بقلم أولاد أحمد،

الأوّلُ أهْداني جسمي واسمي والثّاني افتكَّ منّي ما لمْ أطلُبْ منهُ بَعْدَ أن سرقَ منّي ما كنتُ سأُهْديهِ إيّاهُ.

الأولُ جدْولُ أحلامي الصغير والثاني وادي آلامي الكبير

آنَ لي أن أضعَ دماءَ الشابِ المحروق، والآخرِ المنتحر، والثالثِ المجروح، والرابعِ المصعوق،والخامس المقتُول، على قمصانِ رجال الحكومة حتى تدْفعَهم الخيلاءُ إلى الاعتقاد بأن قُمصانَهم هي أعلامُ تونس ذاتها وأن بُقعَ الدمِ الحمراءِ التي تُزيّنُها ما هي إلا نوع منَ الابتكار والدّيزَايْنْ في معرض اللباس التنكّري الطويل هذا.

الأوّلُ، الذي هو أوّلُ بالفعل، اسمهُ:سيدي بوزيد

والثاني، الذي كان يمكنُ أن يكونَ أوّلَ، اسمُه:تونس

أشرعُ،للتوّ،في الاختيار تاركًا لحرّاس الوطنية حقّ النّباح وفضائلَ التّكسُّبِ من المدْح المنثور على شاشات التلفزيون الرّسمي الذي يسوؤهُ إن لا تكونَ التلفزاتُ الأجنبيةُ على شاكِلتهِ ؟؟.

وبالطبع، ودون تروّ ٍأو تفكير،، أختارُ موطني قبل وطني بعد أن اختارَ كلُ واحدٍ جهتَه وعشيرتَه وأهلَه منذ فجر الاستقلال وغلّفَ خيارَه بخطاب وطني هُلامي..فيما اكتفيتُ أنا بالكتابة والأدبِ دون أن يطلبَ أحَد منّي ذلك أوْ يُيَسِّرَ لي الطريق.

في الحال أتّهمُ السّلطةَ بسوء استخدام الثروة والدستور والسلاح، وبتماديها،عن قصْدٍ أو عن غيرِ قصد، في تنميةِ بُنًى تحتيةٍ لحربٍ أهليةِ ،يكونُ طرفاها المليشياتِ الحزبية والإدارةَ ورجالَ الأمن من ناحية،ثمّ بقيةَ السكان المحرومين ،من ناحية أخرى،مع العلم أن أعدادَهما متساوية تقريبا مما يعني أن الدولةَ تغوّلتْ إلى حدّ صارت تحكمُ نصفَ الشعبِ بنصفهِ الآخر.

بعد أكثرَ من نصف قرن من الاستقلال لا يجوزُ لأيّ دولة في العالم الافتخار بأن سكانها لم يعودوا يمشون حُفاةً وصار بوسعهم أن يأكلوا مثل البهائم أو بأنها أوصلتْ لهم الماء والكهرباء وكأنهما من الكماليات أو بأنّهم “بلغوا سنّ الرشد” قبل ثلاثين سنة ثم لم يبلُغوا سن الرشد بعد ثلاثين سنة ؟؟

إن مهمّةَ الدولة، باعتبارها حصيلةَ الضرائبِ، هي الرقيُّ بشعبها من الشّرطِ الحيواني إلى الشرط الإنساني,,دون منّةٍ وفي أسرع الأوقات.

أنحازُ إلى موطني لأنّ لي فيهِ قبرٌا محفورا وأغضبُ على وطني لأنّ جنازتي طالتْ بين شوارعه وأزقّته دون أن تنقلبَ إلى حياةٍ ولو لبُرهةٍ من الزمن.وليتَها كانت جنازتي لوحدي:إنها جنازةُ الآلاف من الرجال والنساء والشباب الذين لم يُشاهدوا الدولةَ بالعين المجرّدة إلا في استعراضاتها المُخْزيةِ للقوّة وفي تصريفها للتّسبيحِ المُسمّى:إعلامًا.. وفي شريطها الساحلي الذي تحوّلَ إلى بطْنٍ مالي والى تمساحٍ سياسي يكادانِ يلتهمانِ ما تبقّى من جسم البلاد وأعضائها..وفي مظاهر المحسوبية والرشوة والفساد التي لا تخفى على عينٍ.. ولو كانت عينَ أبي العلاء المعرّي أو بشّار بن برد.

