Uncategorized

بقلم: لطفي عيسى، أستاذ – جامعة تونس

أي علاقة واقعية تربط التونسيين حاضرا بسيرة مؤلف مدونة الإتحاف ومهندس بنود أول دساتيرها ؟ لسنا على يقين بأن شخصية على هذا القدر من الأهمية قد ساغ لسيرتها أن تتحوّل بعد إلى متقاسم جمعي. فالغالب على ذائقة المطلعين أو المتعلمين ممن أمّوا المدارس التعرّض لشخصيته من بوابة الاعتبار بانفراط حكم البايات بعد فشل حركة الإصلاح السياسي تمهيدا لوقوع البلاد تحت الاستعمار.

هذا ما أتاحته المناهج المدرسية ولا تزال للكافة ممن توثقت صلاتهم بمقاعد المدارس من المتعلمين، أما من سواهم فليس لمثل هذا الشأن من صلة بمخزونهم الفكري أو ذاكراتهم المعيشة ولا ذائقتهم الفنية في انعدام التصدي لصياغة تلك السيرة من زاوية الإبداع الروائي أو الدرامي مكتوبا كان أو مسموعا أو مرئيا.

فالشيخ أحمد ابن أبي الضياف (1804 – 1874) علم من أبرز أعلام تونس القرن التاسع عشر، تعود أصول عائلته إلى مجال الدواخل عند “رُبْعِ سليانة” موضع نجعة قبيلة أولاد عون. اختار جده الاستقرار بمدينة تونس مصاهرا بيوتات علمها، وارتبط مصير والده “الحاج بالضياف” بخدمة المخزن الحسيني بعد أن قرّبته علاقة الصحبة التي ربطته بمملوك حمودة باشا (1782 – 1814) ووزيره الذائع الصيت يوسف صاحب الطابع. تلقى ابن أبي الضياف وفقا لما أورده مترجموه أفضل ما أتاحه التكوين على أيامه، مطلّعا على ما لم يكن معاصروه يرون فائدة في تقليبه من الآثار، متأثرا بما خلّفه ابن خلدون الذي اخترقت آراؤه مصنفه التاريخي من أدناه إلى أدناه.

فالبيّن أن تراجع العصبية القبلية التي عوّضها الولاء بعد الضربات الموجعة التي كالتها لها دولة المخزن (وهي عنوان السلطة منذ حكم الموحدين مغربا) هو الذي كان وراء التجاء الملك إلى “الجاه” ويتمثل تعريفه من منظور البيان الخلدوني دائما في: “القدرة الحاملة للبشر على التصرّف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلّط بالقهر والغلبة”، مما يكسب صاحب الملك إحساسا بالجلال، ويزيد في اعتقاد الكافة من رعاياه أن كل مقرّب من جلال الملك حاصل بالضرورة على منتهى الكرامة والمجد. فـــ”فاقد الجاه وإن كان له مال…يسير إلى الفقر والخصاصة ولا تسرع إليه الثروة وإنما يرمق العيش ترميقا”.

هذا التمثّل الـمَرَضِي لتغوّل الملك المسنود بالجاه هو ما يفسر في تقديرنا تحوّل مجال السلطة السياسية إلى بؤرة ضوء مُشعّة شكل القرب منها على الدوام وعدا صريحا بموفور العزة وواسع الثراء في ثقافة المسلمين سواء ضمن التجارب المتعاقبة للسلالات التقليدية الحاكمة أو حتى في العديد من تجارب الدول الوطنية الحادثة بعد تصفية الاستعمار.

ومن هنا نفهم لماذا لم يُهمل ابن أبي الضياف السبل التي فتحت له بعد إدراجه في سلك العدالة زمن حكم الباي محمود (1814 – 1824) متقرّبا من حذّاق كتاب الدواوين ملحّا في طرق باب المخزن إلى أن أستنجبه الباي حسين (1824 – 1835) لخطّة كتابة السر بديوان وزيره المتنفد شاكير صاحب الطابع (1829 – 1835) وسنه لم تجاوز الثالثة والعشرين سنة.

