بقلم:الأستاذ الهادي كرّو

مـفـهـوم استـقلال القـضاء

ما من شك في أن المقصود باستقلال القضاء عند عامة الناس هو قدرة القاضي على إحباط سعي أصحاب الجاه و المال في إملاء الحكم عليه.

ومن المؤكّد أنه لن يكون لاستقلال القضاء المعنى المذكور في هذه الدراسة لأن النيل من إستقلال القضاء أمر ممكن ما بقي في المجتمع الواحد قضاة ورجال سلطة وأصحاب جاه ومال متعايشين.

وبما أنّ المجتمع لا يمكنه الاستغناء عن القضاة وعن الفئتين الأخريين لذا فإن التعايش بينهم أمر ضروري لا مفرّ منه.

وعلى كل فإن تدخّل أصحاب النفوذ في شؤون القضاء هو ظاهرة اجتماعية لا تنال أصلا من سلطة القضاء وكنهها وهي معضلة تصيب بعض الأفراد من ذوي الإرادة الضعيفة.

حقا إن مناعة الاستقلال مرآة لشخصية القاضي وأخلاقه لأنه اكتسب الاستقلال عن جدارة بمجرد إختاره الانتماء لسلطة معترف لها من الدستور بالاستقلال ولذا لم يبق له بعد أن أصبح قاضيا سوى الذود عن هذه المكاسب ولا يتطلب ذلك سوى الرجولة.

لا خوف على استقلال القضاء مادام القضاة يغارون عليه ويتصدون بكل قوّة لمن يحاول النيل منه مهما عظم نفوذه.

إن كان النيل من استقلال القضاء بالطريقة المذكورة هو ظاهرة عرضية وإنّ إمكانيّة التصدّي لها موجودة عند أهل الشأن أنفسهم وهي من شيم القضاة الكرام فإنّ النيل من استقلال القضاء بطريقة أخرى يبقى واردا وهو أمر خطير يتجسّم في وجود قوانين وتراتيب تحدّ من ممارسة المهنة بحريّة تمنع من النطق بالحكم اللازم النزيه وبهذه الطريقة يتمّ النيل من استقلال القضاء والإطاحة به بالكيفيّة التي سنحاول بيانها في هذه الدراسة التي تبقى في حاجة إلى المراجعة خاصّة عند تنقيح القانون بما يعزّز إستقلال القضاء ويتعارض معه.

وبذلك يتأكّد أنّ المقصود باستقلال القضاء في هذا الموطن هو قدرة القاضي على معالجة القضايا المتعهّد بها بكلّ حرّية وإصدار الأحكام المحقّقة للعدل والمبنية على اجتهاده النزيه المطلق.

لا شكّ في أن الاستقلال معترف به للقاضي بمجرّد إنتمائه للسلطة القضائية وإنتدابه بالخصوص للفصل وللنطق بأحكام حاسمة للنزاع لا يجد بعدها المتقاضون حرجا في أنفسهم مما قضى ويسلّموا به تسليما.

أمّا حريّة الفصل فإنّها تتجسّم في قدرة القاضي على التعهّد بالنوازل بصفة طبيعية والفصل فيها حسب إجتهاده المطلق والحاسم للنزاع.

لذا وجب التعرّض إلى مفهوم السلطة القضائيّة في الفصل الأول وإلى أركان استقلال القضاء في الفصل الثاني

مفهوم السلطة القضائيّة

إنّ التساؤل عن حال القضاء في مجتمع معيّن هو تأكيد لوجود سلطة قضائيّة في هذا المجتمع إلاّ أنّ الوجود المادي وحده لا يكفي لأن المهمّ هو أن تكون لهذه مكانة في الدولة وما تتمتّع به من استقلاليّة.

لذا وجب التعرّض إلى مكانة السلطة القضائيّة في الدولة ثمّ إلى مدى استقلاليتها.

مكانة السلطة القضائية في الدولة

ما من شكّ في أنّ التطور الاجتماعي زاد المعاملات تشعّبا والاعتداءات حدّة وهو ما يِؤكّد ـ مرّة أخرى ـ أنّ مؤسسة القضاء ضرورة اجتماعية وهي إحدى السلط الثلاث التي يرتكز عليها النظام الجمهوري وهي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية علما وأن كل سلطة هي مستقلة عن الأخرى.

ودون حاجة إلى الخوض في الجدل الذي قسّم رجال القانون إلى فريقين:

أحدهما يقول بأنّ القضاء سلطة في الدولة مثل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والآخر يقول بأن القضاء ليس سلطة مثل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وإنما هو مؤسسة ذات نفوذ في الدولة (1) فإن الذي تهمنا معرفته في هذا الموطن هو موقف المشرّع التونسي من القضاء ومن استقلاله.

مفهوم السلطة القضائيّة في التشريع التونسي

لقد أقرّ الدستور التونسي النظام الجمهوري وتعرّض لسلط الدولة الثلاث وهي:

السلطة التشريعية وقد خصّص لها بابه الثاني.

2) السلطة التنفيذية وقد خصّص لها بابه الثالث علما وأنّ هذا الباب يحتوي على قسمين اثنين أوّلهما مخصّص لرئيس الجمهورية وثانيهما للحكومة وهو الباب الوحيد في الدستور الذي حضي بهذا التقسيم.

السلطة القضائية وقد خصّص لها بابه الرابع الذي تضمن الفصول التالية:

ـ الفصل 64: تصدر الأحكام بإسم الشعب وتنفذ بإسم رئيس الجمهورية

ـ الفصل 65: القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون

ـ الفصل 66: تسمية القضاة تكون بأمر من رئيس الجمهورية بمقتضى ترشيح من مجلس القضاء الأعلى وكيفية إنتدابهم يضبطها القانون.

ـ الفصل 67: الضمانات اللازمة للقضاة من حيث التعيين والترقية والنقلة والتأديب يسهر على تحقيقها مجلس أعلى للقضاء يضبط القانون تركيبه وإختصاصاته.

لئن تعرّض الدستور للسلطة القضائية مثلما تعرّض للسلطة التنفيذيّة وللسلطة التشريعية فإنّه يتعيّن بيان القيمة التي أقرّها لها مع تحديد طبيعة علاقتها بالسلطتين الأخريين.

القيمة الدستورية للسلطة القضائية

حتى نعرف القيمة الدستوريّة للسلطة القضائية نحاول مقارنتها بالسلط الأخرى من ناحية رتبتها وعدد الفصول المخصصة لها وهيئات القضاء المنتمية لها.

