بقلم: الأستاذ منير العـوادي

تونس: 7 أفريل 2010

يندرج هذا العـمل في إطار تصور يرى أنّ النظرة المتفحصة للماضي، بما فيه من أخطاء وهزائم، وبما فيه أيضا من حقائق وانتصارات، تمكّن من تعـميق نظر الباحث في القضايا الأساسية الراهنة.

وإننا إذ ندعـو إلى تسليم الراية للأجيال الجديدة، فإننا نحرض هـذه الأجيال عـلى أن لا تدخر جهدا حتى تكون عـلى بيّنة ودراية بما حدث في تاريخ الحركة الطلابية وأن لا تثنيها عـمليات الطمس والتشويه عـن السعي للوعي بما وقع فعلا دون تضخيم أو استنقاص، ثم لها بعـد ذلك أن تأخذ من هذا الرصيد ما تراه مفيدا، إن كانت له إفادة أصلا، أو أن تلقي به جانبا وأن تخوض تجربتها الخاصة إن ارتأت ذلك.

في هذا السياق تأتي دراستنا لحركة فيفري ولما ترتب عـنها في حينها وفي تاريخ الحركة الطلابية التونسية.

أولا: حركة فيفري 72: الوقائع والعـبر

لئن تمكن النظام منذ سنة 1956 من إفراغ الإتحاد العام لطلبة تونس من مضمونه الأصلي كأداة للنضال من أجل التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، بعـد أن جعـل منه ــ ومن هياكله القيادية بالخصوص ــ إطارا للارتزاق والوصولية،فإنّه سيجد نفسه، بداية من أوائل سبعـينات القرن الماضي، في حالة عجز عـن توجيه الحركة الطلابية والتأثير فيها، كما سيصبح طلبة الحزب الحاكم مطاردين ومنبوذين في المؤسسات الجامعـية، وغـير قادرين عـلى إعـلان هويتهم السياسة عـلنا.

لقد مثلت الانتفاضة الطلابية في فيفري ذروة التعـبير عـن رفض الحركة الطلابية واستنكارها الشديد لاختيارات السلطة وممارساتها، فكانت بحق لحظة فارقة في تاريخ الحركة الطلابية، لحظة اقترن فيها إنبجاس الفكر بتحرر الإرادة. إنّها فعـل إبداع في مستوى الرؤية والممارسة وتعـبير عـن عـبقرية الجماهير الباسلة حينما تختار طريق الهمة والفتوة والمساهمة بقوتها ووحدتها في تدبير شؤونها ورفض كـل أشكال المهانة والمذلة.

هناك حدثان مباشران مهدا لحركة فيفري72:

ــ الأوّل هو طرد الطالب فريد بن شهيدة المرسم بالسنة الأولى بكلية العـلوم بتونس لمدة سنة، بعـد مثوله أمام مجلس التأديب بسبب “موقفه الماس من كرامة أستاذة تونسية”. وقد شنّ طلبة كلية العـلوم يوم 21 جانفي 72 إضرابا عاما عـن الدروس للمطالبة بإرجاعه فورا.

ــ والثاني هـو البدء في محاكمة المناضل أحمد بن عـثمان الرداوي وزوجته سيمون للوش. وكان أحمد بن عـثمان قد وقعـت محاكمته سنة 1968 في إطار قضية ” تجمع الدراسات والعـمل الاشتراكي التونسي” من قبل “محكمة أمن الدولة” ثم أطلق سراحه عام .1970

وقد دفع هذان الحدثان أغـلبية الطلبة إلى إعلان إضراب عام في كافة المؤسسات الجامعـية يومي الإثنين 31 جانفي والثلاثاء 1 فيفري 1972. ويوم محاكمة أحمد بن عـثمان تظاهـر الطلاب أمام قصر العـدالة بشارع باب بنات وساحة باب سويقة حتى وصلوا إلى قلب العاصمة بشارع بورقيبة.

رغـم أهمية هذين الحدثين، إلا أنّ المحرك الأساسي لحركة فيفري هو ما جدّ في المؤتمر الثامن عـشر للاتحاد العام لطلبة تونس الذي انعـقد في الفترة المتراوحة ما بين 12 و20 أوت 1971 بمدينة قربة بولاية نابل. كان المؤتمر مبرمجا لأن يدوم أربعة أيّام، ولكن نتيجة للصراع القوي حول البرامج وخاصة في لجنة السياسة العامة حول استقلالية الاتحاد وآليات تكريس ذلك، بادرت إدارة الحزب وميليشياته في اليوم التاسع من المؤتمر إلى التدخل السافر وإلغاء اللائحة السياسية العامة ووضع حد لأشغال المؤتمر وتنصيب قيادة صورية قابلة للانصياع لإرادة الحزب الحاكم.

وقد أدّى ذلك إلى انسحاب أغـلبية النواب وتعـبيرهم في لائحة تضمّ 105 إمضاء عـلى رفـضهم للانقلاب وتفويض لجنة إعلامية تتكون من: رشيد مشارك وخالد قزمير وعـيسى البكوش وعـياض النيفر ومصطفى بن ترجم، لتوضيح ما حدث في هذا المؤتمر لكلّ الأطراف.

