بسم الله الرّحمان الرّحيم
و الّصّلاة و السّلام على النّبيّ الصّادق الأمين
قال الله تبارك و تعالى:”ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره به ليسجننّ و ليكونا من الصّاغرين.قال ربّ السّجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه” صدق الله العظيم
تونس في 27 ذو الحجّة 1428 – 5 جانفي 2008
إثر خروجي من السّجن يوم الإربعاء 7 نوفمبر 2007 بموجب سراح شرطيّ إلى 8 نوفمبر 2009 و بعد أقلّ من شهر، استقبلت فيه أنا و عائلتي عددا كبيرا من الزّوّار و المهنّئين و عددا أكبر من الإتّصالات الهاتفيّة من مختلف مناطق البلاد و من عد يد بلدان العالم و بالتّحديد يوم 3 ديسمبر 2007 قدم إلى بيتنا رجل شرطة بزيّ مدنيّ مبعوثا من رئيس مركز الشّرطة” 5 ديسمبر” بالكرم الغربي و طلب منّي الحظور إلى المركز لتسلّم وثيقة فطلبت منه احترام القانون بتسليمي استدعاء رسمي بدونه لا يمكنني الحظور. فوعد بذلك إلا أنّي فوجئت صباح الغد بقدوم فرقة من أربعة أعوان من الشّرطة التّابعة لمنطقة الشّرطة بقرطاج بزيّ مدني فسألوني عن سبب رفضي للحظور إلى المركز و أكّدوا أنّ الأمر لا يتجاوز تسليمي وثيقة للإعلام بالسّراح الشّرطي. عبّرت لهم عن استيائي من الإدّعاء بأنّي رفضت الحظور و الحال أنّي طالبت باحترام القانون فأقرّوا بحقّي في الحصول على استدعاء رسمي لكنّهم ذهبوا و لم يعودوا.
يوم 15 ديسمبر 2007 توجّهت إلى مركز الشّرطة لتقديم الأوراق اللازمة للحصول على بطاقة التّعريف الوطنيّة و إذا بنفس الفرقة من منطقة قرطاج استغلّت الفرصة لمقابلتي. و قد وقع إعلامي بوثيقة بإمضاء وزير الدّاخليّة و المدير العامّ للسّجون تنصّ على أنّي محكوم بالسّجن لمدّة 5 سنوات و نصف و بالمراقبة الإداريّة لمدّة عامين من قبل محكمة الإستئناف بتونس بتاريخ 19 ديسمبر 1995 و أنّي مطالب بالإمضاء يوميّا في مركز الشّرطة لمدّة عامين أي إلى حدّ نوفمبر 2009 رغم أنّي حوكمت قبل ذلك في المحكمة العسكريّة في أوت 1992 بنفس التّهمة :”الإنتماء إلى جمعيّة غير مرخّص فيها” و على نشاطي في حركة النّهضة منذ خروجي من السّجن في خريف 1988 و أنّي طالبت القاضي بإلغاء هذا الحكم نظرا لاتّصال القضاء فطلب منّي إحظار نصّ الحكم الصّادر عن المحكمة العسكريّة كشرط لذلك، الأمر الّذي استحال عليّ بحكم وجودي في السّجن و رفض تسليم نصّ الحكم إلى المحامي. و قد عانى عديد المساجين السّياسيّين الإسلاميّين من رفض القضاة بالحكم باتّصال القضاء و إسقاط الأحكام المكرّرة في نفس التّهم، و ما نتج عن ذلك من بقائهم في السّجن فترة أطول من الحكم الأصلي المسلّط عليهم رغم مطالبتهم و عائلاتهم و محاميهم و عديد المدافعين عن حقوق الإنسان داخل البلاد و خارجها لرفع هذه المظلمة ممّا إضطرّ البعض منهم إلى الدّخول في اضرابات عن الطّعام للمطالبة بإطلاق سراحهم معرّضين بذلك حياتهم للخطر.
أجبتهم بأنّي أحتاج إلى استشارة محامي قبل الرّدّ على طلبهم حتّى يتبيّن لي حكم القانون في المسألة و أنّ ذلك يتطلّب بعض الوقت نظرا لتواجد محاميّ الأستاذ محمّد النّوري في موسم الحجّ فلم يمانعوا و أكّدت لهم أنّي ملتزم بالقانون و لا أخشى تطبيقه.