فبخصوص الرتبة:

إن الرتبة التي أعطاها الدستور للسلطة القضائية عند تعرّضه للسلط التي تتكوّن منها الدولة هي الرتبة الثالثة وبما أن عدد هذه السلط ثلاثة فإن للسلطة القضائية المرتبة الأخيرة.

فبخصوص عدد الفصول:

بالرّجوع إلى الدستور قبل تنقيحه (1) قصد مقارنة عدد الفصول التي أقرّها لكل سلطة من سلط الدولة يتّضح أنه:

1 ـ خصّص للسلطة التشريعية تسعة عشر فصلا (2)

2 ـ خصّص للسلطة التنفيذيّة سبعة وعشرون فصلا (3)

3 ـ خصّص للسلطة القضائيّة أربعة فصول (4)

ولو تناولنا بالمقارنة طول الفصول لأبرزت المقارنة أنّ الإيجاز الذي حظيت به فصول السلطة القضائية يجعل مجموعها أقلّ طولا من الفصلين 62 و 63 من بين السبعة والعشرين فصلا المخصّصة للسلطة التنفيذيّة.

على كل فبعد أن تعرّض الدستور للسلطة القضائية بين سلط الدولة الثلاثة فمن البديهي أن تكون لهذه السلطة وحدها مهمّة ممارسة شؤون القضاء بكلّ أنواعه، فهل أقرّ الدستور هذا المبدأ وهل عهد بمهمّة القضاء بأنواعه للسلطة القضائية وحدها ؟

السلطة المؤهلة للقضاء في الدستور

من المفروض أن يخصّص الدستور للسلطة القضائية مؤلفة من كلّ هيئاتها بابا على غرار الطريقة المتوخّاة منه بالنسبة للسلطتين التشريعية والتنفيذية ومع ذلك فإنه خصّص الباب الرابع للسلطة القضائية والباب الخامس للمحكمة العليا والباب السادس لمجلس الدولة.

لا شكّ أن المحكمة العليا ومثلها مجلس الدولة لا تشكّل كل هيئة منهما سلطة تظاهي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذيّة علما وأن الدولة ترتكز أساسا على سلط ثلاث ومع ذلك فإن المحكمة العليا هيئة قضائية قائمة بذاتها ومجلس الدولة هيئة قضائية قائمة بذاتها هي الأخرى حسب الدستور.

لئن تعدّدت في الدستور هيئات القضاء فهل تنتمي كلّها إلى السلطة القضائيّة؟

انتماء هيئات القضاء؟

تعرض الدستور إلى ثلاث هيئات قضائية وهي:

هيئة القضاة

المحكمة العليا

مجلس الدولة

وبما أنّه خصّص لكلّ هيئة بابا فإن هذا الإجراء يفيد من البداية بأنه من الممكن أن لا تنتمي كل هذه الهيئات لسلطة واحدة وإلى السلطة القضائيّة بالخصوص

هذا هو قصد الدستور لأنّه لو أقرّ خلاف ذلك بأن جعل كل الهيئات تنتمي لسلطة واحدة وهي السلطة القضائية لخصّص عندئذ للمحكمة العليا القسم الأوّل من الباب الرابع ولمجلس الدولة القسم الثاني منه على غرار التقسيم الوارد في الباب الثالث المتعلّق بالسلطة التنفيذيّة حين خصّص القسم الأوّل لرئيس الجمهوريّة والقسم الثاني للحكومة.

لئن كانت هذه الهيئات القضائية لا تنتمي إلى السلطة القضائيّة فإلى أي سلطة أخرى تنتمي هذه الهيئات القضائية ؟

لنبدأ بالمحكمة العليا ثمّ بمجلس الدولة ومؤسّسات القضاء الأخرى لنصل إلى هيئة القضاء.

1) المحكمة العليا:

لقد خصّص الدستور بابه الخامس للمحكمة العليا وهو يشتمل على فصل وحيد (5) وحسب هذا الترتيب فإنّ المحكمة العليا لا تتبع السلطة القضائيّة لخروجها عن الباب الرابع من الدستور وتفرّدها ببابه الخامس.

2) مجلس الدولة

لقد أقرّ الفصل 69 من الدستور أن مجلس الدولة يتركب من:

1 ـ المحكمة الإدارية

2 ـ دائرة المحاسبات

وأن تركيب مجلس الدولة ومشمولات أنظاره وإجراءاته يضبطها القانون

وقد صدر القانون عدد8 لسنة 1968 المؤرخ في 08 مارس 1968 المتعلق بتنظيم دائرة المحاسبات وإقتضى فصله الثاني أن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس الدولة وكاتب الدولة للرئاسة (الوزير الأول) هو وكيل الرئيس وأن يلحق مجلس الدولة إداريا بكتابة الدولة للرئاسة(الوزارة الأولى)

كما صدر القانون عدد 67 لسنة 1972 المؤرخ في غرّة أوت 1972 والمتعلق بتسيير المحكمة الإدارية وضبط القانون الأساسي لأعضائها وأحدث مجلسا أعلى خاصا بهذه المحكمة يترأسه الوزير الأول حسب الفصل 7

ولا حاجة إلى مزيد التأكيد بأن هذه المؤسسة راجعة بالنظر إلى السلطة التنفيذية

3) مؤسسات القضاء الأخرى:

سوف لن يقع التعرّض في هذا المجال لمحكمة أمن الدولة التي لم يبق لها وجود بعد أن حذفت ومع ذلك لا يمكن القول بأن كل المؤسسات الأخرى تابعة للسلطة القضائية أمام وجود مؤسسة القضاء العسكري.

المحكمة العسكرية

لقد أحدث الأمر الصادر بتاريخ 10 جانفي 1957 محاكم عسكرية ونصبها للحكم زمن السلم وبصفة دائمة بداية من غرّة فيفري 1957 (6)ويشمل مرجع نظرها كامل تراب البلاد التونسية (7)

ومن المعلوم أن هذه المحاكم لا تقضي إلا في دعوى الحق العام ولا يمكن القيام لديها بالحق الشخصي (8)

ورغم أن القضاء العسكري جزائي بصفة عامة فإنه يختص بإجراءات تختلف عن الإجراءات المتبعة في القضاء الجزائي العادي منها التتبع الذي لا يجرى في القضايا الراجعة بالنظر إلى المحاكم العسكرية إلا بأمر من وزير الدفاع الوطني (9) إلا أنه يمكن للمدعي العام أو قاضي التحقيق في حالة التلبس مباشرة الأبحاث طبق القانون وعلى المدعي العام أن يعلم بذلك فورا وزير الدفاع الوطني لإستصدار أمر بالتتبع (10)

ويبقى هذا القضاء عسكريا وخاصا رغم أن رئيس المحكمة العسكرية الدائمة يجب أن يكون وقت السلم قاضيا مدنيا (11) لأن المحكمة تشمل بالإضافة إليه على أربعة أعضاء عسكريين وأن الرئيس يتمّ تعيينه بأمر بناء على طلب من وزير العدل ولمدّة عام قابل للتجديد (12)

ومن البديهي أن تعهد إلى العسكريين في هذا النظام القضائي وظائف النيابة العمومية والضابطة العدلية والتحقيق الأولي والمساعدة القضائية.