منذ هـذه الواقعة تفجرت معـركة مفتوحة بين الحزب الحاكم وأجهزته من جهة والحركة الطلابية وقواها المناضلة من جهة أخرى.

هذا هـو السبب الأقوى الذي جعـل حركة فيفري تتخذ نسقا تصاعـديا، وتتحوّل من حركة احتجاج إلى انتفاضة طلابية وشبابية شملت كافة أنحاء القطر.

فلقد تجمع يوم الإربعاء 2 فيفري 1972 بكلية الحقوق حوالي 4000 طالب (من أصل 11 ألف طالب مرسّمين بالجامعة التونسية) للتنديد بقمع السلطة الحاكمة وللتأكيد عـلى عـزمهم عـلى عـقد المؤتمر 18 الخارق للعادة.

وبالفعـل انطلقت أشغال المؤتمر يوم الخميس 3 فيفري1972 بمشاركة آلاف الطلاب، حيث تكوّنت 5 لجان تحضيرية: اللجنة السياسية العامة، لجنة الشؤون الداخلية، لجنة الشؤون النقابية، لجنة الشؤون الثقافية ولجنة الصحافة والإعلام، وشارك في بعـض اللجان (اللجنة السياسية العامة) أكثر من ألف طالب. وقد أفضت أشغال هـذه اللجان إلى إقرار شعارات مركزية أو مبادئ أساسية موجهة، أهمها:

ــ النضال من أجل اتحاد عام لطلبة تونس ديمقراطي وجماهيري ومستقـل.

ــ النضال من أجل ثقافة وطنية وتعـليم ديمقراطي وجامعة شعـبية.

ــ اعـتبار الحركة الطلابية جزء لا يتجزأ من الجماهير الشعـبية.

ــ مساندة حركة الكفاح الوطني العـربية والعالمية.

استمرّت أشغال المؤتمر يوم الجمعة 4 فيفري 1972. وفي يوم السبت 5 فيفري 1972، وقبل تلاوة البيان الرسمي والختامي للمؤتمر، تدخلت ميليشيا الحزب الحاكم، التي كانت ترفع شعار “يحيا المجاهـد الأكبر”، فيرد عـليها الطلبة بشعار “لا مجاهـد أكبر إلا الشعـب”.

وبعـد فشل الميليشيا تدخلت فرق النظام العام (BOP) بكل ضراوة ووحشية، وهـو ما أدّى إلى مواجهات دامية وإيقاف أكثر من 900 طالب.

من أهمّ النتائج التي تمخضت عـنها حركة فيفري إعادة طرح قضية الشرعـية. وتعـتبر هـذه المسألة لب العـمل السياسي والنقابي إذ من خلالها تتحدد مكانة الهياكل والقرارات والنتائج.

بالنظر لذلك شكلت حركة فيفري 72 منعـطفا في تاريخ الحركة الطلابية ،إذ رفضت الجماهير الطلابية الموقف الإنقلابي للسلطة، المتمثل في تنصيب هيئة إدارية موالية، وتشبثت بحقها الشرعـي في إيجاد هياكل ممثلة.

هناك صدام وتعارض إذن في تصور الشرعـية: ما تعـتبره السلطة شرعـيا هـو في نظر الجماهير الطلابية غـير شرعـي، وما تعـتبره السلطة غـير شرعـي هو في نظر الجماهير الطلابية شرعي.

هذا التعـارض المبدئي سيقع ترجمته في الواقع الحي، وسيسعى كل طرف إلى تكريس رؤاه وتوجهاته عـبر كـل ما يمتلك من قوّة ووسائل وأدوات.

شرعـيتان متعارضتان: واحدة ترتكز عـلى استعـمال حق القوة، والأخرى تعـتمد عـلى قوة الحق، وكان لواحدة أن تنكسر ولأخرى أن تنتصر، مهما تنوعـت أساليب التشويه والتزوير.

لأوّل مرّة في تاريخ القطر منذ سنة 1956 عـلى الأقل يحدث هذا الأمر: حركة اجتماعـية، بجماهيرها وقياداتها، تعـلن رفضها لكل أشكال الحجر والوصاية من جهة، وسلطة “أبوية” غاشمة لا تتورع عـن استعـمال كل أساليب الإكراه والبطش والترويع من جهة أخرى.

لقد حولت حركة فيفري72 قضية الحرية من مطلب إلى حاجة ضرورية وحيوية وإلى ممارسة اجتماعـية، إذ أصبحت كلية الحقوق بتونس في بحر بضعة أيام فضاء حرا ليس فقط لنقد الاختيارات الأساسية للسلطة، بل وضعـت وطنية هـذه السلطة في الميزان.

