الشهيد سحنون الجوهري 26 جانفي 1995
و ضرورة التحقيق المستقل في كل وفاة وراء القضبان
بسم الله الرحمان الرحيم
بقلم عبد الله الزواري
عرف سجن الغربة قبل أن يعرف غربة السجن، إذ شاءت الأقدار أن يعرف طريق الهجرة صيف 1981 إثر أول حملة اعتقالات موسعة يشنها النظام الحاكم ضد قيادات حركة الإتجاه الإسلامي التي لم يمض على الإعلان عن نفسها غير بضع أسابيع واستقر به المقام على أرض الدولة الإستعمارية التي سبق لها ان احتلت بلده بعد أن حكم عليه غيابيا بأربع سنوات سجنا… و هناك ابتلي بما يبتلى به كل شاب مهاجر في ريعان العمر…فاختار البطالة و لواحقها على أن يستجيب إلى داعي الشهوة المنفلت من عقاله… و هناك كذلك تعرف على رفيقة دربه و أم ابنائه فبنى بها سنة 1982 تحصينا للنفس و امتلاكا لنصف الدين عساه بذلك يتقي ربه في النصف الآخر…
و عندما فتح باب العودة إلى البلد سنة 1984 كان ضمن من آثر العودة على البقاء هناك حيث يأمن على نفسه مظالم الاستبداد السياسي و الحيف الاجتماعي مقدما مقارعة الظلمة و أعوانهم غير آبه بما يحيق بمن رفع راية أفضل الجهاد في وجه الطغاة و سلاطين الجور…
و هناك على أرض المستعمرين السابقين لم يثنه العمل من أجل رغيف الخبز عن الانخراط في العمل الجمعياتي الإنساني فانخرط في “منظمة العفو الدولية” فرع فرنسا سنة 1982… أما في تونس فقد التحق بالرابطة التونسية لحقوق الإنسان- فرع السيجومي إلى حدود 1985 ثم التحق بالهيئة المديرة في السنة المذكورة… و هنا كانت صراحته بل جرأته في تسمية الأشياء بأسمائها دون تعريض أو موارية سببا في امتعاض بعضهم منه ، و لآ ادري هنا إن كانت أصوله القبائلية ( الجزائرية) وراء طبعه…
و لا أدري أيهمﱞ البعض هنا أن أذكر أن شهيدنا تخرج أول الأمر من مدرسة ترشيح المعلمين بالمرسى سنة 1971 و كان توقه إلى التعلم حافزا له لاجتياز امتحان البكالوريا الجزائرية و تحصل عليها في جوان 1974 و لم ترفع وقتها شعارات مثل فتح الآفاق و الجامعة المفتوحة و التعليم الافتراضي… للاستهلاك الإعلامي و المزايدة، فانتسب إلى الكلية الزيتونية للشريعة و أصول الدين سنة 1975 و واصل الاشتغال في نفس الوقت بالتعليم في مدرسة خزندار الابتدائية بضاحية باردو القريبة من تونس العاصمة بعدما باشر التدريس قبل ذلك بمدرسة ابتدائية تتبع مدينة المرناقية غرب العاصمة و نال إجازة الكلية الزيتونية سنة 1979…فانتقل مدرسا إلى المعهد الثانوي بباجة… و كانت هجرته الاضطرارية مناسبة لمزيد من التحصيل العلمي فالتحق بجامعة السربون و نال منها شهادة الدراسات المعمقة سنة 1984…
و تتواصل المحن… لكن الملاحقات الأمنية التي شهدتها البلاد سنة 1987لم تفلح في الإيقاع به في شباكها على كثرتها… و استمر في نضاله اليومي متنقلا من موقع حركي/ تنظيمي إلى آخر و الحملة على الإسلامين في البلاد على أشدها صيف سنة 1987… و حدث ما حدث صبيحة 7 نوفمبر من نفس السنة… و اقتضت الضرورة اتخاذ بعض الخطوات ذات الطابع الإصلاحي و الديمقراطي لا اقتناعا بها أو إيمانا بنبلها و بجدارة التونسيين بحياة سياسية متطورة يتخلصون فيها نهائيا من الوصاية بكل أشكالها، وصاية ” المجاهد الأكبر” أو وصاية ” حامي الحمى و الدين” أو وصاية “الزعيم الملهم” و غيرها من الشعارات الممجوجة… و كانت عمليات تسريح المساجين و الموقوفين من الإسلاميين تنفيسا للاحتقان السياسي الذي عرفته البلاد ربيع و صيف سنة 1987 و محاولة لإضفاء صورة جديدة عساها تنسي الجماهير تلك الصورة التي انطبعت في مخيلتها أو في وعيها و في لا وعيها عن القيادة الجديدة التي تفتقر إلى كل الشرعيات المتفق( تماما أو في حدود) علي وجاهتها مثل الشرعية الانتخايبة او الشرعية النضالية أو الشرعية الدينية أو الشرعية العلمية…
و كان ” الترخيص” بإصدار جريدة “القجر” من جملة الخطوات التمويهية و المغالطة، و كان عملنا معا فرصة لنا لمزيد من التقارب و التعارف… فكنا نتناول غداء يومي الخميس و الجمعة معا طيلة بضعة أشهر، فيوم الخميس ( يوم ختم الجريدة و تقديمها إلى المطبعة)كنا نتناول الغداء الذي تحضره عائلة أحد أعضاء هيئة التحرير أو الإداريين بمقر الجريدة حرصا على الوقت و على مواكبة ما يمكن أن يستجد في الساعات الأخيرة و سيف الرقابة مشرع على كل عدد من أعداد “الفجر”.. أما يوم الجمعة فعادة دأبت عليها عائلة “آل الجوهري” وهي اجتماع شمل “الإخوة الجوهري” لتناول الغداء معا و كنت أنزل ضيفا عليهم سعيا مني لتناول أكلتي المفضلة معهم…
و في ” الفجر” احتكر شهيدنا – أو يكاد- ركنا قارا من الصفحة الأخيرة بعنوان ’ بالسواك الحار”… و لعل في اختياره لهذا الركن و لهجته و لغته بعد آخر من طبيعة شهيدنا أو ما سبق أن قلت ” صراحته” أو جرأته في تسمية الأشياء باسمائها…
و “تطير السكرة” و تغلق ” الفجر”….. و بدأت ملامح الخطة التي أعدتها السلطة لضرب ” حركة النهضة” و استئصالها تتبلور شيئا فشيئا و بدأت مراحلها تتسارع…و اتسعت حملة الاعتقالات… و تشاء الأقدار أن بلتحق بي شهيدنا في دهليز وزارة الداخلية بعد ثلاثين يوما من إيقافي…( قبض على شهيدنا يون 23 مارس 1991)…
و تتواصل رحلتنا معا بعد مرحلة الداخلية و التعذيب المتواصل نلتقي من جديد في الزنزانة 6 مع كل من أخينا الصادق شورو عبدالكريم المطوي و ….و من سجن العاصمة ننقل معا إلى سجن الناظور لنقضي هناك تسعة أشهر…
و نفترق….