وقد ضبطت مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية مرجع النظر الموضوعي والشخصي لهذه المحكمة في فصولها من 5 إلى 9 (13)

وبذلك نصل إلى القول بأن هذه المؤسسة تابعة للسلطة التنفيذية وبالتالي فهي غير تابعة ـ هي الأخرى ـ للسلطة القضائية وبأنه لم يبحث إستقلال القضاء موطنا آخر سوى هيئة القضاء العادي

وإن ما يميز هذه المحكمة تمييزا أن قراراتها تعلوا قرارات المحاكم العادية منها:

1) إن السلطات القضائية العسكرية هي وحدها التي تقدر ما إذا كانت القضية راجعة بالنظر إليها أم لا؟

2) أن كل خلاف يثار لدى سلطة قضائية أخرى في شأن مرجع النظر يحال على السلطة القضائية العسكرية لتفصل فيه قبل النظر في أساس الدعوى (14)

وعلى كل فإن ما يبرّر وجود هذه المحكمة المختصة هو إقتصارها على النظر في الجرائم العسكرية وتبقى بذلك مؤسسة تابعة للسلطة التنفيذية وبالتالي فهي غير تابعة ـ هي الأخرى ـ للسلطة القضائية.

وفي النهاية فإنه لم يبق لبحث إستقلال القضاء موطنا آخر سوى هيئة القضاء العادي

هيئة القضاء العادي

بعد أن ثبت خروج المحكمة العليا ومجلس الدولة والمحكمة العسكريّّة عن السلطة القضائية التي تعرّض لها الدستور في بابه الرابع فما هو المقصود بهذه الهيئة؟

حقّا لم يبق لتجسيم وجود السلطة القضائيّة في الواقع سوى هيئة القضاء العادي.

لكن حتى تكون هذه الهيئة هي السلطة القضائيّة التي تعرّض لها الدستور لابدّ أن يثبت أمر هام يتعلق بتفريق هذه السلطة عن السلط الأخرى تطبيقا للمبدأ الدستوري الصريح، تضمّنته التوطئة حين أعلن ممثّلوا الشعب التونسي المجتمعين في مجلس قومي تأسيسي بأنّ الشعب مصمّم على إقامة ديمقراطيّة قوامها نظام سياسي مستقر يتركّز علي قاعدة تفريق السلط.

ومن الطبيعي أن يكون استقلال القضاء نتيجة حتميّة لتفريق السلط واستقلال كل واحدة منها عن الأخرى.

ولقد اكتفى الدستور بما أقرّه بالتوطئة بخصوص تفريق السلط ولم يتعرّض لإستقلال السلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذيّة ضمن البابين الثاني والثالث المخصّصين على التوالي لهما في حين تعرّض لإستقلال القضاة وليس القضاء في فصله 65 من بابه الرابع المخصّص للسلطة القضائيّة.

ما هو سبب تمييز القضاة وما هي غاية هذا التأكيد علما وأنّ مبدأ تفريق السلط أقرّته التوطئة بصفة صريحة بالنسبة لجميع السلط أما مبدأ الاستقلال فإنّه ضمنيّ بالنسبة للسلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة وهو صريح بالنسبة للقضاة في الدستور.

وعندي أنّ الدستور ما كان يحتاج لهذا التأكيد لو عهد بالقضاء في الدولة لهيئات تابعة كلها لسلطة واحدة وهي السلطة التشريعية لأنّ ما يساعد على وجود استقلال القضاء ويضمن بقاءه هو تكفّل السلطة القضائيّة دون سواها بإدارة شؤون جميع الهيئات المنتصبة للقضاء في البلاد وبالسهر على دواليب نظامها القضائي.

وبغياب هذه القاعدة يتعيّن البحث عن قصد الدستور من “الاستقلال” الوارد في فصله 65 القائل بأنّ: ” القضاة مستقلّون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون”؟

إستقلال القضاء وتوطئة الدستور

إنّ استقلال السلطة القضائيّة معترف به في توطئة الدستور وذلك بمناسبة إعلان عزم الشعب بواسطة نوابه أعضاء المجلس الدستوري على إقامة ديمقراطية قوامها نظام سياسي مستقرّ يرتكز على مبدإ تفريق السلط.

ودون خوض في الجدل القائم بين رجال القانون العام حول القيمة القانونيّة للقواعد الواردة بتوطئة الدستور فإننا نتبع ـ من البداية ـ وردّا لهذا الجدل رأي القائلين بأن للتوطئة قيمة دستوريّة تضاهي قيمة أحكام الدستور نفسه وهم الأكثر عددا والأمتن حجّة.

ولذا فمن نتائج قاعدة تفريق السلط الموجودة بالتوطئة إستقلال السلطة القضائية وبالتالي إستقلال القضاء.

ولا يفيد الاستقلال بأن السلطة القضائية لا تخضع للقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية وتنفذها السلطة التنفيذية لأنه لو تحقّق هذا الأمر لأصبحت كلّ سلطة دولة وسط الدولة في حين أنها سلطة وسط الدولة ولكن الاستقلال يفيد تطبيقا للمبدأ الدستوري القاضي بتفريق السلط، أن القوانين التي تخضع لها السلط القضائية لا بدّ أن تكون دستوريّة ولا بدّ أن تكون محترمة لمبدإ تفريق السلط المعترف به في التوطئة وأن تكون بالتالي محترمة لاستقلال القضاء والقضاة.

إن الاستقلال هو الأصل في القضاء وليس للقانون أن يتدخل في شؤونه وعليه دستوريا أن يدعّمه وأن يضمن مناعته.

وهي قاعدة دستورية لا بدّ أن تسود كلّ قوانين البلاد وإن كان على قواعد القانون العادي أن تكون متّفقة مع القواعد الدستوريّة ومحترمة لها فمن باب أولى وأحرى أن تكون قواعد الدستور المتعلّقة باستقلال القضاة متّفقة مع قاعدة تفريق السلط التي أقرّتها صراحة توطئته وأن يتمّ الانسجام الكامل بينهما بخصوص مفهوم استقلال القضاء.