لقد كانت حركة إنتليجنسيا ــ بأتمّ معـنى الكلمة ــ حضر فيها الفكر الثوري بقوة بما هو فكر يقوم عـلى نقد البديهيات وخلخلة القيم السائدة وتفكيك الأراجيف والثوابت المزعـومة (السلم الاجتماعـية ــ الوحدة القومية ــ الفتنة اليوسفية …).

ثانيا: موقف أركان النظام

قرر مجلس الوزراء يوم الثلاثاء 8 فيفري إغـلاق كلية الآداب والعـلوم الإنسانية التي كانت تضمّ 3200 طالبا، وإغلاق كلية الحقوق والعـلوم الاقتصادية التي تضمّ 1867 طالبا، عـلما وأنّ العـدد الجملي للطلبة التونسيين يساوي آنذاك: 11489 طالبا. وقد تقرر هذا الإغـلاق في البداية إلى غـاية 30 سبتمبر 1972.

كما ترافق هذا القرار، فضلا عـن خسارة سنة تعـليمية، بجملة من التهديدات أو الإجراءات المرافقة: خسارة المنحة ــ غـلق المبيتات ــ غـلق المطاعـم ــ سحب تأجيـل الخدمة العـسكرية.

وقد تدخل في نفس اليوم وزير التربية “القومية” آنذاك محمد مزالي في “مجلس النواب”، وكان مما قاله حول التحركات الطلابية : “إنّ هؤلاء (ويقصد من قاد التحركات) لا همّ لهم إلا القضاء عـلى جميع ما لهذه البلاد من مكاسب ومن قيم دينية وروحية”، كما أضاف قائلا: “إنّ هـذه الأحداث تبيّن بوضوح أنّ أغـلبية الطلبة ليسوا مكونين تكوينا تونسيا، لذلك كما قالت الحكومة من قبل، يجب مراجعة محتوى التعـليم وبرامجه”. ( جريدة الصباح التونسية ــ الإربعاء 9 فيفري 1972 ــ ص 3).

وفي إطار نفس هـذه الحملة المسعـورة، انعـقد تجمع “حاشد”، شاركت فيه ــ إضافة إلى الحزب الحاكم ــ كل المنظمات “القومية”، أي المنظمات التي تدور في فلك السلطة، يوم الجمعة 11 فيفري 1972 بقصر الرياضة بالمنزه، حيث تناول الكلمة الوزير الأوّل آنذاك الهادي نويرة، الذي ذكّر الحضور بالشعارات التي رفعها الطلبة، وهي كما يقول هو: لا ديمقراطية إلا للطبقة الكادحة ــ الوحدة القومية خزعـبلة بورجوازية ــ الجامعة ليست معـملا لتخريج إطارات الدولة ــ بعـتم تونس بالدقيق. ثم أضاف قائلا: “وتوجد شعارات أخرى يخجل الإنسان عـند قراءتها، والمؤسف أنّها تتردد في مواطن مكتظة بالفتيات، …. مثل “حرية الصلات الجنسية”، أي حرية الغـريزة والإباحية والشهوة الحيوانية”. ( جريدة الصباح التونسية ــ السبت 12 فيفري 1972 ــ ص 4).

وفي نفس هذا الاجتماع تدخل الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغـل الذي قال هو الآخر: “وكما أنّ الصيني في وطنه ماويست والروسي في بلده لينينيست والكوبي كاستريست فنحن في تونس بورقيبيست”.

ويواصل عاشور: “إننا نقول للرئيس بورقيبة وللشعـب التونسي من جديد، بأنّ البلدان الأجنبية الشيوعـية أو التي تنسب إلى الشيوعـية لها حرس أحمر يسمّى في الصين الحرس الأحمر الماوي وفي روسيا الحرس الأحمر اللينيني وفي كوبا الحرس الأحمر الكوبي، ونحن في تونس الحرس الرسمي لبورقيبة وللنظام التونسي، ونقول له إنّ العـمال اليوم معـك أكثر من أيّ وقت مضى حتى تضع حدّا لجرائم أعـداء الشعـب، وتخدم وطننا حتى يكون وطنا عـصريا ينعـم بالحرية والاستقرار”. ( جريدة الشعـب التونسية ــ العـدد 190 ــ 16 فيفري 1972ــ ص 7).

وكان الحبيب عاشور قد صرّح يوم الأحد 6 فيفري 1972 لدى إشرافه عـلى اجتماع الإطارات النقابية بولاية نابـل: “إنّنا لا نقبل تنظيم إضراب من أجـل امرأة صهيونية وإثارة الاضطرابات من أجلها، وإذا لم يدرك الطلبة هـذه المعاني، ولم يردّوا الجميل بالمثل، فإنّ الحكومة مضطرّة لاتخاذ تدابير تحفظ بها ناموسها”. ( جريدة الشعـب التونسية ــ العـدد 190 ــ 16 فيفري 1972ــ ص 10).

وبهذا الاندفاع الحماسي الفائق في الـدفاع عـن النظام يكون الحبيب عاشور قد استحقّ عـن جدارة ــ ولو في تلك الفترة ــ الشعار الذي رفعه الطلبة ضدّه، وهـو شعار: “يا عاشور يا دجال يا خائن العـمال”.

