يبدو أن أول ضحايا تقرير اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق هم الحقائق نفسها ثم الشهداء و الجرحى ثم المغفور لها الثورة و في النهاية المنهج الاكاديمي في كتابة التقارير.
بودربالة لم يكفه أنه كتب مذكرات لا علاقة لها بمنهج كتابة التقارير فأرّخ لأحداث لا علاقة لها بالوقائع و زوّر الحقائق.
لم أقرأ بعد تقرير بودربالة كاملا لكنني تعودت خاصة في قراءة كتب التاريخ أن أبدأ دائما بقراءة أكثر الفصول التي أنا متمكن منها حتى أستطيع الحكم على مضمون الكتاب. و بتصفح تقرير بودربالة و خاصة الفصل الثاني “أحداث مدينة القصرين، إندلاع الثورة” فوجئت بالقدرة الرهيبة لهذا التقرير على عدم الدّقة و مجانبة الحقائق.
1 ـ التقرير يجانب الصواب حين يقول في الصفحة 81 أن بداية المسيرات في القصرين كانت عفوية. هذا خطأ، التحركات بادر بتنظيمها المحامون ثم النقابيون و خاصة نقابة التعليم الثانوي قبل أن يلتحق بهم التلاميذ و العاطلون عن العمل، و لم تكن عفوية إلا بداية من يوم 7 جانفي.
2 ـ يوم 7 جانفي لم تنطلق المسيرات العفوية التي تلتها عمليات القنص من مفترق حي الزهور كما هو مذكور بل من حي السلام ثم حي النور ثم حي الزهور بعد منتصف الليل، أي في فجر 8 جانفي.
3 ـ الشاب الذي أحرق نفسه يوم 6 جانفي و الذي وصفه التقرير بـ “هذه الحركة و إن لم يكن لها نفس صدى حادثة البوعزيزي…” اسمه حسني دلهومي و هو لا يقطن حي النور و إنما حي السلام و قد كان القادح المباشر في المسيرات العفوية لمساء يوم 7 جانفي. المسيرات العفوية التي تلتها عمليات القتل في القصرين انطلقت من حي السلام على بعد أمتار من منزل حسني الدلهومي بعد أن شاع خطأ أنه توفي في مستشفى بن عروس (أغلب الظن أن من توفي في ذلك اليوم هو البوعزيزي).
4 ـ مدينة القصرين لم تكن سباقة في الانتفاض فقبلها انتفضت مدينة تالة و قبل تالة انتفضت مدينة فريانة التي كانت أول مدينة في الجمهورية تحرق رموز النظام (تمثال 7 نوفمبر) و هذا غير مذكور في التقرير.
5 ـ لا يتسع المجال الآن لعرض كامل النقائص الواردة في هذا التقرير خاصة أنها عديدة فبالإضافة إلى ما ذكرت أذكر على سبيل الذكر لا الحصر أن الشهيد أحمد الجباري لم يقتل وهو خارج من بيته (صفحة 96) باتجاه المسجد بل كان خارجا من المسجد باتجاه بيت شقيقته “نفطة”.
خلاصة القول أن قراءة الفصل المخصص لموضوع أعرفه جيدا (أحداث الثورة بالقصرين) أقنعتني بشيء وحيد و هو عدم تمكن بودربالة من موضوع بحثه و إعتماده أحيانا على “جريدة قالو” و عدم مهنيته في تقصي الحقائق.
الملاحظة الأخرى التي شدت انتباهي، على الأقل فيما قرأت من التقرير، هو تورع بودربالة عن التعرض بالنقد لأي دور للجيش. فهو في تقريره (صفحة 105 مثلا) يبسط دور الجيش بالاستناد إلى تصريحات رشيد عمار و أغلب الظن أن تصريحات هذا الفريق ليست مثالا في الصدق، إذ يقول “غادرت العناصر العسكرية ثكنة القصرين نحو تالة” في حين أن هناك وثائق مصورة و شهادات عيان لتحول عناصر الجيش من ولايات أخرى إلى القصرين قبل هذه الحادثة (قدمت من ثكنات عديدة خاصة ثكنة الشبيكة بالقيروان) و هو في كل المواقع التي يتعرض فيها لدور الجيش يبرز بودربالة بطولات الجيش في الدفاع عن المواطنين و لم يتعرض قط إلى بطولات الجيش في الدفاع عن أعوان الأمن (مثال القصرين أمام البنك المركزي يوم 12 جانفي الذي لم يذكر في التقرير).