تلك إذا هي مقتضيات التوطئة المتعلّقة بتفريق السلط وبالتالي باستقلال القضاء ومفهومه فهل تتفق هذه المقتضيات مع مقتضيات الدستور المتعلّقة باستقلال القضاء عموما ؟

مفهوم استقلال القضاء في الدستور

جاء بالفصل 65 من الدستور أنّ ” القضاة مستقلّون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون”

إنّ قراءة سريعة لهذا الفصل تبيّن أنّ المخاطب بخصوص الاستقلال هم القضاة وليست السلطة القضائية.

وبصرف النظر عن الجدل الفكري الذي تثيره محاولة التمييز بين مدلول استقلال السلطة القضائية ومدلول استقلال القضاة فإنّه يكفي الإشارة إلى:

1) أن المقصود بالسلطة القضائية في الدستور هي هيئة القضاء العادي.

2) وأن القضاة التابعين لهذه الهيئة مستقلّون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون.

ولذا المهمّ أن نعلم ما هو المقصود بهذا الاستقلال.

يفيد الدستور أن القضاة مستقلّون لكنّ هذا الاستقلال ليس تاما وإنّما هو مقيّد بهذا القانون لأن القضاة لا سلطان عليهم في قضائهم سوى القانون

فما هو القانون الذي هو سلطان على القضاة في قضائهم؟

يمكن القول في المعنى المذكور أن القانون المتعلق بالقضاة وبالنظام القضائي لا يكون دستوريا إلا إذا كان مجسّما لمبدأ تفريق السلط كما أنّه لا يكون دستوريا القانون الذي يحدّ من إجتهاد القاضي الشخصي ويمنعه من القضاء الحاسم لأنه لا خوف على القاضي من الضغوط التي تعترضه والرامية إلى حمله على إعتبار الأشخاص والمصالح في قضائه (15) لأن أمر صدّ التدخل موكول بالخصوص لضمير القاضي وشجاعته.

وإن القانون الضامن لإستقلال القاضي هو نتيجة حتمية لمبدأ تفريق السلط الذي أقرّه الدستور وأن ما يدعّم وجوده ويضمن دوامه في الواقع هو تمكين السلطة القضائية من:

قانون أساسي كفيل بالمحافظة على كرامة القاضي في ممارسة مهنته وترقيته ونقلته.

تشريع خال من القيود المعطلة للنطق بكلّ حرية بالأحكام العادلة والحاسمة للنزاع

I القانون الأساسي للقضاة

هل القانون الأساسي للقضاة متّفق مع أحكام الدستور المتعلق بمبدإ التفريق بين السلط واستقلال القضاة؟

للإجابة عن هذا السؤال يتعيّن الرجوع إلى القانون المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة وهو القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرّخ في 14 جويلية 1967 (16)والذي وقع تنقيحه مرارا عديدة (17).

يحتاج القاضي بداية من انتدابه وبمناسبة كلّ تطوّر يحصل في حياته المهنيّة إلى صدور أمر من رئيس الجمهورية بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للقضاء أحيانا

ولذا فإنّ السلطة التنفيذيّة هي التي تتولّى تسمية القاضي وترسيمه وتعيينه وترقيته ونقلته.

يسمّي القاضي من بين الملحقين القضائيين المحرزين على شهادة المعهد الأعلى للقضاء الذي عرض وزير العدل ملفاتهم على المجلس الأعلى للقضاء لإبداء الرأي ثم على رئيس الجمهوريّة ليتولى تسميتهم قضاة

ويعيّن القاضي لأوّل مرّة بأمر وتكون التسمية في درجة البداية من الرتبة الأولى ويكون إما قضايا جالسا أو عضوا للنيابة العموميّة ولذا يعيّن في الصورة الأولى قاضيها بالمحكمة الإبتدائية أو بمحكمة ناحية ويعيّن في الصورة الثانية مساعدا لوكيل الجمهوريّة لدى المحكمة الابتدائية.

يرسم القاضي بأمر بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للقضاء بعد انقضاء مدّة تأهل تدوم سنة بداية من تاريخ الممارسة الفعليّة لمهنة القضاء.

ويعيّن القاضي طيلة حياته المهنيّة بأمر بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للقضاء تعيينا يكسبه مركزا في السلك القضائي يضبط بحسب الرتبة والوظيفة.

أ ـ أما رتبته فتكون إحدى الرتب الثلاث التي يشتمل عليها السلم القضائي وهي:

ـ الرتبة الأولى وفيها:

أ ـ قضاة المحاكم الابتدائية والمحاكم العقاريّة.

ب ـ مساعد وكيل الجمهوريّة:

2 ـ الرتبة الثانية:

وفيها: أ) المستشار بمحكمة الاستئناف.

ب) مساعد الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف.

3 ـ الرتبة الثالثة:

وفيها: أ) المستشار بمحكمة التعقيب.

ب) المدعي العام لدى محكمة التعقيب.

كما تحدّد بأمر من رئيس الجمهوريّة درجات الأقدميّة التي توجد في كلّ رتبة ويضبط بأمر التدرّج في الرقم القياسي المنطبق على رتب القضاء.

ج) أما وظيفة القاضي فهي إحدى الوظائف التي يمارسها القاضي في كلّ رتبة من الرتب الثلاث للسلم القضائي وهي التالية:

( أ ـ 1 ):

ـ رئيس أوّل لمحكمة التعقيب

ـ وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب

ـ وكيل الدولة العام مدير المصالح العدليّة

ـ متفقّد عام بوزارة العدل

ـ رئيس المحكمة العقاريّة

ـ رئيس أوّل لمحكمة الاستئناف بتونس

ـ وكيل عام لدى محكمة الاستئناف بتونس

( أ ـ 2 ):

ـ رئيس دائرة بمحكمة التعقيب

ـ مدّعى عام أوّل لدى محكمة التعقيب

ـ رئيس أوّل لمحكمة استئناف بغير تونس

ـ وكيل عام لدى محكمة الاستئناف بغير تونس

ـ مدّعى عام مساعد لوكيل الدولة العام مدير المصالح العدليّة

ـ متفقّد عام مساعد بوزارة العدل

ـ مدّعى عام مستشار لدى وزير العدل

ـ مدّعى عام، مدير عام للدراسات والتشريع

ـ رئيس المحكمة الابتدائيّة بتونس

ـ وكيل أوّل لرئيس المحكمة العقاريّة

( أ ـ 3):

ـ رئيس دائرة بمحكمة استئناف

ـ رؤساء المحاكم الابتدائيّة بسوسة وصفاقس والكاف والمنستير

ـ وكلاء الجمهوريّة لدى المحاكم الابتدائيّة بتونس وسوسة وصفاقس والكاف

ـ مدّعى عام بإدارة المصالح العدليّة

ـ متفقّد بوزارة العدل.

