بقلم : سليم بوخذير*
إذا صدقت الروايات في تونس – و التي مازالت تُحظى بتشكيك البعض- حول موضوع الإشتباكات المسلّحة التي عاشتها الضواحي الجنوبية للعاصمة التونسية بين قوات الأمن و مسلحين خلال الأسبوع الأخير من العام المنقضي ، من أنّ الذين واجهتهم قوات الأمن كانوا “سلفيين جهاديين” تونسيّين ، و ليسوا عصابة مخدّرات و تهريب سلاح كما جاء في الرواية الأولى التي كانت أعلنتها المصادر الرسمية التونسية للصحف شبه الحكومية . فإنّ ذلك يُعدّ إنباء خطيرا بظهور شكل جديد تماما عن الحياة السياسية في البلد من أشكال الإسلام السياسي ، هو إسلام سياسي يُمارس العنف .. و هو أمر لم تألفه من قبل الظاهرة الإسلامية في تونس بتاتا سواء مع أهمّ حركات الإسلام السياسي في تونس (“النهضة”) أو مع غيرها من الحركات ، كما لم يألفه المجتمع التونسي ككلّ في أيّ مرحلة من تاريخه المُعاصر، ممّا يُؤشّر بجديّة على تطوّر لافت بل و مُفزع للبعض من دارسي تاريخ ظاهرة الإسلام السياسي في تونس .
لنُوضّح أوّلا أنّ بعض دُعاة الإعتدال و الوسطيّة من رافعي الخطاب الديني في تونس و من غيرهم ، مازالوا يرفعون تشكيكات في أمر الروايات المُعلنة عن تورّط تيار سلفي في تونس في الأحداث المسلّحة الأخيرة ، ذلك أن الحكومة لم تستجب لمطلب عديد الهيآت المدنية التونسية بعقد مؤتمر صحفي لوزير الداخلية يُقدّم فيه مجمل تفاصيل ما جرى و الأهم يُقدّم مُجمل الإثباتات على أنّ المعتقلين كانوا فعلا “سلفيين جهاديين” و من تونس ، كما لم تُُقدّم الحكومة أي تبرير لعدم قبولها بهذا المطلب، رغم إعلان وزير الداخلية بشكل مقتضب في ندوة للحزب الحاكم أن المسلحين كانوا سلفيين . . و هذا الأمر (أي عدم تقديم إثباتات و تفاصيل ما جرى) وجده البعض مُبرّرا لعدم مبادرة عديد الاطياف السياسية إمّا المحسوبة على التيار الإسلامي في البلد أو حتّى من غير التيار الإسلامي ، بإدانة ما جرى لعدم ثبوت ما جرى أصلا من وجهة نظرها .
لكنّ رغم هذه التشكيكات ، فإنّ تظافر الروايات من عديد الجهات المشهورة بالإستقلالية عن أنّ الذين رفعوا السلاح في آخر أسبوع من العام المنقضي ، كانوا فعلا ممّا يُعرف بالتيار السلفي الجهادي ، يجعلنا نقف أمام حقيقة جديدة لم يتوقّعها المُحلّلون من قبل ، و نعني حقيقة إفراز المجتمع التونسي أخيرا و لأوّل مرّة في تاريخه ، لإسلام سياسي جديد يُؤمن بمُمارسة العنف كشكل للتعامل مع الحكومة ، و هو أمر يستحقّ الكثير من الإهتمام و الدراسة و قد يُؤشّر إلى منعطف أكثر خطورة قد يعرفه مستقبل الحياة السياسية في تونس و الحياة العامّة ككلّ إذا لم توجد الحلول المُثلى لهذه الظاهرة الجديدة التي من الواضح أنّها تأتي لا لتختلف مع الحكومة لوحدها و إنّما مع كلّ أطياف الساحة السياسية في البلد المعروفة -دون إستثناء- برفضها للعنف .