كشف ردّ أركان النظام عـن كـلّ ما هو مضمر: عـدوانية سافرة تقوم عـلى التسلط ونفي حقّ الطلبة في التمثيل النقابي، وهم في سبيل خلق حالة من الاستثارة والاستنفار لا يتورعـون عـن اللجوء إلى كـلّ أساليب المغالطة واختلاق الأكاذيب والافتراءات.

هناك سبب دفين آخر غـير معـلن يفسر موقف السلطة إزاء الحركة الطلابية، إذ هي تعـرف أنّ الطبقات المحظوظة ــ وخاصة البورجوازية وبدرجة أقل كبار ملاكي الأراضي ــ تعـلّم أبناءها في المدارس الإبتدائية والمعاهد الثانوية التابعة للبعـثة الثقافية الفرنسية، ثم ترسلهم إلى الجامعات الأوروبية وخاصة الفرنسية. أما الجامعة التونسية فهي مأوى لأبناء الطبقات الشعـبية وللمدرسين الذين لم يستطيعـوا الظفر بعـمل في الجامعات الأجنبية. ومهمة هذه الجامعة هي رفع الأمية وتكوين ــ في حدود متطلبات سوق الشغـل ــ إطارات متوسطة طيّعة وخاضعة، بعـد أن يكون التلقين والتكرار والاجترار قد فعـل فعـله. إنّها نقيض الجامعات العـريقة في العالم التي تضع نصب اهتمامها تنشئة الشباب عـلى الإبداع والابتكار.

إنّ الجامعة التونسية كما تشكلت في بداية الستينات هي مجمع لمدارس عـليا وكليات مبعـثرة تخضع لتسيير بيروقراطي سلطوي، وليست مؤسسة حرّة ومستقلة تنهض عـلى أساس تشريك الأطراف الفاعـلة في رسم تصور لمهامها ووظائفها في مجالي التدريس والبحث وتوفير الإمكانيات الضرورية لذلك.

في فترة الستينات تمكنت الجامعة ــ بما هي عـليه ــ من تخريج الأطر، بـعـد الفراغ الناجم عـن رحيل الفرنسيين وأفراد الجالية اليهودية، وخاصّة في مجالات التعـليم والوظائف الإدارية والخدمات ( البنوك ــ المحاماة ــ وفي فترة لاحقة الطب…). أمّا في السبعـينات فقد تقلص هذا الاحتياج وبدأت ظاهـرة جديدة في البروز، وهي بطالة خريجي التعـليم العالي.

منذ تلك الفترة بدأ النظام يسلك إزاء الحركة الطلابية سياسة مزدوجة تقوم عـلى تناوب القمع الإحتوائي والقمع المفضوح: الترغـيب والترهيب، في محاولة لتلجيمها وجرّها إلى ركابه.

فقد أعـلنت الهيئة الإدارية المنصبة عـن استقالتها في ديسمبر 72. ووافق وزيـر التربية آنذاك محمد مزالي عـلى برنامج 73 بمنشور مؤرخ في 15 فيفري 1973.

وبعـد شهر من إصدار هذا المشروع سحب النظام اعـترافه باللجنة الجامعـية المؤقتة، ونظم في أفريل 73 محاكمات سياسية تحت غـطاء مجلس التأديب، وأخضع العـديد من الطلبة للتجنيد الإجباري. ثم رجع النظام من جديد إلى سياسة الترغـيب، إذ أقام حوارات مع “اللجم” في أوت ــ سبتمبر 73، تمخضت عـنها إيقافات جديدة وقمع شرس للطلائع المناضلة. ثم حاول النظام تنظيم أيام ثقافية لتطبيق برنامج مزالي ( خلق هيئات في كلّ المؤسسات في الجامعة التونسية ذات طابع إداري بحت كبديل عـن الهياكـل النقابية المؤقتة). وأمام رفض الطلبة لهذا المشروع رجع النظام إلى أسلوب الترهيب، إذ نظم
محاكمتين للطلبة استهدفت 41 طالبا (أفريل 74). وفي ماي 74 سنّ النظام قانون الفيجيل ( تنصيب فرق جديدة من البوليس المدني في المؤسسات الجامعـية).

وفي 74 ــ 75 رجعـت الدوائر الحكومية والحزبية إلى محاولة المناورة من جديد من خلال بعـث ما سمي بـ “مشروع الرابطات”، والذي يعـني بعـث رابطات عـلى نطاق الكليات تكون مستقلة الواحدة عـن الأخرى ولكـلّ منها مؤتمرها الخاص مع إمكانية الإنضمام للهيئة الإدارية المنصبة.

