في تعقيبها على عملية تسريب موقع ويكيليكس جملةً من الوثائق عن الحرب الأمريكية الأخيرة على العراق، قالت السيدة كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة، إنه “ينبغي إدانة التسريب بأوضح لهجة، نظرا لأنه قد يعرض الجنود والعاملين الأميركيين للخطر ويهدد الأمن القومي الأميركي وأمن أولئك الذين نعمل معهم”.

ما لم تدنه السيدة كلينتون بأوضح لهجة إذن، ليس أن عملية تحرير العراق قد أدت إلى دماره، أنه سقط منذ بداية الغزو 285 ألف ضحية بينها 109 آلاف قتيل على الأقل، 63% منهم مدنيون… أن هنالك 300 تقرير مسجل عن ارتكاب قوات التحالف لجريمة التعذيب وإساءة معاملة معتقلين وأكثر من ألف حالة ارتكبت فيها قوات الأمن العراقية جرائم مماثلة بتغطية منها… أن أي عنصر من المرتزقة الذين تستخدمهم الولايات المتحدة والذين طالب حتى عملاؤهم بمغادرتهم البلد، لم يحاسب على الجرائم المرتكبة في العراق…

هي لم تقدم اعتذارها للشعب العراقي عن كل الويل والدمار الذي لحقه. هي لم تدن بأوضح لهجة ممكنة كل التجاوزات التي حصلت في حق المدنيين ولم تتعرض ببنت شفة لعشرات الآلاف من ضحايا اليورانيوم المنضب وكل من ماتوا بسرطاناته بعد حرب الخليج الأولى.

هي لم تعبر عن تعاطفها مع آلاف الضحايا الأبرياء أو تلمّح لضرورة التفكير في تعويض مادي ومعنوي. هي لم تأسف للصورة المزرية التي أعطاها التدخل الأمريكي عن الديمقراطية، مبدية تخوفها أن يكره العرب مثل هذه الديمقراطية التي تأتي على ظهور الدبابات ويشغلها عملاء لا يتفقون بينهم بعد سبعة اشهر من الانتخابات على حكومة.

هي لم تأسف لأن قوات نظامية استخدمت مرتزقة في إطار بلوغ الهوس الليبرالي ذروته وهو يجعل حتى من الحرب بزنسا تقوده شركات تقدّم أجود “الخدمات” بأرخص الأسعار. هي لم تبدِ مخاوفها من انهيار مصداقية فكر وقيم حقوق الإنسان بعد اتضاح حجم ضلوع أمريكيين في أبشع تعدٍّ على حقوق الإنسان ولا قالت إنه سيكون من الصعب وحتى من المخجل على إدارتها إصدار تقرير سنوي عن انتهاكات حقوق الإنسان في البلدان الأخرى أو أنه لا يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه. على فكرة، أين وصلت عملية إغلاق قوانتانامو ؟

هي لم تطمئن العراقيين والعرب على أن كل الإجراءات ستتخذ لكي لا تتكرّر الأخطاء التي رصدتها الوثائق.

كلاّ، لم تقل شيئا من هذا الكلام وإنما ركّزت كامل اهتمامها على الضرر الذي يمكن للتسريب أن يلحقه بالطرفين الوحيدين المهمين في كل هذه المأساة: جنودها وحلفاؤهم المحليين.

كل هذا لِتفادي الحديث في جوهر الموضوع والذي يتمثل في حقيقتين مدعّمتين بالأحداث والأرقام حاول كل المسؤولين الأمريكيين والعراقيين التغطية عليها، و هي:

– أن الحرب التي قادتها الولايات المتحدة تحت ستار تحالف دولي واهٍ، لم تكن نظيفة وجراحية وإنسانية وقانونية وجميلة، تجعلك تشتهي الحروب وتتمنى منها المزيد. تذكروا الدعاية المحمومة عن
“الضربات الجراحية” التي لا تصيب المدنيين لأن عباقرة التخطيط العسكري لا يخطئون المرمى. ما يتضح اليوم أنها كما كنا نتوقع جميعا حربا قذرة، فوضوية، همجية، بشعة تفيض بالأخطاء والخطايا.

– أن الديمقراطية وحقوق الإنسان لم يكونا سوى قميص عثمان والوثائق تثبت أن العراقيين عرفوا تحت النظام “الديمقراطي” للعملاء ما عرفوه وأكثر، تحت حكم صدام حسين، خاصة أن الإدارة الأمريكية تضرب عرض الحائط بقيمها عندما يتعلق الأمر بمصالحها وأنها لا تستحيي من التعامل مع مجرمين بل وحتى التغطية عليهم والسماح لهم بكل الموبقات.
*
على الأقل يمكن أن نعترف للمرأة بفضيلة الصراحة. هي لم تخفِ أن ما يهمّ الإدارة الأمريكية في المعادلة هو أمن جنود أمريكا وأمن العملاء، أما أمن العراقيين فليس شغلها…على الأقل شغلها الأول.