يوم 29 ديسمبر 2007 قدمت فرقة الشّرطة بمنطقة قرطاج إلى البيت للسّؤال عنّي فأجابتهم أختي هند بأنّي لست في البيت فسألها أحدهم هل قضّيت ليلة أمس بالبيت وتمسّكت بنفس الإجابة أي أنّي لست بالبيت فانسحبوا دون أن يتركوا استدعاء رسميّا. ثمّ عادوا صباح يوم الإثنين 31 ديسمبر 2007 فخرجت لمقابلتهم أمام باب البيت فأعلموني بأنّ بطاقة التّعريف الوطنيّة جاهزة و يمكنني تسلّمها من مركز الشّرطة ثمّ سألوني عن ردّ المحامي و بأنّ المحكمة تنتظر جوابا منّي و الحال أن لا دخل للمحكمة في الموضوع .أعلمتهم أنّي ذاهب إلى مركز الشّرطة بطبيعتي لتسلّم بطاقة التّعريف الوطنيّة و إطلاعهم على ردّ المحامي فانسحبوا. ذهبت في نفس اليوم إلى مركز الشّرطة لأجد أعضاء الفرقة عند الباب فأعلمني أحدهم بأنّ المكلّف بتسليمي بطاقة التّعريف لم يأت بعد و طلب منّي الإنتظار داخل مركز الشّرطة فرفضت و بقيت أنتظر خارج المركز إلى أن حظر رئيس المركز و معه المكلّف بتسليم البطاقة.دخلت المركز و تحصّلت على بطاقتي الّتي أصرّت الإدارة ممثّلة في العمدة على أن تتدخّل في تحديد هويّتي على مستوى المهنة بأنّي “عامل يومي” بدعوى أنّي مهندس أوّل في الهندسة المدنيّة غير مباشر للعمل من ناحية و أنّ التّسجيل في البطاقة بهذه الصّفة يجعلني مطالب بدفع الضّرائب من ناحية أخرى و لمّا تمسّكت بأن تكون هويّتي المهنيّة مطابقة للواقع أي “عاطل عن العمل” أو”لا شئ” رفض العمدة ذلك باسم الإدارة و هذه المعاملة الغريبة شملت كافّة الوضعيّات المشابهة من المسرّحين و لعلّ ذلك شكل من أشكال مقاومة البطالة و التّخفيف من نسبتها المرتفعة في مجتمعنا و عدم الإعتراف بوجود عاطلين عن العمل لأسباب سياسيّة. و قس على ذلك وضعيّة الخرّيجين من الجامعة المتحصّلين على شهادة عليا و العاطلين عن العمل.
ثمّ وقّعت على محظر إعلام بتسليمي لنسخة من وثيقة قرار السّراح الشّرطيّ الصّادر عن وزير العدل و حقوق الإنسان بحظور نفس فرقة الشّرطة بمنطقة قرطاج الّتي قدمت إلى البيت . هذا القرار الّذي يستند إلى الفصل 353 و ما بعده من مجلّة الإجراءات الجزائيّة و الّذي ينصّ على:” يمكن أن يتمتّع بالسّراح الشّرطي كلّ سجين محكوم عليه بعقوبة واحدة أو عدّة عقوبات سالبة للحرّيّة إذا برهن بسيرته داخل السّجن عن ارتداعه أو إذا ما ظهر سراحه مفيدا لصالح المجتمع” ولست أدري على أيّ سبب منهما إعتمد وزير العدل و حقوق الإنسان في قراره ؟ أم أنّ هناك أسبابا أخرى غير معلنة؟
كما أشار الفصل 354 إلى:” وتكون مدّة الإختبار15 عاما بالنّسبة للمحكوم عليهم بالسّجن بقيّة العمر”. فماذا بقي بعد كلّ هذا من حاجة إلى المراقبة الأمنيّة تحت غطاء المراقبة الإداريّة ؟
أمّا عن ردّ المحامي فقد بيّنت لهم أنّه استغرب دعوتهم لي للإمضاء بعد حكم بالسّجن مدى الحياة و قضاء 16 سنة كاملة واعتبر أنّ المطلوب هو تيسير إندماجي في الحياة الإجتماعيّة و استرداد حقوقي المدنيّة و السّياسيّة لا تعطيل حياتي بإجراء لا ينصّ عليه القانون ثمّ عبّرت على أنّي مقتنع بموقف المحامي و أعتبر الإمضاء لدى الشّرطة إجراء غير قانوني لا يهدف إلى المراقبة و إنّما إلى أشياء اخرى. فحسب الوثيقة الّتي طلب منّي الإمضاء عليها اعتبرت وزارة الدّاخليّة أنّ المراقبة الإداريّة المسلّطة عليّ تكون بضرورة الإعلام عن مقرّ إقامتي ثمّ الإمضاء اليومي بمركز الشّرطة و الحال أنّ الفصل الأوّل من المجلّة الجزائيّة ينصّ صراحة على أنّه :” لا يعاقب أحد إلا بمقتضى نصّ من قانون سابق الوضع لكن إذا وضع قانون بعد وقوع الفعل و قبل الحكم الباتّ و كان نصّه أرفق بالمتّهم فالحكم يقع بمقتضاه دون غيره “.