امتد حبل إلحاق مؤلف الإتحاف بموضع سر البايات على أربعة عقود تمرّس خلالها كاتبنا بأمور المخزن وخبر أسراره وخفاياه. كما آثاره الباي المصلح أحمد (1837 – 1855) عمن سواه بمفاوضة الباب العالي والرفقة في الرحلة الباريسية والاستشارة العائلية في عقد أول قران لثيب حسينية من وجيه تونسي، معتبرا إياه “لسانه الذي يتكلم به خارج الحاضرة”. وحتى وإن تراجعت مكانته لدى كل من امحمد باي (1855 _ 1859) وأخيه الصادق (1859 – 1882) آخر أمراء السلالة الحسينية لمرحلة ما قبل الحماية، فإن ثبوت حاجتهما إلى “ترتيب قوانين” تناظر خط الأتراك الشريف أو تنظيماتهم الخيرية المعلنة منذ سنة 1839، هو ما ألجأهما إلى تكليفه بمهمة الإشراف على تحرير مسودتي لوائح عهد الأمان الصادرة في أوائل شهر سبتمبر من سنة 1857 وبنود دستور أواخر شهر جانفي من سنة 1861.

كان واضع كتاب تاريخ العبر على يقين من أن مجال التجديد في العالم قد فارق حضارة العرب بعد دخولها مرحلة الانكفاء والتراجع والانحدار منذ القرن الرابع عشر، لذلك عمد إلى تشخيص الخلل وتحديد الأسباب التي أدت إلى انقلاب الأوضاع من خلال حوصلة أحداث الماضي واستنتاج ما حوته من عِبَرٍ شكلت الأنساب وأنواع المعاش وكيفية التداول على الملك واحتكار الوازع والجاه، العناصر الناظمة لها. فقد تم تشغيل الملك كمحور للحراك السياسي يحدد تداول الأمم للوازع، ذاك الذي ارتهن بالحفاظ على قوة العصبية واحتكار الجاه والنجاح تبعا في الاضطلاع بدور الوساطة بين نظامي العمران البدوي والحضري.

حمل الإتحاف صدى غير حاف لمختلف هذه التوجهات، ذلك أن ما سماه مؤلفه بـــــ “رياح الوطن” قاصد به “الوطن التونسي” و”القطر التونسي” و”أرض تونس” وهي تسميات تكررت في الإتحاف# هو ما دعاه بعد أن استوفى صياغة لوائح وبنود الدستور إلى التصدي لمشروع مدونته التاريخية التي امتدت عملية تحريرها على عشر سنوات بالتمام والكمال (1862 – 1872). بسط المحرّر عبر كتاب عمره آرائه في السياسة والمجتمع، مصحّحا القول في ما حرّفته الأقلام المأجورة بخصوص مسار تقييد الملك بقانون ضمن تجربة أمراء السلالة الحسينيين بتونس. فمن مزايا علم التاريخ وفقا لما انتهت إليه عارضته التفريق بين من أهلتهم أعمالهم الجليلة لبقاء الذكر ومن لا يصحّ في حقهم سوى الإهمال والنسيان.

شدّد ابن أبي الضياف على ضرورة مراعاة ما أسماه بــــ”حال الوقت” في مسار التدرّج في تطبيق “نظام الملك المقيّد بقانون” ناقلا عن ابن خلدون حججه في التمييز بين الخلافة والملك، مجيزا “الإنكار” وهو في راهن مدلوله حق إبداء الرأي في جميع المسائل المتصلة بالشأن العام عبر المشاركة في عضوية المؤسسات التمثيلية، معتبرا إهمال المسلمين لذلك سببا من أسباب ترديهم، رابطا بين ما نعته بـــ”الملك المطلق” المخالف للشرع والحكم القهري كما وصّفه البيان الخلدوني، ذلك الذي تتسع معه رقعة البداوة وتزول به فضائل المواطنة من نفوس الرعايا.

ولئن لم يشر مدلول الوطن بالقياس لمدلول الأمة في آداب المسلمين إلا لمكان الولادة ولم يتم تعقّل مصطلح “ثورة” كذلك إلا بمعنى الفتنة والفوضى والتقاتل نظرا “للبلبلة العظيمة” التي أحدثتها الثورة الفرنسية من منظور كثير من مصلحي البلاد العربية، فإن الحاجة إلى ذلك الإصلاح المستأنس بأحكام الشرع هي ما أعطى للانتقال التدريجي غير العنيف مكانة أرقى في ذهنيات النخب المتعلّمة المستبطنة لمدلول طاعة السلطان وخدمته بالمقارنة مع تهيبهم من معاضدة جميع أشكال التغيير الجذري أو العنيف. وهي أفكار يسهل العثور عليها لدي عدد من مؤرخي المشرق والمغرب ممن شكّلت تجربة الكتابة لديهم صدمة حقيقية وانسلاخا عن الاكتفاء بمتاح الفكر التقليدي تشوّفا إلى إعادة امتلاك مقوّمات تفكير النهضة الأوروبية على غرار عجائب عبد الرحمان الجبرتي (1753 – 1825) واستقصاء أحمد بن خالد الناصري (1835 – 1897) على سبيل المثال لا الحصر.

