذا خرجت صحيفة “لوموند” بعنوانها المثير لأكثر من الدهشة “الشرفي زعيم المعارضة التونسية” بشكل يكشف رغبة الأصدقاء في باريس فيما يجب أن تكونه “المعارضة” في تونس عوض قبولها كما هي.

و في الواقع تبدو المجموعة “الآفاقية” مؤمنة بقداسة خاصة تميزها تجعلها هي من يضفي على المحيط الذي توجد فيه صفات “التقدمية” و “الحداثة” و ليس برامجها و أفعالها. و هكذا فالسلطة “تقدمية” بمجرد وجود المجموعة المعنية ضمنها، كما أن المعارضة “التقدمية” هي فقط تلك التي توجد فيها المجموعة “الآفاقية”. و في الحقيقة لا يمكن ألا يتعرف الملاحظ في حالة مثل هذه على نوع مكرر من الفرق العقائدية الشخصانية الميكروسكوبية عبر تاريخ البشرية و التي لا يمكن تذكر معظمها بأي حال من الأحوال. و الصفة الأساسية لمثل هذه الفرق أنها تشعر بطهرانية شديدة لاعتقادها الايماني في ثوابت أزلية لا يخالجها الشك، و بشكل تدريجي يتحول أشخاص الطليعة الايمانية، نظرا للمأزق الدائم الذي تعيشه في تحقيق امتدادها الاجتماعي، الى تجسيد للمعاني العقائدية ذاتها. و هكذا فلا فرق أن يكون المرئ “شرفي” أو “تقدمي” فكلاهما واحد.

إن المعضلة الأساسية في علاقة بالمجموعة “الآفاقية” هي عجزها عن التواصل مع محيط اجتماعي و سياسي متغير في حين بقيت هي في حالة هيام نوستالجي مع مشاريع باردة من فئة “الكراسات الصفراء الستينية”. في مثل هذه الحالة الفاقعة من الاغتراب تصبح السياسة غير مجدية أو مفيدة و تصبح الايديولوجيا مجال الخلاص من صداع الواقع الراهن. بهذا المعنى فإن السياسة الوحيدة الممكنة في إطار كهذا لا تبقى سوى سياسة الايديووجيا، أو سياسة من أجل الايديويولجيا فحسب بقطع النظر عن محددات الواقع و الظرفية. لكن من المفارق أن مغزى السياسة الايديولوجية واقعيا هو تحديدا سياسوي: أي أن الالتجاء للسياسة الايديولوجية ليس تعبير عن تفهم عقلاني للواقع و رغبة في التعامل الجدي معه بقدر ما هو تعبير عن الاعتقاد في أن الخلاص الوحيد الممكن للايديولوجيا المعنية هو العمل على تشويش الواقع باستثارة الأصدقاء الايديولوجيين و دعوتهم للتركيز على “الايديولوجي المشترك” عوض الانتباه لشروط الواقع السياسي. و هكذا فالسياسة الايديولوجية تستخدم السياسة بعد كل الشيء و لكن لا تفعل ذلك إلا للهرب من استحقاقات الظرفية السياسية التي تعيش ضمنها. و لكن أساس المعضلة الرئيسية هنا يكمن في التركيبة الداخلية للايديولوجيا التي تتبناها المجموعة “الآفاقية” و هي تنتمي لنسق الايديولوجيات التي تطرح تصورا شموليا للتاريخ و العالم و من ثمة تطرح حلولا جذرية و نهائية ترى في الحياد عنها مدعاة للدمار. و يمكن تسمية هذا النسق الأزلي من الايديولوجيات المتعاقبة تحديدا “الفكر المقدس”. و بالنسبة للايديولوجي المقدس لا توجد خيارات سياسية كبيرة. هناك تحديدا وعظ و إرشاد.

في معاني “الايديولوجيا المسيسة”

مقابل العمل السياسي الخاضع لايديولوجيا طاغية على الواقع تملك حلولا لكل شيئ و تعتقد أنها الأفضل على كل صعيد هناك عمل سياسي ينهل من رؤى ايديولوجية لا تطرح رؤى شمولية و لا تطرح حلولا نهائية. و هنا يجب الرجوع الى الأمثلة التي طرحها السيد الشابي و التي تعرض اليها بالدحض السيد بن حسين في رده. حيث أن تقييمها (الاشتراكية الديمقراطية مثلا) لا يتعلق بما إذا كانت تنهل من رؤى ايديولوجية بل بطبيعة الرؤى الايديولوجية. هل هي رؤى تفرض حلولا شمولية و نهائية أم لا؟ إن الرؤية الاشتراكية الديمقراطية على سبيل المثال، إن افترضنا أن رؤيتها الايديولوجية و لو بتبسيط بالغ كما يقترح السيد بن حسين هي “القيم الجماعية”، لا تطرح نفيا لمقابلها الايديولوجي الافتراضي أي “القيم الفردية” حيث لا يمكن تصور أي تهديد لحرية “الفرد البورجوازي” الاقتصادية في ظل حكم الاشتراكية الديمقراطية. و من جهة أخرى و على أصعدة معينة خاصة في علاقة بالمسائل الثقافية و الاجتماعية تطرح الاشتراكية الديمقراطية الراهنة بالتحديد “القيم الفردية” بشكل أساسي.