نعم، ليس شغلها لكنه شغلنا والعراق اليوم هو آخر ضحية وضع لم تعرف له الأمة شبيها منذ أن حاصرها المغول من الشرق والصليبيون من الغرب. نعم نحن مجددا بين المطرقة والسندان والضرب يزداد فظاظة يوما بعد يوم والعراق ذروة الضرب.

أما المطرقة فهي الحروب التي لم تنتهِ منذ الخمسينات ضدّ كل من يرفع الرأس نتيجة الفيتو الغربي الإسرائيلي على كل نهضة، على كل تقارب، على كل وحدة وحتى على الديمقراطية، كل هذا لمواصلة التحكم في خيراتنا ومنعنا من أن نصبح منافسين خطرين.
لتطبيق هذا الفيتو تتوزع قوات الردع حسب ثلاث دوائر:
الأولى هي التحكم عن بعد وتصفف فيها قوات حفظ النظام الغربي خارج حدود الدولة الوطنية لأن هناك ثقة في قدرة الوكلاء المحليين المدعومين عسكريا ومخابراتيا وماليا، على تنفيذ المخطط الاستراتيجي، أي منع كل تقارب عربي مع السهر على تدبير الملفات الكبرى الأربعة: التطبيع (بما هو الاستسلام الذي نرفضه جميعا لا السلام الذي ننشده كلنا)، فتح الأسواق ونهب الثروات، خاصة البترول، مقاومة “الخطر الأصولي” وحراسة الحدود الجنوبية الأوروبية من زحف الجياع أفارقة وعربا. الحكم هنا ب”الرموت كنترول” ويحدّثك المغفلون عن شيء اسمه الاستقلال.

الثانية هي التحكم عن قرب: في حالة قيام تهديد مباشر على المصالح أو اتضاح عجز الوكلاء أو هشاشتهم تنقل قوات حفظ النظام الغربي إلى الأرض العربية لتكون قادرة على التدخل في كل لحظة لحفظ “الأمن” و”القانون”. إنه نظام الحماية المباشرة لكن بترك مجال للوكلاء يدّعون فيه ما يدّعون.

الثالثة هي التحكم المباشر: إنه بعث القوات العسكرية لاحتلال الأرض وقد فشل التحكم عن بعد وعن قرب. التحذير الأول كان العدوان الثلاثي سنة 1956 وبعده حرب 1967 ثم حرب الخليج الأولى سنة 1991، و أخيرا الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، دون نسيان ما تعرض له لبنان سنة 1982 ثم 2006 وما عرفته غزّة البطلة سنة 2009.
نحن لا نعرف بالتدقيق فاتورة كل هذه الحروب لأنه لم يكن لنا منظمة دولية مثل ويكيليكس لفضح الجرائم المرتكبة. من حسن الحظّ أنه سيكون بوسع المؤرخين استعمال الوثائق الأخيرة لتقدير حجم الجرائم التي ارتكبت بحق العراق، بهدف منعه من أن يكون نقطة ارتكاز لولادة القوة العربية حتى وإن كان نظام حكمه أبعد ما يكون عن قدرة تحقيق طموح مثل هذا.

عن سندان الاستبداد حدّث ولا حرج : كم مضحك مبكٍ أن تسمع بعض القوميين يقولون لك بوطنية هذا النظام أو ذاك لأنه يتصدى للإملاء الخارجي ولا يهمه أن يكون نظاما قمعيا فاسدا طائفيا. لا يكلفون أنفسهم عناء التساؤل: هل مثل هذا النظام قادر على مواجهة التحدي الخارجي، لا يفهمون بعد نصف قرن من المآسي أنه لا تحرير للوطن دون تحرير المواطن مثلما لا تحرير للمواطن دون تحرير الوطن.وعلى كل حال فليس هناك اليوم إلا نظام واحد هو السوري الذي يدعي قدرة مواجهة الاستعمار والصهيونية بشعب مطحون بالفساد وحكم المخابرات، أما الأنظمة الأخرى فلم تعد تستحيي من التخلي حتى عن ورقة العنب هذه لتغطية عوراتها.
كأن للرعايا الذين سُمّوا مواطنين لمزيد من التحقير والسخرية، الخيار بين الجلاد “الوطني” والجلاد العميل المدعوم بالجلاد الأجنبي. ما تصوره الوثائق عن ضلوع المالكي في الاغتيالات والاعتقالات وهو يقود فرقا عسكرية تنفذ أوامره لا يختلف كثيرا عمّا عرفته وتعرفه كل شعوبنا وهي تحت وطأة أنظمة استبدادية “وطنية” لا تفهم السلطة إلا كغنيمة حرب توزع بين أقارب الدم أو العقيدة، ويحافظ عليها بالرعب المبثوث بين صفوف الشعب…باسمه ولمصلحته !!!