و بعد سنوات من العزلة المغلظة يسألني أحد إخواني إن كان لي علم بحال سحنون فأجيبه بأنا افترقنا منذ 1992 فيرد بأن إشاعة تزعم أنه استشهد بسجن العاصمة…استشهد أم لم يستشهد في حاجة إلى إثبات أو نفي و من أين لي بذلك و المرء منقطع تماما عن العالم الخارجي بل عن عالم السجن الداخلي و لم تترك الإدارة سبيلا لتغليظ العزلة إلا سلكته … و بقي الشك سيد الموقف إلى أن نقلت إلى سجن العاصمة قادما إليه من سجن بنزرت المدينة ذات يوم من جويلية 1997…و اقتضت الإجراءات أن أدخل دهليز السجن المدني بالعاصمة في الجزء المخصص لحفظ أمتعة المساجين المحجوزة، و على رف من رفوف الغرفة الداخلية للدهليز استرعى انتباعي وجود حقيبة رياضية ذات لون أخضر كتب عليها بخط غليظ ” سحنون الجوهري”… فتسارعت دقات القلب محدثا نفسي أن أمرا قد حدث… و تأكد الأمر بعد ذلك…
و الموت في السجن- خصوصا في تلك السنوات البائسة- لا بد أن يكون للإدارة دور ما فيه…إما تحت التعذيب المباشر و لعل شهييدنا المولدي بن عمر و عزالدين بن عائشة ابرز أمثلة ذلك، و إمابفعل تعسفها و تجاوز حدودها و لعل رضا الخميري و عبدالوهاب بوصاع من أبرز الأمثلة في هذا الإطار، أو بفعل الإهمال الصحي و حدث عن البحر و لاحرج و الأمثلة عديدة و لعل من أوائلها شهيدنا ” سحنون”…
و يمكنني أن أقول إن كل وفاة في السجن هي وفاة مشبوهة إلى إن يثبت الطبيب الشرعي الذي ترتضيه عائلة المتوفى عكس ذلك…لذلك يكون من صلب مشاغل المنظمات و الجمعيات الحقوقية و الإنسانية الكشف عن ظروف كل وفاة داخل السجون بقطع النظر عن السجل الجنائي للمتوفى …
استهل ” سحنون” صارخا يوم 21 أكتوبر 1953 و في شهر الانتفاضات (الإضراب العام و أحداث قفصة و انتفاضة الخبز و أحداث سليمان ) و في يوم الخميس السادس و العشرين منه انتفض “سحنون” و استيقظ بعد نوم دام احدى و أربعين سنة و ثلاثة أشهر و خمسة أيام…
إن وفاءنا لمن سبقنامن المناضلين يفرض علينا أن نجدﱠ في إعادة الاعتبار لهم و لعل من ابرز ذلك الكشف عن ظروف وفاتهم مستبعدين التقارير الطبية ذات الصبغة الإدارية لانتفاء الثقة – مع كل أسف- في ” طبيب الإدارة” و نحن الذين رأينا “طبيب الإدارة” يساهم في التعذيب سواء مباشرة أو بتوجيه الجلادين و تحديد مدى قدرة المناضل على تحمل التعذيب… و هذا يفرض علينا أن نحمل – بكل حب و مودة- منظماتنا الحقوقية ذات المصداقية مثل الرابطة و المجلس و الجمعية مهمة التحقيق المستقل في كل وفاة داخل السجون و ما لا يدرك كله لا نتغافل عن جله و من هذا “الجل” جمع شهادات كل من كان قريبا ممن توفي عسانا بذلك نؤدي بعض حقهم علينا …
ســــــــــــــلام عليك “سحنون” في عليين، و ها هم أبناؤك/ ابناؤنا، عطاءالله و أمان الله و سلسبيل ينظرون إلينا نظرة عتاب و يصرخون: “ماذا فعلتم بعد أبينا؟؟”
فماذا تراك تجيب ؟؟؟
و السلام
26جانفي 2007
عبدالله الزواري
iThere are no comments
Add yours