لقد عرفت تونس الإسلام السياسي في تاريخها المعاصر لأوّل مرّة في أواخر السبعينات من القرن الماضي بعد إستقلالها عن الإستعمار الفرنسي في عام 1956 ، عند بداية تشكّل أوّل حركة سياسية تونسية تتّخذ من الدين إيديولوجيا لها في فترة كانت الإيديولوجيات العلمانية هي المُسيطرة على الأجيال الطلابية و العلمية في تلك السنوات بالبلاد ، أي أن عُمر الإسلام السياسي في تونس قد فاق الآن ثلاثين عام . . و مع ذلك لم تظهرضمن سياقاته أي مُحاولات منه لممارسة العنف سابقا على مدى العُقود الثلاث الماضية.
كانت الحركة الإسلامية التي بدأت في التشكّل في تلك الأعوام و في التعبئة في المساجد و كذلك في فضاءات أخرى كالجامعة و كواليس المؤسسات العمومية ، مجهولة الإسم وقتها و سرية و لكن مع عام 1981 إنتهت إلى العلنية و أعلنت بيانها الأول الرسمي مُطلقة على نفسها إسم حركة “الإتجاه الإسلامي” و قد تحوّلت في أواخر الثمانينات من القرن إلى حمل إسم جديد هو حركة “النهضة” . . و بالتوازي مع هذه الحركة التي نجحت في إستقطاب أعداد هائلة من المواطنين في سنوات الثمانينات ظهرت حركات إسلامية أخرى ظلّت ذات أقلّية ، منها ما عُرف في الثمانينات ب “حزب التحرير” .
و قد أولد ظهور حركة “الإتجاه الإسلامي” وقتها وضعا جديدا في تاريخ التديّن في تونس المُعاصرة ، إذ لأوّل مرّة يُصبح لنا كُتلتان من المتديّنين : كتلة المتديّنين العاديين التقليديّين الذين يُمارسون شعائرهم الدينية بإنتظام لكنّهم لا يمارسون السياسة و لا يضعون علاقة بين الدين و السياسة كما أنّهم لا يُخالفون التشريعات ذات المرجعيّة العلمانية التي أدخلها الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة لاسيما فيما يخصّ مُدوّنة الأحوال الشخصية التونسية ، و الكتلة الثانية (الجديدة وقتها) و هي كُتلة المُتديّنين الذين يضعون إرتبطا وثيقا بين الدين و السياسة ( المُنتمين إلى “النهضة” أو غيرها) و يتبنّون المُطالبة بأن تكون مرجعيّة التشريعات في البلد هي الدين أساسا و ليس شيئا آخر .
و رغم مُواجهة السلطة لهذه الكتلة من المتدينين بإخضاع حركة “الإتّجاه الإسلامي” (“النهضة” بعد ذلك) إلى محاكمات وُصفت ب”القاسية” ، في مناسبتين في الثمانينات (سنتي 1983 و 1985) ، إلاّ أنّ ذلك لم يدفع هذه الحركة ذات العدد الكبير وقتها إلى التفكير في إستعمال العنف كحلّ للتعامل مع السلطة .
و حتّى عندما جرت أوسع عملية إعتقالات و محاكمات لهذه الحركة في عاميْ 1990 و 1991 ، لم تطرح هذه الحركة العنف كردّ على ما جرى .
فإذن العنف ظلّ غريبا تماما على ظاهرة الإسلام السياسي في تونس ، رغم كلّ المُغريات التي كان يمكن أن تؤدّي بها إليه في أوائل التسعينات مثلا ، من ذلك إمتلاكه للقوّة العدديّة وقتئذ و لجوء حركات إسلامية في بلدان مُجاورة و لها إرتباطات تاريخية مع الحركات التونسية إلى العنف و نعني خاصة الحركة الإسلامية في الجزائر . .