وفي نفس السياق بعـث النظام بالإعـتماد عـلى الهيئة المديرة المزعـومة ما أسماه الهياكـل النقابية خارج الكلية. وأمام رفض الطلبة لجأ النظام إلى بديـل آخر تمثل في المؤتمر الصوري بالمنستير (ما سمي بالمؤتمر19) في صائفة 1975، قوبل بالرفض الجماهيري. وكانت ردة فعـل النظام القيام بهجوم شرس تمثل في الطرد التعـسفي والجماعي في كل الأجزاء الجامعـية (1976). ثم عاد إلى التآمر مرّة أخرى من خلال ما أسماه مؤتمرا استثنائيا أو المؤتمر 20، الذي انعـقد ببنزرت في ربيع 77 وقاطعـته الجماهير الطلابية، فكانت حملات التجنيد والطرد.

ثم بدأت تحاك خيوط مؤامرة جديدة بداية من 1978 والتي اتفق عـلى تسميتها في الحركة الطلابية “مؤامرة بن ضياء”، التي دعـت إلى حـلّ مشاكـل الطلبة النقابية عـبر مجالس الكليات. ولما اكتشف النظام فشل مثل هذه القنوات في تمرير سياسته رجع إلى الاستعـمال المكثف للعـنف، من خلال الزج بالعـديد من الطلبة في المعـسكرات.

ثم جاءت مبادرة محمد مزالي بعـد توليه الوزارة الأولى في فيفري 80، وهي ليست سوى مناورة دبّرها في محاولة لإخماد الوضع المتفجر والذي تمثل في تلك السنوات في مدّ نضالات الجماهير العـمالية والطلابية.

فلقد تمكنت الجماهير المسحوقة من خلال الانتفاضة الشعـبية العارمة في 26 جانفي 1978 من تجاوز القيادة النقابية التي كبّلت الطاقات النضالية للعـمال لسنوات طويلة، والتي كانت تسعى إلى استغلال مشاعـر السخط والغـضب لدى الجماهير الكادحة ومحاولة توظيفها في صراع الأجنحة في السلطة من أجل الحصول هي وحلفائها عـلى مناصب سياسية أعـلى.

لكن رغـم القمع الدموي ورغـم وابل الرصاص الذي حصد أرواح الكثير من الفقراء والجياع والمحرومين، ورغـم تنصيب النظام لقيادة بوليسية عـلى رأس الإتحاد، تمكنت بعـض القوى الوطنية والوطنية الديمقراطية في السنوات 78 و79 و80 من الانصهار ــ ولو نسبيا ــ في الحركة العـمالية. وقد بدأ هذا الانصهار يؤتي أكله في مستوى بعـض الهياكـل القاعـدية للاتحاد العام التونسي للشغـل، حيث تواصلت حركة الاحتجاج والرفض لسياسات النظام.

وقد أثار هذا الأمر ذعـر السلطة الحاكمة والقيادة المنصّبة وحتى القيادة »العاشورية« (التي كانت تراقب تطور الأوضاع عـن كثب وبقلق بالغ)، فسارعـوا جميعا إلى إجراء استباقي يتمثل في عـقد “مؤتمر مصالحة”، قبـل أن تتنامى “الجرثومة الثورية” داخل الحركة العـمالية، وحتى لا يتكرر ما وقع تجريبه في الحركة الطلابية.

لم يقتصر العـنف المنهجي المنظم المسلط من قبل السلطة عـلى الحركة الطلابية فحسب، بل شمل أيضا العـديد من القوى والأطراف السياسية التي كان لها وجود متفاوت التأثير في الوسط الطلابي. ويبين الجدول التالي أهمّ المحاكمات التي وقعـت في عـقد السبعـينات:

التاريخ: مارس 1973. المحكمة: المحكمة الجناحية بتونس. القضية: العامل التونسي. عـدد المتهمين: 14. الأحكام: من سنة إلى 3 سنوات سجن.

التاريخ:18 أفريـل 1973. المحكمة: المحكمة الجناحية بتونس. القضية: الحركة الديمقراطية الجماهيرية. عـدد المتهمين: 14. الأحكام: 4 أحكام بالسجن من 3 إلى 8 أشهر

التاريخ: أوت 1974. المحكمة:.أمن الدولة. القضية: العامل التونسي + التجمع الماركسي اللينيني التونسي. عـدد المتهمين: 202. الأحكام: من 1 إلى 12 سنة سجنا.

التاريخ: 18 ديسمبر 1974. المحكمة: المحكمة الجناحية بتونس. القضية: الجبهة التقدمية لتحرير تونس. عـدد المتهمين: 33. الأحكام: من سنتين و6 أشهر إلى 6 سنوات سجنا.

التاريخ: ماي 1975. المحكمة: محكمة الإستئناف تونس. القضية: الجبهة التقدمية لتحرير تونس. عـدد المتهمين: 19. الأحكام: من سنتين إلى 7 سنوات سجنا.

التاريخ: 7 جويلية 1975. المحكمة: أمن الدولة. القضية: العامل التونسي. عـدد المتهمين: 42. الأحكام: من سنة واحدة إلى 3 سنوات سجنا.