أعرفُ سيدي بوزيد وأفتخرُ بأنني منها..ولستُ بصدد استغلال أحداثها ومواجعها لمواصلة التوجّع من هذه المعالجة “الجِلْديَّةِ” لهذا الغليان الشعبي..إنني بصدد التّفكُّرِ في الخديعة الثالثة التي سيتفتّقُ عليها خيالُ الحزب الحاكم بعد أن تسْتفْحلَ شيخوختُه الثانيةُ..ومنذُ الآنَ أزعمُ أن لا أحدَ منّا، نحنُ ضحايا هذا الاحتلال المستقلّ، سيعيشُ أكثر من تسعينَ سنة ليتكشّفَ على مساوئِ الرأي الواحد والحزب الواحد..وعلى مضارّ الرجل الواحد والمرأة الواحدة..وعلى بشاعةِ المرآةِ الواحدة والنّاظرِ إليها وحيدًا في عزلتهِ.

إنها لإهانة للتونسيين جميعا، ممّنْ يهُمّهم أن يكونوا تونسيينَ، أن تُلوّثَ أبصارَهم، يوما إثر يوم، تلك الصُّورُ والشعاراتُ واللافتاتُ الحزبيةُ، الفاشيةُ، المتخلّفة، الدّاعيةُ كلّها إلى الكفِّ عن الأحلام والى مزيد عبادة الأصنام.

وفي بلاد لا تجدُ ما تفتخرُ به سوى أنها “بلادُ الشرطة” ( الأمن والأمان )يتعيّنُ على من يرغبُ في أن لا يموتَ مُغْتمّا أو مقتولا أن لا يثقَ، مُجدّدًا، في منْ كان سببًا في غمّه أو قتله..حتى وإن هبطَ لتوّهِ من السماء في هيئةِ ملاكٍ أزرق وقدّمَ أوراقَ اعتماده كوكيل شخصيٍّ للرّبِ ذاته.الربُّ الذي تجلّى لنا في ثلاثِ دياناتٍ يتعذّرُ على الكائنِ أن يُفكّرَ معها أو بجوارها أو على حدودها.

لقد علّمتنا التجاربُ، طيلةَ الخمسين سنة الفائتة، أن هؤلاء لا يُكفّرونَ عن ذنوبهم إلاّ بمزيد الإكثار منها والتّنويعِ عليها في محاولة مكشوفةٍ للإغارةِ على المستقبل بعد أن تمكّنوا من مصادرة الحاضر والماضي.

بعد أن ألْجَموا المثقفينَ والأحرارَ والمعارضين المدنيّينَ، واشتروا المتزلّفين والصحفيين والمغنّين والرياضيين،وصنعوا مُعارضةً تكادُ تكون أكثرَ ولاءً من شيعتهم، هاهُم يقْلعونَ أشجارَ الصنوبر والزيتون والكلتوس ..ويُفصّلون من أغصانها عِصيًّا غليظةً ينهالون بها على رؤوس العاطلين المُتعلّمين وظهورِالفقراء المساكين,,ولعلّهم بصدد التفكير في إنزال الجيش الوطني إلى الشوارع وفي استدعاء “جيوش صديقة” لحماية البلاد من هذا الشعب الصّبور الذي تركهم يمرحون في أروقة الحكم دون رقابة لأكثرَ من نصف قرن.

ومن الممكن أنهم بنوْا بلادا خارج حدود هذه البلاد، وأن تلك البلاد مزدهرة، فيها حدائقُ مُعلّقة، وقصور مطمورة وقبور مُنمّقة، وأنّ التنميةَ التي نُطالبُهم بها هُنا تتمُّ هناك على أحسن الوجوه.

في حالٍ كهذه يتعيّنُ عليهم اختيارُ بلادِهمْ في أسْرع وقتٍ حتّى نعرفَ أينَ بلادُنا وماذا نفعلُ بها وفيها.. في أطول وقت.

ثمّ: ما معنى البلادِ، أصلاً، إذا لم تكُنْ: أهلَها وهُمْ يتدرّبونَ على الحياةِ الكريمة وعلى الحرّية في أنٍ واحد ؟

في الشتاءِ القارصِ اندلعتْ أحداثُ سيدي بوزيد ( وأغلبُ الأحداث التي شهدتها تونس تقعُ في فصل الشتاء ؟ ) لازمْتُ الألمَ والصمتَ والعزْلةَ إلى أنْ نَطَقَا وتكلّمتْ..فكانَ هذا الذي فوقَ هذا.

وإنّي لحزين حقًّا لكوني لَمْ أُشْعلْ ولوْ نجمةً واحدةً في هذا الظلام الإعلامي المُخيّمِ على البلاد.

أولاد أحمد

30 ديسمبر 2010