والبيّن أن التصوّرات التي تضمنتها “مقدمة” الإتحاف الطويلة لم تشذّ عن هذه التوجهات، فقد التزم ابن أبي الضياف سواء من خلال تعريفه أو مناقشته لما أسماه بـــ “أصناف الملك في الوجود” بمبدأ توافق ما ندبه من الإصلاحات السياسية مع مبادئ الشريعة الإسلامية، متهيّبا من مغبة التعبير عن أي تصادم مع مقاصدها. فقد قسم ابن أبي الضياف الوازع ومعناه القوة الرادعة أو الغلبة إلى خلافة وملك، معتبرا أن “أصناف [هذا الأخير] في الوجود لا تتعدى أنماطا ثلاثة وهي: “الملك المطلق والملك الجمهوري (وهو لبس مقصود تحاشى من خلاله المؤلف التصريح بمعقولية وجود حكم جمهوري يكتفي بذاته عن اشتراط حضور خليفة) والملك المقيد بقانون شرعي أو عقلي أو سياسي”.

ويعتبر مؤلف الإتحاف ضمن تعريفه بهذه الأصناف أن “طباع الاستبداد” منافية “لإمكان التغيير” مما يستوجب شرعا وعقلا مجابهتها بــــ”الإنكار” و”المنع” دون الحاجة إلى الدخول في الفوضى أو التعويل على العنف. كما يفرّق ابن أبي الضياف في الجور بين “اليد المبسوطة التي لا تعارضها القدرة” في ظلم السلطان للرّعية، وبين “استعمال الإخافة لأخذ الأموال من قبل أهل الحرابة والعدوان”، لأن “المدافعة بيد الكل موجودة شرعا وسياسة”، في حين أن لجوء الحاكم إلى “العدوان على الناس في أموالهم ذاهب [مثلما بيّن ذلك صاحب تاريخ العبر] بآمالهم في تحصيلها…فإذا ذهبت…انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك…وقعد الناس عن المعاش وكسدت أسواق العمران…وهو القدر المؤذن بالخراب”. مشددا في هذا الصدد على ما كان شاهد حق على حصوله من تلاعب بالنقد وإطلاق يد العمال في الرعية عبر تشغيل آليات الارتشاء فيما مسكه من دفاتر الاتفاق ( ويقصد المبالغ التي يتم الاتفاق بشأنها سرا بين الباي وعماله نظير الحصول على الخطط المخزنية أو المحافظة عليها)، لأن ذلك يجعل أهل الخيام أكثر تهيبا من بناء المساكن وغرس الأشجار ومجاورة المياه والتخلّق تبعا لذلك بطباع التوحش المنافي للعمران، علما أن شدة التعدّي والقهر في جباية المال يفضيان إلى نقص في “الكماليات الإنسانية” لدى الرعايا فينسلخوا عندها من طباع الأحرار وتنتفي عنهم الشجاعة والإباء والمروءة وحب الأوطان والغيرة عليها.

لا مراء في أن صاحب الإتحاف مدرك تماما للتصوّر الخلدوني بخصوص الدورة الطبيعية لحياة الدول، وفاهما لعلاقة قيامها بالغلبة والعصبية وآليات انهيارها المشدودة إلى إضعاف تلك العصبية قصد الانفراد بالمجد وانقطاع كل أمل في اكتساب الجاه خارج المحيط القريب من الملك، غير أن مثل هذه الدورة المؤسِسَة لا تصح من وجهة نظره الخاصة في غير سلاطين الحكم المطلق من حكّام المسلمين، لأن دول الفرس أو الدول المسيحية وفق تعبيره – تلك التي “وقف ملوكها عند حدود العقل”- غالبا ما امتدت حياتها على مدى قرون متعاقبة. وهو ما ينهض حجة على أن قراءة صاحب الإتحاف لمساوي الإطلاق في الحكم لم تكتف بترديد قوانين العمران كما تفتقت عليها عارضة ابن خلدون، بل حاولت اختبار مدى إجرائية تلك القوانين في ضوء طارئ مكتسبات عصور النهضة ومقتضيات الإصلاح السياسي. الأمر الذي سمح له بتجاوز مدلول الشرعية المبني على الغلبة المعتضدة بالدين، معتبرا وفي إلماع ذو دلالة بليغة أن التمادي في الجور مؤذن بإلغاء الحاجة إلى الملك.