ب ـ

ـ رئيس محكمة ابتدائيّة منتصبة بغير مقرّ محكمة استئناف

ـ وكيل جمهوريّة لدى محكمة ابتدائيّة منتصبة بغير مقرّ محكمة استئناف

ـ وكيل رئيس محكمة ابتدائيّة

ـ قاضي التقاديم

ـ قاضي تحقيق أوّل

ـ مساعد أوّل لوكيل الجمهوريّة لدى محكمة ابتدائيّة منتصبة بمقرّ محكمة استئناف

ـ وكيل رئيس المحكمة العقّاريّة

ـ رئيس محكمة ناحية منتصبة بمقرّ محكمة استئناف

ـ مساعد مدّعى عام بأداة المصالح العدليّة

ـ متفقّد مساعد

ج ـ

ـ رئيس دائرة شغل

ـ قاضي محكمة ناحية

ـ قاضي أحداث

ـ قاضي تحقيق

ـ قاضي رئيس اللجنة الخاصّة لتوظيف الأداء

ـ قاضي مقرّر بالمحكمة العقاريّة

ـ قاضي المنح العائليّة بالمحكمة الابتدائيّة بتونس

ـ مساعد وكيل الجمهوريّة

والملاحظ أن هذه الوظائف التي يمارسها القضاة والموزّعة بين الرتب الثلاث للسلم تجعل السلك القضائي يتألّف في مجموعة من:

القضاة الجالسين

أعضاء النيابة العموميّة

القضاة التابعين لإطار الإدارة المركزيّة بوزارة العدل (18)

وهكذا فإن القاضي يعيّن بأمر ليشغل وظيفة قاض جالس أو عضو بالنيابة العموميّة أو ملحق أو تابع لإطار الإدارة المركزيّة بوزارة العدل دون أن يختار وظيفته ودون أن يتحكّم فيه اختصاص معيّن أو تكوين مسبق أو شهادات علميّة مؤهّلة.

وحتى يسهل على السلط المختصّة نقلة القاضي من وظيفة أخرى فإنّه يوجد تنظير بين الوظائف الموزّعة على الرتب ومساواة تيسر نقلة القاضي في رتبته من الفضاء الجالس إلى النيابة العموميّة والإدارة المركزيّة بوزارة العدل.

إن كان لا يمكن للقاضي حسب قانونه الأساسي أن يرفض الوظيفة التي تسندها له السلطة التنفيذيّة فهل تضمن له هذه الوظيفة الاستقلال المعترف له به من الدستور؟

I ـ القاضي بوزارة العدل:

قيل أن ما يبرّر وجود القضاة بوزارة العدل هي مصلحة إسناد إدارة شؤون القضاة للقضاة أنفسهم إلاّ أن الرأي لا يستقيم في الصورة التي لا يكون فيها لهؤلاء القضاة تكوين إداري مسبق واختصاص بمنعهم من التنقّل غير المحدود من قصر العدالة إلى وزارة العدل أو العكس.

والمسلّم به ـ من ناحية ـ أن القاضي المعيّن لممارسة وظيفة بوزارة العدل لا يعترف له الدستور بالاستقلال لأن القاضي مستقل في قضائه وليس لهذا القاضي قضاء.

وتطبيقا لتوطئة الدستور التي تقرّ تفريق السلط فإن القاضي التابع للإدارة المركزيّة بوزارة العدل يكون في وضعيّة مهنيّة غير دستوريّة إلا إذا سلّمنا بخروجه هو الآخر عن السلط القضائيّة وبذلك ينقض عدد هيئة القضاء العادي وتتقلص دائرتها.

II ـ القاضي عضو النيابة العموميّة:

لم تكف خمسة وسبعون سنة من الاحتلال الفرنسي وما يزيد عن الخمسين سنة من الاستقلال ليفهم جلّ أفراد الشعب التونسي مؤسّسة النيابة العموميّة ويرتاحون لأعمالها.

يكون القاضي الجزائي فضوليّا حسب التطوّر الشعبي ومتدخّلا فيما لا يعنيه عندما يسقط المتضرّر دعواه وتبقي المحاكمة متواصلة ويصدر العقاب على المتعدّي بدعوى أنّ التتبّع حاصل من النيابة العموميّة وأنّه من مشمولات الحق العام.

وعليه لا يكون التتبع من خصائص الحق العام إلاّ إذا نتج عن الجريمة البشعة اعتداء على المجتمع أما في الصورة التي يصفع فيها شخص آخر من الصعب التسليم بأن المعتدي عليه لا يمكنه في مثل هذه الحال إيقاف التتبع بإسقاط الدعوى لأن الصفعة لحقت بالمجتمع هذا المجتمع الذي يتأذّى ولا يعتبره القانون جريمة إلاّ إذا قام الزوج المعتدى عليه بالتتبع وله وحده الحقّ في إيقاف التتبع وحتى في إيقاف تنفيذ العقاب طبقا لأحكام الفصل 236 من المجلّة الجنائيّة وعندما يسقط الزوج دعواه تسلم الزوجة من العقاب وينتفع الشريك بصفح الزوج الكريم(19) علما وأن هذا الحقّ، والحقّ يقال، معترف به للزوجة أيضا.

حقا إن بعض النفوس غير مهيأة لقبول هذه المفاهيم أما النيابة العموميّة موجودة والمهمّ في هذا الموطن العودة للموضوع لنعلم هل هي مستقلّة أم لا لأنّها جزء من السلك القضائي وهي ممثلة بجميع المحاكم إذ:

1 ـ يوجد بمحكمة التعقيب وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب ومساعدوه (20)

2 ـ ويوجد بمحكمة الاستئناف الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف ومساعدوه (21)

3 ـ ويوجد بالمحكمة الابتدائيّة ومحكمة الناحية وكيل الجمهوريّة ومساعدوه (22)

إن ما يمتاز به القضاة أعضاء النيابة العموميّة عن القضاة الجالسين يجعلهم أعلق بالسلطة التنفيذيّة وأقرب إليها منهم ومن بين هذه الميزات.

حريّة التتبع والإذن بعدم التتبع:

للنيابة العمومية سلطة تقديرية في ملاءمة وتكييف التتبعات واختيار الوقت المناسب لإثارة الدعوى العمومية وأخذ القرار الذي تراه صالحا على أساس ما توفر لديها من أدلة وإرشادات.