و لقد طرحت الاشتراكية الديمقراطية خاصة في ظل الصراع الحاسم مع الحركة الشيوعية/البلشفية في بداية عشرينات القرن الماضي مشروعا يرى الطرح الطبقي ممكنا من دون الاضطرار للالتجاء للقطيعة مع النظام البورجوازي القائم. و كان هذا التشكل الايديولوجي الخارج من رحم ايديولوجيا شمولية يتم في هدوء يغطيه صخب الايديولوجيا “البروليتارية” الصاعدة و التي لم تكن تبحث عن التوافق بقدر ما كانت تبحث عن حلول “ثورية” اي بمعنى آخر حلول تفرض بالعنف رؤية مجتمعية خاصة. إن الرؤية الايديولوجية بمعناها الاشتراكي الديمقراطي في هذه الحالة تسمح بقدر كبير من التسييس أي بالبحث عن التغيير من دون الرغبة في تدمير ما هو قائم.

يشير السيد بن حسين الى الحزبين الجمهوري و الديمقراطي في الولايات المتحدة و يضعهما في سلة واحدة (“الايديولوجيا الفردية”) في حين ميز الاشتراكية الديمقراطية في الحالة الفرنسية ضمن “ايديولوجيا جماعية”. غير أن ما يفشل في ادراكه السيد بن حسين و ذلك بسبب رؤيته الايديولوجية الشمولية بالتحديد هو أن ما يسميه “الايديولوجيا الفردية” أي الليبرالية هي أيضا مبدأ أساسي للاشتراكية الديمقراطية. إن التقسيم هنا بين ايديولوجيات “فردية” و أخرى “جماعية” لا يعكس تعقد الواقع الراهن.

من جهة أولى من الضروري تصحيح فكرة أساسية حول تقييم السيد بن حسين للوضع السياسي في الولايات المتحدة، و الذي يعكس في أحسن الأحوال سوء فهم ربما ناتج عن قلة إطلاع. أولا كان الحزب الديمقراطي خاصة منذ أزمة 1929 في حقبة فرانكلين روزفلت (و المبادرة لأول مرة عالميا في تطبيق النموذج الكينزي) ثم مع صعود كينيدي في الخمسينات (و مواصلة المشاريع الفدرالية الضخمة) الرديف الاشتراكي الديمقراطي الممكن في الظرف السياسي الأمريكي. و هذه نقطة بديهية في أوساط البحث الاكاديمية (و لكن أيضا في الوسط السياسي) خاصة في علاقة بموضوعة “اليسار” و “اليمين” في الولايات المتحدة. ثانيا، فإن الحزب الجمهوري “ليبرالي” بالتحديد فيما يكون فيه الحزب الديمقراطي أقل ليبرالية بكثير (اي المسألة الاقتصادية و نفوذ الرأسمالية الكبرى مقابل المالكين الصغار و الطبقة الوسطى و الطبقة العاملة)، في حين أن الحزب الديمقراطي “ليبرالي” في المسائل التي يكون فيها الجمهوريون “محافظين” بشكل بالغ (المسائل الاجتماعية و الثقافية). و هذه بالتحديد نفس التركيبة السائدة في بلدان الغرب الليبرالي بما في ذلك في الحالة الفرنسية. ثالثا، مهما كانت الاختلافات في المعاني “الليبرالية” بين الطرفين فإن هناك نقطة ليبرالية مركزية و هي النظام الليبرالي السياسي. طبعا هناك اختلافات بين هذه المجالات الغربية لكنها لا تمس جوهر “النظام الليبرالي” بل تمس درجة “الليبرالية” و شكلها. إن تحالف “العالم الحر” القائم على مدى الحرب الباردة لم يكن صدفة بل كان قائما اساسا على هذه الميزة المشتركة و التي تميز طبيعة هذه المجتمعات بالأساس.