التاريخ: أكتوبر 1975. المحكمة: أمن الدولة. القضية: العامل التونسي. عـدد المتهمين: 101. الأحكام: من سنة واحدة إلى 9 سنوات سجنا.

التاريخ: ماي ــ جوان 1979. المحكمة: المحكمة الجناحية بتونس. القضية: حزب الشعـب الثوري التونسي. عـدد المتهمين: 38. الأحكام: من سنة واحدة إلى 7 سنوات سجنا.

التاريخ: 22 أوت 1979. المحكمة: المحكمة الجناحية بتونس. القضية: الشعـب السرية. عـدد المتهمين: 47. الأحكام: من سنة إلى 4 سنوات سجنا.

ثالثا: تأجيج روح المقاومة

أمام وضع كهذا، وما تؤكده الوقائع والأدلة من سعي حثيث من قبل السلطة الحاكمة لبسط نفوذ كلي عـلى الحركة الطلابية، كان لا بدّ من ضبط مشروع ثوري يحدد دون لبس أو مواربة الأهـداف والمهام، كما يحدد بكـل دقة ووضوح الوسائل والطرق التي تمكّن من الوصول إلى تلك الأهداف.

في هذا السياق بدأ بروز الخط الوطني الديمقراطي في الموسم الدراسي 74/ 1975. ولئن شكّلت كلية الحقوق والعـلوم الاقتصادية نقطة انطلاق الطلبة الوطنيين الديمقراطيين، فإنّ باقي الكليات والمعاهد العـليا عـرفت تأثيرا تزايدت أهميته لهذا الطرف، وخاصة في كلية الآداب والعـلوم الإنسانية ودار المعـلمين العـليا بباردو و”الجبهة الجنوبية” ( معهد الصحافة ودار المعـلمين العـليا للتعـليم التقني وبدرجة أقـل كلية الشريعة وأصول الدين)، دون نسيان التأثير الفاعـل في بعـض المؤسسات الأخرى: مثل كلية العـلـوم بتونس ومدرسة البريد بأريانة ومعـهد الطب البيطري بسيدي
ثابت والمعـهد الأعـلى للتربية البدنية بقصر السعـيد. بحيث يمكن القول أنّه منذ الموسم الدراسي 77/ 1978 وإلى غاية موسم 80/ 1981 تحول الخط الوطني الديمقراطي إلى القطب الأساسي في الحركة الطلابية، وبلغ من القوة ما لم يبلغه أيّ فصيل طلابي يساري آخر في تاريخ هـذه الحركة. وقد اقترن هذا النهوض بحدث هام ــ حصل في جوان 1977ــ تمثـل في الانفصال عـن مجموعة “الحركة”، أي “حركة الطلبة الوطنيين الديمقراطيين”، المرتبطة بتنظيم “الشعـلة”، حيث أصبحت هـذه المجموعة أقلية، ذات وجود محدود، وأطلقت عـلى نفسها اسم “طلبة وطنيون ديمقراطيون” ( مجموعة النكرة)، في حين حافظت الأغـلبية
عـلى التسمية الأصلية “الطلبة الوطنيون الديمقراطيون” ( سنشير إليهم اختصارا بلفظ الوطد).

في إطار بلورة الأطروحات الأساسية للخط الوطني الديمقراطي طرحت مسألتان فيما يتعـلق بالحركة الطلابية : المؤتمر وصيغ النضال.

1 ــ حول مسألة المؤتمر18 الخارق للعادة:

طبع مطلب عـقد المؤتمر 18 مجمل نضالات الجماهير الطلابية وأصبح التعـبير المكثف لمطامحها، ذلك أنّ الأداة النقابية، المتمثلة في الإتحاد العام لطلبة تونس، هي وحدها التي تمكّن من تحقيق وحدة الجماهير الطلابية وتحديد مطالبها وتبويبها وخوض النضالات من أجلها.

ولم تتمكن القوى الثورية الوطنية الديمقراطية من رسم آفاق التجاوز إلاّ من خلال تقييم نقدي لواقع الحركة الطلابية وتاريخها. وقد تنبهت إلى أنّ قراءة تاريخ الحركة لا يعـني الوقوف عـلى الإخفاقات فقط، بل خاصة عـلى النجاحات والأفعـال التي زلزلت أركان النظام القائم وعـصفت بشرعـيته وبما يتباهى به من قوة وبطش. ومن أهمّ هـذه اللحظات المشرقة والوضاءة في تاريخ الحركة الطلابية التونسية ما أقرته حركة فيفري 72 المجيدة من أنّ حجر الزاوية في أيّ حـل لمسألة التنظم النقابي هو رفض تدخـل السلطة بأيّ شكل من الأشكال في هذا الأمر، واعـتبار هذا الموقف من القضايا
المبدئية وغـير القابلة للتصرف.

إنّ الحق النقابي جزء من الحقوق الأساسية للجماهير الطلابية ولا يملك أيّ أحد أن يساوم عـليها أو يقرر فيها نيابة عـن هذه الجماهير. لذلك فإنّ تحقيق مهمة إنجاز المؤتمر 18 الخارق للعادة يجب أن تكون خارج إرادة النظام وخارج شرعـيته القانونية.