و المراقبة الإداريّة عقوبة يصنّفها القانون من بين العقوبات التّكميليّة و بالتّالي فإنّه على الإدارة أن تلتزم في تنفيذها بنصّ القانون و الّذي جاء فيه في الفصل 23 من المجلّة الجزائيّة:”يخوّل الحكم بالمراقبة الإداريّة للسّلطة الإداريّة حقّ تعيين مكان إقامة المحكوم عليه عند انقضاء مدّة عقوبته و تغيير مكان إقامته كلّما رأت ضرورة لذلك” الأمر الّذي يؤكّد أنّ فرض الإمضاء في مركز الشّرطة أو غيره من محلات الشّرطة إجراء لا ينصّ عليه القانون بل و لا ينسجم مع روحه لما فيه من التّضييق و حتّى الإهانة بما يعيق مادّيّا و معنويّا إندماج المسرّح من السّجن في الحياة العامّة و يبقيه في حالة من الخوف وعدم الإستقرار النّفسي و الإجتماعي و ما لذلك من انعكاسات خطيرة عليه و على أسرته و على المجتمع و قد عانى آلاف المساجين و السّجينات السّياسيّين الإسلاميّين في قضيّة حركة النّهضة و عائلاتهم على امتداد أكثر من عقد و نصف من الزّمن من هذا الإجراء التّعسّفيّ الّذي بلغ حدّ فرض الإمضاء مرّات عديدة في اليوم الواحد و ما صاحب ذلك من تجاوزات خطيرة للقانون و لسلطة الإدارة بفرض مواصلة الإمضاء حتّى بعد انقضاء مدّة الحكم بالمراقبة الإداريّة و الّذي بلغ ال 5 سنوات كما فرض الإمضاء على من ليس محكوما أصلا بالمراقبة الإداريّة بما في ذلك من حوكم بالسّجن مدى الحياة. كما سلّط هذا الإجراء التّعسّفي حتّى على النّساء. حتّى أنّ البعض منهم أصبح يفضّل الإقامة في السّجن على هذه المعاملة القاسية و المهينة و الّتي تضاف إلى التّضييق على المسرّحين في طلب الرّزق و السّعي إلى العلاج ومواصلة الدّراسة و مساعدة العائلة و خدمة البلاد. فتحوّلت المراقبة الإداريّة بهذه الطّريقة إلى حلقة من حلقات مسلسل الإعدام البطئ للإسلاميّين بعد حلقة السّجن أنا أسمّيه “الإعدام الإجتماعي”. كأنّ السّجن لم يعد كافيا للتّدمير المادّي و المعنوي للمعتقلين بسبب آرائهم و مواقفهم السّياسيّة و لعائلاتهم و حتّى يصبح استرداد حقوقهم المدنيّة و السّياسيّة و الإجتماعيّة أي حقوق المواطنة حلما غير قابل للتّحقيق في القريب أو البعيد. إنّ هذه المظلمة الكبيرة الّتي عانت منها البلاد و العباد تحت عنوان المراقبة الإداريّة هي مظهر من مظاهر سياسة السّلطة في استعمال القانون بتأويل بعيد لتبرير إعطاء الإدارة صلوحيّات أوسع ممّا يسمح لها به القانون على حساب حقوق المواطن و حرّيّته و كرامته بدعوى الحفاظ على الأمن و الاستقرار..