كما لاجدال أن هذه المرحلة تصطبغ بالطابع الإداري ولا تخضع طبعا لرقابة المحكمة إذ أنه ليس لهذا التصرف أثر قانوني نهائي. وطالما أن هذا التصرف متواجد تحت نظرها وإشرافها فهي دوما حرّة في مواصلة حرّيتها والعدول عمّا قررته أولا وفق القواعد الإجرائية القانونية ما دام لم تعهد لغيرها بالقضية.

قرار تعقيبي جزائي عدد 27468 في 27 أكتوبر 1988

نشرية محكمة التعقيب ص 68

ورد بمجلة الإجراءات الجزائية، بلقاسم القروي الشابي صحيفة 20

من المعلوم بخصوص حرية التتبع أن وكيل الجمهوريّة مكلّف بمعاينة سائر الجرائم وتلقي ما يعلمه به الموظفون العموميين أو أفراد الناس من الجرائم وقبول شكايات المتعدى عليهم (23) وأن النيابة العموميّة تثير الدعوى العموميّة وتمارسها (24) بالتتبع الذي يبقي حقا يمكن لوكيل الجمهوريّة عدم ممارسته بما له من حريّة اجتهاد في تقرير مآل الشكايات والاعلامات التي يتلقاها أو التي تنهى إليه (25) إلاّ إذا أذن وزير العدل بإجراء التتبّعات بواسطة الوكيل العام.

لئن كانت حجّة القائلين بوجوب إعطاء وكيل الجمهوريّة حريّة التتبع وعدم جبره على إحالة المتعدى على المحكمة ولو أثبتت الأبحاث بعد وقوع الجريمة لعدم خطورة الفعلة أو لعدم خطورة الجاني الذي يستحسن إعفاءه من العقاب هذه المرّة فإنه فإنه قد تكون حريّة عدم التتبع طريق للسلطة التنفيذيّة تمكّنها من إعطاء الإذن بالتتبع في حالات يستحسن فيها إجتماعيا أو شعبيا عدم التتبع وإمّا بعدم التتبع في حالات يستحسن فيها وكيل الجمهوريّة التتبع.

الإذن بالتتبع:

إن أعضاء النيابة العموميّة في وضعيّة إداريّة تجعلهم يتلقّون الأوامر من وزير العدل.

ـ ففي محكمة التعقيب يتلقى الأوامر وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب من وزير العدل للقيام بتعقيب الأحكام والقرارات الصادرة في الأصل نهائيا (26) ويرفع بالنسبة إليه فقط أجل الطعن من عشرة أيام إلى ستين يوما بداية من تاريخ صدور الحكم.

ـ وبالنسبة لمحكمة الإستئناف فإن أوامر وزير العدل يتلقاها منه الوكيل العام الذي ينفّذها بنفسه أو بواسطة مساعديه.

ـ وأما في المحكمة الابتدائية فإن أوامر وزير العدل يتلقّاها الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف وتنفّذ بواسطة وكيل الجمهوريّة لأن الوكيل العام سلطة على سائر ممثلي النيابة العموميّة التابعين لمحكمة الاستئناف.

ث ـ في محكمة الناحية فإن أوامر وزير العدل يتلقاها الوكيل العام الذي يطلب بدوره من وكيل الجمهوريّة تقديم الملحوظات الكتابيّة التي يرى الوزير من المناسب تقديمها.

3) حريّة الكلام:

إن القضاة أعضاء النيابة العموميّة غير مستقلّين قانونا عن السلطة التنفيذيّة رغم محاولات التشريع إخفاء هذه الحقيقة وذلك:

أ ـ عندما مكّنت مجلة الإجراءات الجزائية (27) وزير العدل من إعطاء الإذن للوكيل العام بأن يقدّم بنفسه أو بواسطة من يكلّفه للمحكمة المختصّة الملحوظات الكتابيّة التي يرى الوزير من المناسب تقديمها.

ب ـ وأعطى القانون الأساسي للقضاة طريقة تمكّن القاضي من تنفيذ أوامر السلطة التنفيذيّة وإرضاء ضمير القاضي في آن واحد وذلك حين أكّد أن القضاة أعضاء النيابة العموميّة خاضعون للإدارة ومراقبة رؤسائهم المباشرين ولسلطة وزير العدل إما أثناء الجلسة فلهم حريّة الكلام.

وقد أكدت ذلك مجلة الإجراءات الجزائية في فصلها 21 القاضي:

“على النيابة العمومية أن تقدم طلبات كتابية طبقا للتعليمات التي تعطى لها حسب الشروط الواردة بالفصل 23 وتتولى بسط الملاحظات الشفاهية بما تراه متماشيا مع مصلحة القضاء”

وتفيد حريّة الكلام هذه أن القاضي عضو النيابة العموميّة مجبور على تقديم طلباته الكتابيّة للمحكمة وفقا للأوامر المتلقّاة من السلطة التنفيذيّة إلاّ أنه يمكنه طلب يخالف هذه الطلبات وشرحها بما يتماشى مع شعوره الخاص في مرافعة شفاهيّة.

إنّها حقا صورة صارخة للنفاق المشروع (28) ولمخالفة القانون

من الثابت حدوث الإحراج القانوني في الصورة التي يقدم فيها ممثل النيابة العمومية طلبات رؤسائه وتكون مخالفة لطلبات مرافعته الشفاهية إذ في ذلك نشاز وعدم إنسجام مع أحكام الفصل 161 من مجلة المرافعات الجزائية القاضية بأنه لا يمكن للحاكم أن يبني حكمه إلاّ على حجج قدمت أثناء المرافعة وتمّ التناقش فيها أمامه شفويا وبمحضر جميع الخصوم .

لقد أكدت ذلك محكمة التعقيب في قرارها (29) الذي أعتبرت في إهمال المحكمة الردّ على الدفوعات الجوهرية التي أثارها لسان الدفاع دون تعليل ذلك يعتبر إخلالا جوهريا له إرتباط بالنظام العام تثيره المحكمة تلقائيا على معنى الفصل 259 من مجلة الإجراءات الجزائية.

كما إعتبرت محكمة التعقيب في قرار آخر (30)”أن إعتماد وثيقة قبلت بعد ختم الترافع في قضية خرق لأحكام الفصل 151 من مجلة الإجراءات الجزائية يجعل الحكم عرضة للنقض.”

4 ) وحدة النيابة العموميّة:

أما ميزة النيابة العمومية الأخرى فهي خلافا للقضاة الجالسين الذين لا يمكن أن يعوّض بعضهم الآخر كأن يحضر المرافعة قاض ثمّ ينوبه آخر في المفاوضة وإصدار الحكم (31) فإن أعضاء النيابة العموميّة يشكّلون وحدة يمكن بمقتضاها أن يعوض القاضي النيابة مثيله مهنيا وذلك أثناء سير أطوار القضيّة.