إن المبادئ الليبرالية و التي تعبر عن الخاصية الرئيسية للعالم الراهن ليست مشروعا ايديولوجيا للتحقيق بقدر ماهي واقع متشكل عبر قرون عديدة ينزاح على اتساع العالم قاطبة خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. طبعا هناك مدارس مختلفة في الليبرالية من الليبرالية الاجتماعية الى النيوليبرالية المنلفتة من نوع مجموعة “مدرسة شيكاغو” للاقتصاد (لكي نبسط على طريقة السيد بن حسين يمكن وصف هذه الاختلافات من مدارس تنزع أكثر نحو “القيم الجماعية” الى مدارس تنحو أكثر نحو “القيم الفردية” حسب الموضوع المطروح سواء اقتصاديا او ثقافيا). غير أنه لا يمكن لأحد، خاصة إذا كان ماركسيا، أن يحاجج لصالح فكرة أن مشروعا ايديولوجيا ليبراليا شموليا كان وراء نشأة الواقع الليبرالي الراهن. غير أن السيد بن حسين و المجموعة “الآفاقية” لا زالت تؤمن برؤية شمولية ضمن الماركسية تخلط بين ما تراه من ضرورة مقاومة الليبرالية و بين تحليل الواقع الراهن و الاعتراف بحقيقة هيمنة النظام الليبرالي عالميا من حيث التركيبتين الاقتصادية و الاجتماعية في أقل الأحوال.

و بمعنى آخر ليست الليبرالية في ذاتها رؤية شمولية بقدر ما هي صفة الواقع الراهن و لو أن ذلك لا يعني عدم وجود رؤى شمولية تنتسب لليبرالية (مثل رؤى التيار النيومحافظ أو التيار المقرب منه النيوليبرالي). و لكن الصيغة الاساسية التي يوفرها الواقع الليبرالي الراهن هي أنه يفرض ظرفية ايديولوجية عامة تسمح باهتراء الايديولوجيات الشمولية (و لكن ليس نهايتها) مقابل فسح مجال أكبر لظهور رؤى ايديولوجية أكثر تقاربا و أقل شمولية تبحث عن تحقيق ما هو ممكن (أي التركيز على شروط الظرفية السياسية) مقابل النزعة الايديولوجية الشمولية في تحقيق ما هو مرغوب و ليس ما هو ممكن.

حول “الليبرالية” و “الهوية”

يؤكد السيد بن حسين في إطار عرض موقفه من “هوية الحزب الديمقراطي التقدمي” على موقف يصر على تكراره في مناسبات أخرى كأنه من قبيل البديهيات التي لا تتحمل النقاش: ” ولكن الاشكال في الجمع بين الايديولوجيا الليبرالية التي يتبناها الاستاذ الشابي صراحة والايديولوجيا الدينية التي يتبناها ضمنيا تحت راية الهوية العربية الاسلامية هو أن القيم التي تعتمد عليها كل منهما، وان كانت متآلفة على المستوى الاقتصادي، فهي متناقضة على المستوى السياسي والاجتماعي. فالليبرالية تفرض احترام حرية المعتقد (وهو ما تنفيه كل تأويلات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) والليبرالية تفرض المساواة بين الرجل والمرآة (وهوما ينفيه صريح النص الديني “وللذكر حظ الانثيين” ) والليبرالية تفرض احترام الحرمة الجسدية (وهو ما ينفيه فرض اقامة الحدود وضرب النساء) الخ… وللتملص من هذا التناقض الذي ليس له حل منطقي، يكتفي الاستاذ الشابي باعلانه التخلي عن كل الايديولوجيات. فطريقته في معالجة هذا التناقض لهي مثل طريقة المفكّر الذي يستعصي عليه حل المشاكل المطروحة فيعلن بكل بساطة ان المشاكل غير موجودة”

و هنا لن أهتم بمسألة طبيعة الايديولوجيا التي يطرحها “الحزب الديمقراطي التقدمي” فتلك مسألة أخرى يملك منتسبو الحزب المعني أكثر مني وسائل و دواعي الرد عليها. سأركز في المقابل على “التناقض” المفترض في الجمع بين “الايديولوجيا الليبرالية” و “الايديولوجيا الدينية”. و هنا توجد مقولة بديهية يتأسس عليها خطاب السيد بن حسين و تنبع بالأساس من ايديولوجيته الشمولية التي تملك رؤية خاصة لكل من الدين و الليبرالية: و هي أن السيد بن حسين لا يمكن له تصور لا الدين و لا الليبرالية بمعزل عن مقولة الايديولوجيا. و هي رؤية يمكن أن تمثل تأويلا معينا لمرحلة مبكرة من مسيرة كل من ماركس و انجلز الفكريتين عندما كتبا (كما أشار السيد بن حسين في مقاله عند الحديث عن “تعريف” الايديولوجيا) “الايديولوجيا الالمانية” حيث تم صياغة مفهوم نقدي للفلسفة الالمانية المعاصرة (بالأساس مجموعة باور الصديق اللدود لماركس) بوصفها خاضعة لهيمنة تصورات طوباوية. و بهذا المعنى تكون الايديولوجيا تركيبا وهميا بالضرورة مفصولا عن معطيات “الواقع المادي”. و النقطة الجوهرية هنا لا تكمن فقط في أن الليبرالية أو الدين مفاهيم مغلوطة للواقع بل في أنهما ينتميان الى عوالم منتاقضة.