لقد مثل التمسك بتراث حركة فيفري المجيدة وروحها الخط الفاصل بين تصورين:

الأوّل: يقوم عـلى السعي لاسترضاء السلطة واستعـطافها واسترحامها لتقديم بعـض “التنازلات” لحفظ ماء الوجه.

الثاني: يقرّ ضرورة المضيّ قدما نحو عـقد المؤتمر الإستثنائي دون ترخيص مسبق وخارج كل قانونية وباستقلالية تامة عـن السلطة الحاكمة.

لقد بيّنت حركة فيفري بما لا لبس فيه أنّ النظام الحاكم هو العـدو الطبقي، وأنّه يتعـين عـلى الحركة الطلابية أن تعـتمد عـلى قواها الذاتية لتحقيق مهامها. لذلك فإنّ غاية الجماهير الطلابية ليس أن تكون لها نقابة معـترفا بها قانونيا، لأنّه من السهل أن يعـترف النظام بنقابة تغازله وتنهي حالة العـداء بينه وبين الحركة، بـل إنّ غايتها أن تكون لها نقابة مناضلة تسهم بقدر طاقتها في التحرر الوطني والديمقراطي.

من هنا فإنّ الجري واللّهث وراء عـقد المؤتمر مهما كان الثمن لن يكون إلاّ تخليا عـن محتواه ولن يكون إلا مسألة شكلية يستغـلها بعـض السماسرة خدمة للسلطة ولتحقيق مآربهم.

2 ــ حول مسألة الصيغ النضالية والتنظيمية التي يجب توخيها :

تمثلت قوّة الخط الوطني الديمقراطي في كونه لا يعـبر عـن رموز فردية قيادية بل في كونه تعـبير عـن تصور يقوم عـلى صهـر كل الإرادات في مشروع ثوري محدد وواضح المعالم يجسد إرادة المواجهة والتصميم عـلى ممارسة الحقوق.

ومن مستلزمات تطوير عـناصر القوّة والصمود تكوين كوادر قادرة عـلى خوض النضال بمختلف مضامينه وأشكاله.

وحتى يمكن تأمين سلامة هـذه الكوادر لا بدّ من اعـتبار السرية الشكل الأساسي للنضال، سواء في مستوى الحلقات أو النواتات، مع ما يضمنه ذلك من مراكمة الخبرة في مجال البناء التنظيمي والمهارات الميدانية، وبالتالي القدرة عـلى توفير أحد الشروط الضرورية للاستمرار في الوجود والنشاط، خاصة وأنّ المسألة التنظيمية شكّلت أحد نقاط الضعـف الأساسية في تجارب اليسار التونسي.

رابعا : العـوائق والتحديات

وإذا لم تنجح الحركة الطلابية في رسم الخطوات العـملية المباشرة وتجاوز هوانها الداخلي رغـم الخطوات العـملاقة التي قطعـتها فهذا يعـود إلى عـدّة أسباب، لعـل أهمّها:

ــ السبب الأوّل: بروز اليمين الرجعي بزعامة الإخوان المسلمين، الذي وجد في السلطة سندا من أجل ترويج مفاهيمه وتصوراته المغـرقة في الظلامية. وقد تحالف هذا التيار مع بعـض الأقليات اليمينية الإصلاحية التي احترفت تسويغ مؤامرات السلطة وتسويقها من أجل تحقيق مآرب نفعـية ذاتية، ثم أسرع إلى التخلي عـنها حينما اشتدّ عـوده وتبيّن له أن لا فائدة ترتجى من هذا التحالف، بالنظر إلى هامشية تلك الأقليات وبالتالي عـدم قدرتها عـلى الفعـل والتأثير.

تتسم نظرة الإخوان المسلمين لماضي الحركة الطلابية ــ وخاصة لحركة فيفري 72ــ بالعـدمية، لأنّهم بكل بساطة لم يكونوا طرفا فاعلا فيها.

وقد تجلت طبيعـتهم اللامبدئية في رفعهم الشعار ونقيضه: في البداية، أي إلى حدود الموسم الدراسي 79/1980، نادوا بـ “انتخاب الهياكـل النقابية المؤقتة”، ثم في مرحلة ثانية ــ بداية من الموسم الدراسي 80/ 1981 رفعـوا شعار “المؤتمر التأسيسي”.

أما من حيث الشكـل فقد كانوا يراوحون بين معـسول الكلام عـن الديمقراطية وبين استعـمال أشدّ أشكال العـنف ضراوة لتكسير التحركات وضرب الهياكـل. وبين هذا وذاك رفع “الإخوان” شعار: “حرية الكلمة حقّ لكلّ طالب، ومن لم يفهمه اختيارا يفهمه اضطرارا”.