وفي النهاية لقد حرص المشروع على حرمان القاضي عضو النيابة العموميّة من استقلاله وذلك بأن جعله لا يخضع لسلطة رئيس المحكمة العامل بها أو لسلطة هيئة تابعة للسلطة القضائية وإنّما هو خاضع لسلطة وزير العدل عن طريق رؤسائه المباشرين (32) وهكذا فإن في ضمان إستقلال النيابة العمومية عن سلطة قضاء تأكيد لخضوعها للسلط التنفيذيّة.

وقد حرص المشرّع على أن يكون إستقلال أعضاء النيابة العموميّة عن السلطة القضائيّة استقلالا تاما وذلك حين لم يعط السلطة القضائيّة صلوحيّة مراقبة النيابة العمومية في أعمال الإثارة والتتبع وإجبارها على القيام بها وهي سلطة مكّن منها وزير العدل عندما يعطيها الإذن للوكيل العام بإجراء التتبعات سواء بنفسه أو بواسطة من يكلفه أو بأن يقدّم إلى المحكمة المختصة الملحوظات الكتابية التي يرى وزير العدل من المناسب تقديمها (33)

يمكن لوكيل الجمهورية إثارة الدعوى وتتبعها وهو أمر ممكن أيضا بالنسبة لوزير العدل وذلك حين أكّد المشرع أن وكيل الجمهوريّة يجتهد في تقرير مآل الشكايات والاعلامات التي يتلقاها أو التي تنهى إليه (34) علما وأن المشرّع حين مكّن المتضرّر من إثارة الدعوى العموميّة فإن نجاحها قليل وذلك لتقييد وقوعها بحفظ القضيّة المسبق من طرف وكيل الجمهوريّة ولتحميل المتضرّر تبعيّة إثارة الدعوى العموميّة على مسؤوليّته الخاصة (35)

إن التعرّض لهذه الميزات يبين بصفة واضحة خروج جزء آخر من العائلة القضائيّة عن السلطة التشريعيّة وهو قسم القضاء العادي المتمثّل في أعضاء النيابة العموميّة ولا حاجة إلى التأكيد بأن السلطة التنفيذيّة لها سلطان عليهم فيما يخصّ الترقية وإسناد الأعداد المهنية والتمتع بمنح الإنتاج وغيرها وهو ما نتعرّض له في موطن آخر.

لم يبق في هيئة القضاء العادي سوى القضاة الجالسين الذين يتعين التساؤل بخصوصهم هل هم مستقلون أم لا؟

III ـ القاضي الجالس

لم يبق في سلك القضاء العادي بعد التعرّض للقضاة التابعين لإطار الإدارة المركزيّة بوزارة العدل وإمضاء النيابة العموميّة سوى القضاة الجالسين.

إن هذه التسمية التي تبنّاها القانون الأساسي للقضاة (36) لا تتفق مع التصوّر الشعبي للقاضي الذي يرى فيه صاحب الوقفة الجازمة لفضّ النزاع ولردع المعتدي.

وإن مصدر هذه التسمية هو النظام القضائي الفرنسي الذي يطلق أعضاء النيابة إسم القضاة الواقفين لأنّهم كانوا قديما يمارسون مهنتهم بالجلسة المتمثّلة في الدفاع عن مصالح الملك (37) وهم واقفون (38) مثل نوّاب المتقاضين وهم المحامون في حين يبقي القاضي الحاكم جالسا وبصرف النظر عن تسمية القاضي وعن وقوفه أو جلوسه وقت ممارسته المهنة فإن الجدير بالإهتمام هو استقلاله وبالتالي قدرته على الحكم الحاسم بكل حرية دون إملاء مهما كان نوعه ومأتاه.

ودون اعتبار للأشخاص أو المصالح (39)لا يفيد سوى أن القاضي يبقي متمتعا باستقلاله وقت قضائه بالصفة السالفة الذكر أن استقلال القضاء يفيد قدرة القاضي على إصدار الأحكام العادلة والمبنيّة على الاجتهاد الخال من القيود والإملاء.

إنّ أجلى مظهر لاستقلال القاضي بصفة عامّة والقاضي الجالس بصفة خاصّة بتحقق عندما لا يسمح القانون الأساسي بنقلة القاضي بداية من الانتداب ولو من النيابة العموميّة إلى هيئة القضاء الجالس وبعدم السماح لغير السلطة القضائيّة نقلة القاضي دون موافقته ولو نتج عن النقلة الارتقاء به إلى رتبة تعلو الرتبة التي هو فيها.

والملاحظ أن التشاريع التي لم تقبل اختصاص القضاة وانتدابهم من البداية للإضطلاع بمهام النيابة العموميّة أو القضاء الجالس حرصت على تدعيم استقلال القضاء وضمانه ولم تعط سلطة نقلة القاضي وعزله وتأديبه لغير السلطة القضائيّة.

فهل يضمن القانون الأساسي للقضاة إستقلاقهم وهل يمثل هذا المجلس السلطة القضائية؟

المجلس الأعلى للقضاء

لقد أقرّ القانون الأساسي للقضاة مجلسا أعلى للقضاء ومن المفروض أن تكون الغاية من وجوده ضمان استقلال القضاة.

ولذا فلا مبرّر لوجود وزارة العدل عندما تكون السلطة القضائيّة هي المتعهّدة وحدها بإدارة شؤون القضاء وبمراقبة سير النظام القضائي.

لا بدّ أن يكون للمجلس الأعلى للقضاء جهازا ماديا وبشريا يضاهي الجهاز المرصود عادة لوزارة كبرى حتى يضمن اكتفاءه الذاتي وانتفاء الحاجة إلى السلط الأخرى وإلى أن يتحقق ذلك يتعيّن إعتبار الواقع والبحث عن حجم المجلس الأعلى للقضاء المادي والأدبي.

يتألّف عموما المجلس الأعلى للقضاء (40) من:

1 ـ وزير العدل

2 ـ سبعة قضاة يمثّلون رأس الهرم القضائي يحتلّون الصنف الأوّل من الأمر المتعلّق بضبط الوظائف التي يمارسها القضاة (41) وهم:

1) الرّئيس الأوّل لمحكمة التعقيب.

2) وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب.

3) وكيل الدولة العام مدير المصالح العدليّة.

4) المتفقّد العام بوزارة العدل.

5) رئيس المحكمة العقّاريّة.