بناء على ما تقدّم ، أعلمتهم بأنّه لا يمكنني الخضوع للإجراء الدّاعي إلى الإمضاء لدى الشّرطة. مضيفا أنّه إذا كان هناك ندم على إطلاق سراحي من السّجن فليعيدوني إليه لأموت فيه حرّا كريما. و في الختام، توجّهت إليهم بطلب واحد أن لا يأتوا مستقبلا إلى البيت لأنّ في ذلك مضايقة لي و لعائلتي الّتي عانت الويلات طيلة 17 سنة و لا أقبل أن تتواصل هذه المعاناة. و ذكّرتهم بأنّي فقدت والدتي رحمها الله و أنا سجين و هو أمر عظيم فتدخّل أحدهم قائلا إنّ الأجل بيد الله فأجبته انّ ذلك صحيح و لكنّه لا ينفي مسؤوليّة البشر على أفعالهم و إلا فعلينا إطلاق سراح كلّ الّذين تورّطوا في قتل الأرواح بدعوى حظور الأجل و أنّ والدي حفظه الله متقدّم في السّنّ وصحّته لا تتحمّل مزيدا من الضّغط. و في كلّ الحالات فإنّ البيت مراقب و الهاتف مراقب و الإنترنت مراقب فالمراقبة الأمنيّة حاصلة و باستمرار و أنّ القانون يعطيكم فقط الحقّ في معرفة مقرّ إقامتي ثمّ انصرفت و قد لفتّ انتباههم إلى أنّه ليس لي مشكل شخصي معهم كأفراد فلا هم أدخلوني إلى السّجن و لا هم أخرجوني منه و أنّ الحديث في هذا الأمر يتمّ مع المعنيّين به.
و أكّدت لهم على ضرورة احترام القانون بتوجيه استدعاء رسميّ عند الإقتضاء مع التّنصيص على موضوع الدّعوة . فليس من مصلحة البلاد و لا من مصلحة جهاز الأمن نفسه أن يصبح اختطاف المواطن من بيته أو من عمله أو من الجامعة أو من الشّارع قاعدة في التّعامل. فالقانون فوق الجميع مهما كانت صفتهم و في احترامه مصلحة للجميع.
يوم الإربعاء 2 جانفي 2008، قدم إلى بيتنا شخصان من” إقليم تونس” و من” أمن الدّولة” للسّؤال عنّي و طلبا الدّخول إلى المنزل قصد الحصول على إرشادات و في غيابي، فاعترضت شقيقتي هند وكذلك والدي عمر على ذلك لعدم و جود إذن قضائيّ وأكّدا لهما على إرسال استدعاء رسميّ مع تحديد الموضوع. و بعد إلحاح منهما انصرفا دون ترك استدعاء.
أرجو أن يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ حتّى أتفرّغ للعمل على تسوية وضعيّتي الإجتماعيّة و استرداد حقوقي المدنيّة و السّياسيّة في أقرب الآجال و أفضل الأحوال حتّى أكون أقدر على المشاركة في خدمة أسرتي و شعبي و بلادي و أمّتي و الإنسانيّة على قدم المساواة مع كلّ التّونسيّين و التّونسيّات.
و كما كانت سنة 2005 سنة الإستجابة لمطالبة المساجين السّياسيّين الإسلاميّين و عائلاتهم و المنظّمات الحقوقيّة و الإنسانيّة و الأحزاب السّياسيّة و وسائل الإعلام الحرّة داخل البلاد و خارجها بإلغاء العزلة الإنفراديّة بصفتها وضعيّة غير قانونيّة و غير إنسانيّة، و قد تمّ ذلك يوم 20 أفريل 2005 و تزامن مع انعقاد ندوة حقوقيّة هامّة في المقرّ المركزي للرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان . فإنّي أدعو السّلطة إلى المبادرة بأن تكون سنة 2008 سنة إلغاء العمل بإجراء الإمضاء في محلات الشّرطة ضدّ المحكوم عليهم بالمراقبة الإداريّة أو غيرهم كخطوة أولى على طريق رفع كافّة أشكال المضايقة الأمنيّة و الإجتماعيّة الّتي عانى و يعاني منها آلاف المساجين و المسرّحين و المغتربين و عائلاتهم و الّذين يمثّلون جزءا هامّا و مؤثّرا من المجتمع التّونسي. كما أنّي أرجو أن يمثّل رفع الحصار الأمني عن المقرّ المركزي للرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان خطوة أولى في اتّجاه رفع الحصار عن كلّ المقرّات و البيوت و الأشخاص بدون استثناء لإشاعة مناخ من الأمن الحقيقيّ في البلاد و الطّمأنينة في قلوب النّاس بما يساعد على تفرّغ الجميع مهما اختلفت آراؤهم لمعالجة القضايا الحقيقيّة للبلاد.
قال الله تبارك و تعالى:” إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت و إليه أنيب” صدق الله العظيم
أخوكم و صديقكم عبد الكريم الهاروني الأمين العام الأسبق للاتّحاد العام التّونسي للطّلبة و السّجين السّياسي السّابق في قضيّة حركة النّهضة.
iThere are no comments
Add yours