و يمكن القول إنّ العشرية التي أتت بعد تلك المحاكمات و التي عصفت تماما بالقوّة العدديّة للإسلام السياسي في تونس ، قد أولدت غلبة من حيث العدد للكتلة التقليدية من المتدينين في البلد و نعني المتدينين غير المُسيّسين إذا ما إعتبرنا حجم الأعداد الكبيرة من المتدينين المُسيسين الذين لحقتهم المحاكمات ، لكن مع ذلك ظلّت الكتلة الثانية موجودة و مُحافظة على ذات ملامحها المُعادية للعنف .
و بدخول البلاد السنوات الأولى من القرن الجديد ، بدأ المجتمع التونسي في إفراز كُتلة جديدة ذات أقلية عدديّة بالغة ، و نعني بداية الحديث عن “مُتشيّعين” في تونس و هؤلاء أيضا يُعتبرون بدورهم شكلا من أشكال الإسلام السياسي بإعتبارهم في أدبياتهم يضعون بكلّ وضوح إرتباطا بين الدين و السياسة و لكنّ بأشكال مُخالفة لأشكل حركة “النهضة” ذات المرجعية السُنّية .
هذه الكتلة الجديدة من المُتدينين (الشيعة) فاجأت في الحقيقة عديد المُلاحظين الذين لم يتوقّعوا يوما أن يُصبح هناك متشيّعون في تونس ذات التقاليد السنيّة الضاربة في القدم ، لكن الذي فاجأ المُلاحظين أكثر ، هو أن السلطات في تونس لم تلجأ إلى الإصطدام مع هذا الشكل الجديد من الإسلام السياسي في البلد – و هو أمر يحدث لأوّل مرّة في علاقتها بالإسلام السياسي – ، بل على العكس هي سمحت به و أشّرت على رغبة دُعاته في مزيد التعبئة و قد سمحت الحكومة في تونس في السنوات الثلاث الأخيرة بجمعية لهؤلاء الدُّعاة من المُتشيّعين هي جمعية “آل البيت” ، و هو ما جعل بعض التأويلات تسير بإتجاه ربط هذ السماح بالتشيّع بالتقارب التونسي الإيراني المتواصل خلال السنتين الأخيرتين .
و لكن و مثلما فاجأ ظهورهذا الشكل الجديد من الإسلام السياسي في تونس كبار المُحلّلين ، فاجأهم أيضا ظهور شكل آخر كُشفت الأدلّة على وجوده في البلد خلال الأحداث المُسلّحة الأخيرة ، و نعني تيّار “السلفيين الجهاديين” ، و الذي يتميّز عن أي شكل سابق من أشكال الإسلام السياسي في تونس ، بإيمانه بالعنف كشكل للعلاقة مع الحُكم . .
إنّه الصنف الجديد في تونس من الإسلام السياسي و لا شكّ أن الحلّ الأسلم للتعامل معه هو الإهتداء إلى أسباب ظهوره و العوامل التي ساعدته على الإنتشار و مسؤولية السلطات التونسية بفرضها لحالة مطلقة من الإنسداد السياسي في البلد و خنق كلّ الحريات عن بروز نماذج جديدة من الشباب تؤمن بخيار العنف ، و الإستناد إلى الخبراء السوسيولوجيين و النفسيين لدراسة الحلول العلمية العاجلة لحماية الشباب من أخطار تبنّي طروحات العنف كشكل خطير و مرفوض من أشكال التعبير عن الإختلاف و لِم لا إعطاء الأحقّية في الوجود للإسلام السياسي المألوف في تونس الذي يرفض العنف لسدّ المنافذ أمام دُعاته .
فعند إعطاء هذا التطوّر الجديد الذي طرأ على ظاهرة الإسلام السياسي ما يستحق من الدراسة و المُعالجة ، يُمكننا أن نُجيب على السؤال الكبير : ما الذي جعل خطر إستعمال العنف يتسرّب فجأة إلى ظاهرة الإسلام السياسي في تونس ؟ و هل بدأنا فعلا إزاء موسم هجرة الجيل الجديد من الإسلام السياسي إلى . . عالم العنف؟
• كاتب و صحفي تونسي
المصدر: صحيفة الوطن
iThere are no comments
Add yours