أما الدساتير أو القوانين فمعتَبَرة في رأي مؤلف الإتحاف بما يُقصد منها من ترتيب الأمور على شاكلة ما عاينه مشاهدة لدى مصاحبته لأحمد باي في زيارته الباريسية سنة 1846. وهو أمر شدّدت عليه شهادات غيره ممن أسعفهم الحظ بمعاينه نفس الأوضاع وتدوينها على غرار الشيخ الطهطاوي والمصلح خير الدين. ولعل أبلغ ما تم إيراده بهذا الصدد هو الدعوة إلى التدرّج في سن القوانين تحقيقا لمقصد العدل، تأسيا بالخطط المتّبعة من قبل الدول القوية عبر التمسّك بالاستقامة وتوسيع دائرة العيش بإقامة المعامل والزيادة في الإنتاج وفتح باب المتاجرة بعد تأمين مسالكها البرية والبحرية والحديدية، لأن هذا التدرّج هو ما سمح لممالك أوربا الناهضة بتحقيق ما “كانت تطلبه من العمران…ولو طمحت أنظار حكامها إلى التحسين من أول الأمر ( وهي إشارة بليغة لمعوّقات الإصلاح الفوقيّ التونسي) ما حصلوا هذه الدرجة وهذا معلوم بالمشاهدة”. كما يسوق ابن أبي الضياف من بين شروط الجديدة لشرعية الفعل السياسي وجوب تأسيس مجلس نيابي على شاكلة ما هو معمول به أوروبيا. ويتمثل دور أعضائه المنتخبين بالاقتراع في “الوكالة على العامة حفظا لحقوقهم الإنسانية بغير خروج عن الطاعة”، معتبرا أن صلاحيات أعضاء هذا المجلس بمقتضي شرعية التوكيل الذي بين أيديهم مُساءلة سلطة التنفيذ التي يمثلها الوزراء وبقية الفاعلين السياسيين، لأن الممالك “لا تكون على نهج الاستقامة إلا إذا كانت الدولة طالبة ومطلوبة”، والدولة المقيدة بقانون “طالبة لما لها من الحقوق الملكية ومطلوبة بما عليها من الحقوق القانونية”.

هكذا حافظت “ذاكرة التاريخ” على سيرة حياة مؤلف الإتحاف وأعلت من شأو رهاناتها. فقد تمكّن هذا الرجل الفرد ومن خلال التصدي لوضع مؤلف تاريخي فارق، وبالتعويل على العبرة الموفية بالغرض عبر صياغة روائية لا يعرف سرّها سواه، أن ينحت في مخيال أجيال متعاقبة من التونسيين تشبث لافت بالدساتير، وهي المعيار في تقييم مدى تمسك الأمم بالقوانين. لذلك فإن أبلغ ما يمكن أن نغلق به سجل هذه الخواطر التي كيّفناها بكثير من الحرية قصد فهم سيرة واحد ممن شكلوا ما سبق لنا وأن وسمناه بـ”تاريخ التونسيين”، هذه الواقعة التي استجلبها صاحب الإتحاف للتعبير عن ثبات جنان زعيم المصلحين خير الدين. فقد جاء في تلك المرويّة أنه وعلى إثر قراءة البند الأول من لوائح عهد الأمان بحضرة الباي امحمد طفق أحد المتزلفين – وما أكثرهم – مخاطبا الباي:” أي شيء بقي لسيدنا؟” وأمام وجوم الحاضرين أجاب خير الدين على السجية: “بقي لــ[ـه] ما بقي للسلطان عبد الحميد، وما بقي لسلطان فرنسا وسلطنة بريطانيا وغيرهم من سلاطين القانون”.