غير أن الإشكال الأساسي في هذه الرؤية أنها لا ترى في معطى ثقافي مثل الدين جزءا أساسيا من الواقع القائم على اعتبار أن الواقع “مادي” بالأساس. كما أنها تعتقد أن الليبرالية رؤية ايديولوجية و ليست واقعا شاملا شديد التعقيد و تشكل على مسار قرون طويلة. و لكي نأخذ مثالا يوضح القصور في فهم الظاهرتين معا نشير الى أن رؤية السيد بن حسين لا يمكن لها أن تفهم، مثلا، معنى “الحركة الاصلاحية” (reformation) البروتستانتية في القرن السادس عشر و مساهمتها في تشكل النظام الليبرالي كما برهن على ذلك بشكل أساسي منذ بداية القرن الماضي ماكس فيبر (Max Weber) في عمله المرجعي و الذي أصبح كلاسيكيا الآن “القيمة البروتسنانتية و روح الرأسمالية” (The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism). و بمعنى آخر لا يوجد هناك دين جامد كما أنه لا توجد هناك بنية دينية مفصولة عن الواقع. لا توجد “ايديولوجية دينية” في العام بشكل سرمدي. كما أن الدين ليس مجرد تصور منعكس للواقع “المادي” بل هو يتفاعل و يمكن أن يصنع الواقع بمستوياته المختلفة بما في ذلك “المادي”. للاشارة فقط هنا كانت “الحركة الاصلاحية” البروتسنانتية شديدة التزمت و لم تكن “تنويرية” في كثير من الصعد و في المقابل كانت غريمتها الكنيسة الكاثوليكية خاصة في ايطاليا القرن السادس عشر راعية تجربة النهضة آنذاك. غير أن ذلك لم يمنع كون الطرفين في أطر و ظروف معينة خدم و دفع بقوة بالبنى الليبرالية الجديدة.

و لو تقدمن في الزمن و تحديدا في التجربة الليبرالية الأمريكية من المعروف الدور الكبير الذي لعبته و لا تزال البنى الدينية في تطور و راهن النظام الليبرالي الأمريكي، و هو الأمر الذي تم تسجيله مبكرا في دراسة مرجعية و كلاسيكية أخرى لازالت صالحة الى اليوم و هي تلك التي أنجزها في النصف الأول من القرن التاسع عشر ألكسيس دي توكفيل (Alexis de Tocqueville) “الديمقراطية في أمريكا” (Democracy in America). إن “التناقض المنطقي” المفترض في ذهن السيد بن حسين لا يعني أي شيئ على مستوى واقع و تاريخ الليبرالية و ما احتوته من بنى ثقافية دينية. و حتى الآن و على المستوى الرمزي فحسب دون الغوص في تفاصيل الواقع الثقافي فإن رأس النظام السياسي الليبرالي أي الرئيس الأمريكي، ديمقراطيا كان أم جمهوريا، لا يمكن أن يختم حديثه السنوي الرسمي (State of the Union) دون قول “ليبارككم الرب” (God bless you).

و طبعا لكل مجال ثقافي خصوصياته و لن يستنسخ المجال الثقافي العربي و الاسلامي، بما في ذلك تونس، حتى و إن أراد أي كان (مثلما حاول السيد الشرفي عندما حاول بشكل تسلطي “تجفيف المنابع”) أي تجربة أخرى بما في ذلك الأمريكية أو الفرنسية. غير أن المفارقة هنا أن البنى الثقافية بما في ذلك الدينية في هذا المجال هي بالقوة التي ستحتاج مرونة غير مسبوقة لتحقيق التوافق المحتوم بين الواقع الليبرالي الطاغي آجلا أم عاجلا و بين البنى الثقافية القائمة. و بهذا المعنى ربما ستكون التجربة العربية و الاسلامية في البناء الليبرالي أقرب للتجربة الأمريكية منها للفرنسية.