6) الرئيس الأوّل لمحكمة الاستئناف بتونس.

7) الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف.

والملاحظ أن كلّ هؤلاء القضاة السبعة السامين الذين ينتمي ثلاثة منهم للقضاء الجالس واثنان للنيابة العموميّة والاثنان الباقيان لإطار الإدارة المركزيّة بوزارة العدل يقع تعيينهم لوظائفهم من بين قضاة الرتبة الثالثة بأمر من رئيس الجمهوريّة دون أخذ الرأي المسبق أو اللاحق للمجلس الأعلى للقضاء.

3 ـ إثنى عشر عضوا وهم الرؤساء الأوّلون لمحاكم الاستئناف بغير تونس والوكلاء العامين لديها علما وأن عدد محاكم الاستئناف بغير تونس هي ستّة (42) وتحتلّ هؤلاء القضاة وظائف الدرجة الثانية من الصنف الأوّل.

4 ـ قاضيتان تعيّنان بأمر باقتراح من وزير العدل لمدّة عامين قابلة للتجديد (43)

5 ـ نائبان من القضاة المعيّنين بالأمر يقع إنتخابهما من طرفهم لمدّة عامين

لئن تألّف المجلس الأعلى للقضاء من الأشخاص المذكورين فقد أسند القانون رئاسة المجلس بدرجتيها للسلطة التنفيذيّة فرئيس المجلس هو رئيس الجمهوريّة ونائب رئيسه هو وزير العدل.

ولئن كان سابقا رئيس الجمهوريّة من بين الأعضاء الذين يتألّف منهم المجلس الأعلى للقضاء فإنّه بقي رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء بعد التنقيح الحاصل للقانون الأساسي للقضاة (44) الذي أبقي وزير العدل من بين الأشخاص الذين يتألّف منهم المجلس محتفظا بوظيفة نائب رئيس ولا يجتمع المجلس إلاّ بدعوة من رئيسه وهو رئيس الجمهوريّة أو بإذن من نائب رئيسه وهو وزير العدل.

أمّا قرارات المجلس فإنّها تتخذ بأغلبيّة الأصوات وعند تعادل الأصوات يرجّح صوت الرئيس أو عند الاقتضاء صوت نائب الرئيس.

أما العضو المقرر للمجلس فهو وكيل الدولة العام مدير المصالح العدلية وهو الذي يتولى تهيئة أشغاله وحفظ وثائقه.

ويمكن إستشارة المجلس في كل المسائل التي تهم القانون الأساسي للقضاة بالإضافة إلى مهامه الرئيسية التي يجب أن تضمن للقاضي ممارسة حقوقه واضطلاعه بواجباته.

وتتجسم هذه المهمة بالخصوص في النظر في نقلة القضاة وتأديبهم عند الإقتضاء.

لذا وجب التعرض لدور مجلس القضاء في ضمان حقوق القضاة في ممارسة دوره التأديبي عند إخلال القاضي بالواجب.

إن أهم ما يضمنه المجلس الأعلى للقضاء للقاضي في ممارسة حقوقه هو ضمان نقلته

إن المقصود بالنقلة هو حمل القاضي على مغادرة الوظيفة التي يمارسها للإلتحاق بنفس الوظيفة بمحكمة أخرى ومكان آخر أو للإلتحاق بوظيفة أخرى من نفس الرتبة بالمحكمة التي يعمل بها أو بمحكمة أخرى.

والمعلوم أن ما يضمن إستقلال القاضي هو عدم السماح لأي سلطة كانت بنقلة القاضي دون رضاه ولو نتج عن النقلة ترقيته إلى رتبة تعلو الرتبة التي هو فيها.

فهل يضمن المجلس الأعلى للقضاء هذا الحق للقاضي؟

إن إقتضى القانون الأساسي للقضاة بأن المجلس الأعلى للقضاء ينظر في نقلة القضاة الجالسين فإنه سكت عن نقلة القضاة التابعين لإطار الإدارة المركزية بوزارة العدل وعن نقلة القضاة أعضاء النيابة العمومية.

وبصرف النظر عمّا يحصل في التطبيق فإن نقلة القاضي الإداري ونقلة القاضي عضو النيابة العمومية يمكن أن يأذن بها وزير العدل في كلّ وقت من السنة دون حاجة إلى عرض الأمر على المجلس الأعلى للقضاء في جلسة سابقة للنقلة أو لاحقة لها وهو أمر إن كان من الممكن إستنتاجه ضمنيا من القانون الأساسي للقضاء حين أكد أن قضاة النيابة العمومية خاضعون لإدارة ورقابة رؤساءهم المباشرين وسلطة وزير العدل فمن باب أولى وأحرى أن يكون القاضي بالإدارة المركزية خاضعا لإدارة وزير العدل المباشرة ومراقبته.

أما نقلة القاضي الجالس فقد إقتضى القانون الأساسي بصفة صريحة أن المجلس الأعلى للقضاء ينظر فيها قبل بداية العطلة القضائية من كل سنة دون تأكيد بأن هذا النظر يضمن إستقلال القاضي.

لقد إقتضى القانون الأساسي للقضاة (45) ضمن حقوق القضاة وواجباتهم أن:” ينظر المجلس الأعلى للقضاء في نقلة القضاة الجالسين قبل بداية العطلة القضائية من كل سنة ولوزير العدل خلال السنة القضائية أن يأذن بنقلة القاضي لمصلحة العمل ويعرض الأمر على المجلس الأعلى في أول إجتماع له.”

إن الإستثناء للمبدإ السالف الذكر والقاضي بأن نقلة القاضي الجالس من أنظار المجلس الأعلى للقضاء هو إعتداء صارخ على هذا المبدإ الضامن لإستقلال القاضي والمتعلق بحقه في البقاء في مكان عمله ووظيفته ما لم يقرّر المجلس الأعلى للقضاء خلاف ذلك.

إن مصلحة العمل لا تبرّر وجود هذا الإستثناء الذي يعطي لوزير العدل الحق في الإذن بنقلة القاضي ـ أولا ـ وفي إعتبار أن مصلحة العمل تقتضي النقلة ـ ثانيا ـ

زد على ذلك أن النقلة الواقعة في الظروف المذكورة لا تتطلب من وزير العدل سوى عرض الأمر على المجلس الأعلى للقضاء في أول إجتماع له وهذا لا يبقي لنظر المجلس الأعلى في نقلة القاضي أي معنى.

وهكذا فلا إستقلال لمن ينقل نقلة لم يطلبها ولا يمكن أن يفرضها وقد أذنت بها سلطة غير التي ينتمي إليها. يتبع