إنّهم يريدون “نقابة” أو بتعـبير أدق منظمة تكون مرآة تعكس تصوراتهم وتحقق الأمل الذي راودهم، وهـو “أسلمة الجامعة” كمدخل لـ “أسلمة المجتمع”.

لقد كان من المفترض إعـداد مناضلي الخط الوطني الديمقراطي وفق خطة سياسية وفكرية وتنظيمية جديدة، بما يتناسب مع متطلبات نضال مستجدة من أهمّ محاورها مواجهة عـدو متغـطرس ( متمثـلا في الإخوان المسلمين)، لا يتوانى عـن توجيه أقسى ضرباته لكوادر الحركة بهدف اقتلاعـهم واجتثاثهم والإجهاز عـليهم نهائيا.

لم يكن هدف هذا الإعـداد الرّد عـلى الاجتثاث بالاجتثاث، لأنّ هذا الأمر مستحيل عـقليا وواقعـيا، وإنّما ردع العـدو ودفعه إلى التراجع والكف عـن عـدوانه، وبالتالي تأمين الحماية اللازمة للمناضلين.

ساهم العجز في مواجهة هـذه المسألة المصيرية والصعـبة في ظهور تشوهات ضارّة في صلب الخط الوطني الديمقراطي، من أهمّها: الارتياب ــ غـياب المصارحة ــ تغـيير أولويات الصراع ــ التكتل والتجنح ــ العـشائرية ــ رفض الحضور في الإطار المركزي الموحد( إطار الصراع)، بـل إنّ بعـض العـناصر اختارت “الهروب” بجلدها ومغادرة الحركة الطلابية، بعـد عـملية المواجهة الدموية العـنيفة في 30 مارس 1982 بكلية الآداب بمنوبة، والتي حصلت بين الطلبة الوطد وحلفائهم من جهة وبين الإخوان المسلمين من جهة أخرى، والتي كانت نتيجة للممارسات “الإخوانية”: ضرب الهياكل ــ حملات التأ
ديب التي تستهدف الأفراد والمجموعات ــ طلب سحب تعـبير الإخوان المسلمين بالقوة….، والتي كانت تهدف في النهاية إلى دفع الآخرين إلى التواري والصمت أو الإذعان والتسليم.

السبب الثاني: عـدم تفطن بعـض الأطراف الوطنية إلى أهمية المسألة النقابية أو عـدم اهـتدائها إلى النظرة الصائبة حول هذا الأمر.

ويتعـلق الأمر بتيار “الطلبة الوحدويين التقدميين الأحرار” ( هكذا كان يسمّى في بدايته)، وهو تيار ناصري انتقل تدريجيا إلى تبني أطروحات عـصمت سيف الدولة. كما انتقل هذا التيار من الدفاع عـن الهياكل النقابية المؤقتة وعـلى ضرورة أن تكون “ممثلة” إلى رأي آخر مفاده أنّ الحركة الطلابية ( وحركة الشبيبة المثقفة عـموما) لا تحتاج إلى التنظم النقابي.

أما “الطليعة الطلابية العـربية”، وهي ذات توجه بعـثي، فقد دعـت منذ وجودها ــ في الموسم الدراسي 80/ 1981 ــ إلى مؤتمر تأسيسي لاتحاد وطني لطلبة وتلاميذ تونس.

أدّى غـياب تصور واضح حول المسألة النقابية إلى اللبس في عـلاقة الوطد بهذين الطرفين وإلى الاقتصار عـلى التنسيق في التجمعات حول القضايا العامة.

الخاتمة

بعـد كلّ هذا الذي حدث ووقع، هناك أسئلة تطفوا ضرورة إلى السطح: هـل فشلنا؟ ما هي معايير الفشل والنجاح في هذه الحالة؟ لماذا لم تكن لنا الشجاعة للاعـتراف بفشلنا في الإبّان؟ وإن كنّا قد فشلنا فعلا فهـل نجح غـيرنا؟ هل أنّ فشلنا هو فشل تجربة أم فشل جيل؟

ثم أخيرا: ألم تعـلمنا النظرية الثورية والتجربة التاريخية للشعـوب أنّ »الفشل أبو النجاح«، بما أنّه يسهم في زيادة الخبرة والكفاءة والقدرة عـلى مغالبة التحديات مهما كان شأنها؟

هذه الأسئلة، وكثير غـيرها، مشروعة دون شك، ولكن ما هو غـير مشروع أن تظل تجاربنا طيّ الكتمان وأن يكون مصيرها التلف والنسيان. في هذه الحالة سيتحول الفشل إلى هزيمة نكراء. أمّا في الحالة العكسية، أي حينما ننكب بكل صدق وموضوعـية عـلى دراسة تجربتنا وتجارب شعـبنا، وأن ننفذ إلى أعـماقها، حينئذ سنحوّل الفشل إلى نجاح ولو بعـد حين، وستحقق الأجيال اللاحقة ما لم نحققه نحن.


لقراءة الجزء الثاني: الحركة النقابية التونسية بي فكي كمّاشة : العـشائرية والبيروقراطية