و هنا يجب التوقف عند مسألة هامة يستخف بها السيد بن حسين ليلخصها في مجرد “ايديولوجيا دينية” و هي مسألة “الهوية العربية الاسلامية”. و هنا مرة أخرى من الضروري التركيز على نقطة مهمة في الخطاب الشمولي للسيد بن حسين و المجموعة “الآفاقية” بشكل عام و هي تسطيح المسألة الثقافية و جعل أكثر تمثلاتها إجماعا في الظرفية التونسية (العروبة و الاسلام) مجرد وعي “مركب” و مغلوط [1]. و هنا يتم الخلط بين مستويين: من جهة تقييم البنى الثقافية السائدة (أي مسألة “الهوية العربية الاسلامية”) بغض النظر عن التمظهرات السياسية المنتسبة لها، و من جهة أخرى التمظهرات السياسية المختلفة و التي تملك رؤى خاصة لهذه البنى الثقافية (“قوميين”، “اسلاميين”). حيث يختزل السيد بن حسين المستويين في مقولة “الايديويولوجيا الدينية”.

إن المسألة الجوهرية هنا أنه و بغض النظر عن أي حسابات تجاه أي طرف سياسي من المفترض أنه من الواضح لأي متتبع يحاول العيش في تونس الآن و فهم ظرفيتها السياسية ضرورة إدراك الدور الثقافي الغالب في تشكيل مفردات الواقع السياسي، و هي وضعية لم تكن بهذا العمق عند تشكل مجموعة “الآفاقيين” في ستينات القرن الماضي. و لا يمكن إدراك هذا العامل الثقافي النشيط دون الانتباه لبنى الهوية العربية الاسلامية. و هنا لا يتعلق الأمر بمجرد ايديولوجيا طوباوية بقدر ما هو نظام من المعتقدات الثقافية العميقة تشكل أساسيات النظام الرمزي للمجتمع. و بالمناسبة لا يمكن فهم ظاهرة “الصحوة الدينية” الراهنة من خلال انتقاء عوامل طارئة “خارجية” مثل “سيطرة القنوات الفضائية الرجعية” أو “غلق الدولة لمنابر التعبير الحر” بقدر ما هي تعبير عن معركة ثقافية حقيقية يتمثل فيها الكثيرون على الأقل، على عكس ما يعتقد السيد بن حسين، فعلا “تهديدا” للعروبة و الاسلام. و هكذا لا يمكن فهم هذه “الصحوة” دون فهم الشعور المتصاعد بهذا “التهديد” بقطع النظر عن درجته أو معناه. و في الواقع هذا هو العامل الرئيسي فيما يحصل الآن و ليس “القنوات الفضائية”. فربما الأخيرة تدفع في اتجاه “السلفية” أكثر من بقية “مدارس الهوية” و لكن البنية الثقافية الأساسية واحدة بشكل رمزي و عام أي الهوية العربية الاسلامية. و هنا يمكن للسيد بن حسين رفض هذه الهوية و الدعوة لتغييرها و لكن ليس من الناجع بالنسبة لفهمه لعالمه و واقعه أن ينكر وجودها أو أهميتها. فإنكار واقعة ثقافية و لو كانت تحوي معاني طوباوية هو تصرف طوباوي بالأساس. غير أن ذلك بالتحديد أحد مظاهر السياسة الايديولوجية: فهي سياسة طوباوية أو بشكل أكثر تحديدا سياسة غير سياسية بوصفها تنفي جدوى السياسة.

[1] الملفت أن السيد بن حسين لا يتوانى في تقديم نفسه لدواعي سياسوية على أنه “مسلم” (في إطار تفهمه على ما يبدو لعدم جدوى الدعاية الالحادية في الظرفية الراهنة، و التي أراها من حقه في جميع الأحوال) مقابل محاربته لما سماه في مرة من المرات “الاسلامية” (؟!). على العموم يحاول السيد بن حسين التشكيك في طبيعة الهوية الثقافية في تونس و خاصة العلاقة بين العروبة و الاسلام من خلال حجة يصعب على أي كان، حسب اعتقادي، أن يفهم كيف تشكل حجة دع عنك الاقتناع بها: “بالاضافة الى كون مكوّن العروبة ومكوّن الاسلام ليسا متجانسين باعتبار ان الانتماء العربي لتونس يجعلها ضمن 300 مليون نسمة ليسوا كلهم مسلمين كما أن الانتماء الاسلامي لتونس يجعلها ضمن أكثر من مليار نسمة غالبيتهم من غير العرب”.