المرعب في الأحداث التي كشفتها وثائق التسريب أنها لا تتحدث عن حاضرنا وماضينا القريب في العراق بقدر ما تعطينا فكرة عن مستقبلنا الأقرب في أكثر من مكان من وطننا العربي المنكوب.

فلا شيء في سياسة المحور الإسرائيلي–الأمريكي ينذر بالتغيير، بل بالعكس. حيث نرى إسرائيل تستعدّ أكثر من أي وقت مضى لضربات إستباقية جديدة، سواء في غزة أو في لبنان. لاشيء ينذر بتغيير في سياسة أنظمتنا وظهرها للحائط لا مفرّ لها من مزيد من العمالة والقمع إن أرادت أن لا تملأ السجون والمنافي
ما يعيشه العراق هو المبرمج لكل شعوبنا إن حاولت شق عصا الطاعة على الحلف الشيطاني بين الاستبداد والاستعمار الذي يُقيِّد أطراف الأمة الأربعة.

من أين سيأتي النور ومتى سينجلي الليل؟ من إرادة الحياة التي لا تموت أبدا لا في الأشخاص ولا في الشعوب، فما بالك في أمة كبرى مثل أمتنا… وأيضا من القانون الذي سنه توينبي أن التحدي هو الذي يصنع كبرى الحضارات. من يعي أن خطورة التحديات وكثرتها تضع اليوم كل عربي أمام عبء لا يعرفه أو لم يعد يعرفه الإنسان الغربي وأن “عضلاتنا ” الروحية والفكرية موجوعة من كثرة الضغط عليها لكنها تقوى بكل أزمة؟ من يعي بأن خطورة الأزمات تفرز أشخاصا ليس لهم نظير في مجتمعات غير معرضة للأخطار التي نعرف وأن هؤلاء الأبطال والبطلات مبثوثين داخل الجسم الوهن وهم الذين سيكونون أكبر مفاجأة لمن يحتقرون قدرة الشعوب على النهوض وردّ الفعل على من يهددونهم في وجودهم. نعم، هناك قوى دمار جبارة تعركنا وهناك قوى خلق لا تقل قوة وزخما تعتمل داخلنا وسيأتي يوم لن يتجاسر فيه على حقوقنا وكرامتنا ذئب أمريكي أو ثعلب أيراني أو ضبع “وطني”.

النقطة الإيجابية الوحيدة في التسريبات الأخيرة…وجودها، ودلالات هذا الوجود. على فكرة متى سيبدأ أبطالنا المجهولين في تسريب وثائق سرقات وعمولات أسيادنا . مسألة وقت فنحن في عصر الشفافية وهذا ما لازالت الخفافيش العربية تتجاهله.
أخيرا لا آخرا ، إنها فرصة جديدة لتذكير من يفهمون منا القومية كشوفينية والصراع الراهن كصراع أديان وحضارات وشعوب متعادية الفطرة والوراثة، أن جوليان أسانج صاحب موقع ويكيليكس المعرّض في كل لحظة ل”حادث طريق مؤسف”، رجل غربي يقامر بحياته وشرفه ومصالحه، لأنه يضع القيم الإنسانية فوق اعتبارات العرق والدين. إنه يذكرنا بأن الحاجز ليس حاجز العرق والدين واللغة وإنما هو حاجز يفصل بين المدافعين عن مصالح مشروعة و المدافعين عن مصالح غير مشروعة. نحن ندافع عن حق شعوبنا وأمتنا في تقرير المصير، في الاستقلال الحقيقي، في السلام العادل والدائم، في التمتع بخيرات أرضنا وفي العيش تحت أنظمة تحترم كرامة الأفراد وحريتهم. وفي هذا الجانب من الصف حلفاؤنا اليهود الثمانية الذين أرادوا كسر الحصار على غزّة وجوليان أسانج وكل من ساندوا قضايانا داخل الغرب وهم كثر. وفي الصفّ المقابل العسكرتارية الصهيونية والأمريكية والسياسيون المكيافيليون الغربيون والشركات الاحتكارية العالمية والمافيات التي تترعرع على فتاتها، يضاف لهم صغار النفوس كبار اللصوص العرب الذين تعلقوا بكل ما له ثمن متخلين عن كل ما له قيمة، فحقت عليهم لعنة الله والأمة والتاريخ.