بداية من الصفحة 330 يستعرض التقرير الأحداث بعد 14 جانفي في بقية الولايات و هنا يغفل بودربالة عن ذكر ما حدث في القصرين يوم 17 جانفي حين أمسك الأهالي بعشرات القناصة و لم يقدمهم الجيش للمحاكمة بعد أن “ألقى القبض عليهم”.
هذه القراءة السريعة في تقرير بودربالة للأسف تبرز أنه لابد لنا من لجنة استقصاء حقائق جديدة لتقصي الحقائق في تقرير بودربالة.
قبل قراءة معمقة في هذا التقرير، أعتقد أن الجانب الإجابي الوحيد فيه هو أنه يمكنّنا من تكليف سمير ديلو بالبحث بداية من الصفحة 654 من التقرير عن شهيد واحد قتل في جلسة خمرية !!!
أخيرا، و بعد طول انتظار، أصدرت اللّجنة الوطنيّة لاستقصاء الحقائق تقريرها. بعد ما يا يقارب العام و النّصف عن رحيل بن علي، أصدر الأستاذ بودربالة تقريرا، في ما يزيد عن الألف صفحة، تضمّن سردا لأحداث الثّورة انطلاقا من 17 ديسمبر 2010 إلى حدود 23 أكتوبر 2011 تعرّض فيه إلى بدايات الثّورة و أحداث يوم 14 جانفي و إلى بعض التّجاوازات التي تلت هذا التّاريخ. كما توقّف عند مواضيع هامّة كموضوع القنّاصة و أحداث السّجون و شفعه برسوم و جداول و بيانات تضمّنت أساسا قائمة الوفيّات و الجرحى و أشفعه باستنتاجات و توصيات و كذلك بالعديد من المقدّمات و التّقديمات. و لئن تعدّدت ردود الأفعال حول مضمون هذا التّقرير و شكله فإنه يحتوي العديد من المعلومات الهامّة.
تقرير اللجنة الوطنية لإستقصاء الحقائق حول التجاوزات و الإنتهاكات
أهميّة هذا التّقرير لا تتمثّل فقط في الجهد الجبّار الذي بذلته اللّجنة لتجميع هذا القدر المهول من الشهادات و المعلومات بل خاصّة في كونه يعتبر أوّل تدوبن رسميّ لأحداث الثّورة و بالتّالي من شأنه أن يشكّل مرجعيّة تاريخيّة لدراسة الثّورة و أحداثها و تناول جملة الإشكاليّات المتعلّقة بها و التّي حصرها المشرّع في مصطلحي “التّجاوزات” و “الانتهاكات”. و لقد سجّلت شخصيّا، لدى تصفحي السّطحي للتّقرير في أبواب أعرف جيدا محتواها، العديد من النّواقص و الهنّات و المغالطات ممّا دفعني إلى تجاوز القراءة السّطحية لهذا التّقرير إلى تقديم قراءة نقديّة لا تهدف إلى الإطراء على مضمونه و إنّما إلى الوقوف على مواطن الضّعف فيه، و يمكن تبويب هذه النواقص في النّقاط التّالية :
تقرير مستعجل ؟
ـ اللّجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق بدأت بالعمل منذ منتصف شهر جانفي 2011 و يمتدّ موجبها إلى حدود 23 أكتوبر تاريخ انعقاد انتخابات المجلس التّأسيسي. و رغم امتداد الفترة الفاصلة بين نهاية موجبها و تاريخ تقديمها لتقريرها على فترة تزيد عن السّتة أشهر، إلا أنه يمكن العثور على العديد من النواقص التّي تبعث على الظنّ أن محررّ التّقرير لم يتمكن حتّى من مراجعة تقريره قبل تقديمه للسّلط المسؤولة و نشره للعموم. ففي العديد من المواضع نعثر على إحالات غير مدرجة (صفحة 224 مثلا) و كلمات منسيّة مثل الصفحة 176 حيث ورد “أصيب الشّاب المدعو برصاصة في رجله اليسرى” دون ذكر للاسم. كما نعثر على العديد من الأخطاء التي نستغرب حضورها في تقرير هام و رسمي كهذا التّقرير ففي الصفحة 132 يمكن أن نقرأ “كما سجّلت ولاية قابس خمسة حالات وفاة ثلاثة منها قبل 14 جانفي و حالة واحدة بعد التاريخ المذكور” و كذلك في الصفحة 155 التي نقرأ فيها “كما سجلت الولاية عدد خمسة حالات وفاة حالة واحدة قبل يوم 14 جانفي و 3 حالات يوم 14 جانفي و حالتين بعد التاريخ المذكور”
إن مثل هذه الأخطاء التّي تتردّد بكثرة قد يفهم منها أن اللّجنة لم تجد الوقت الكافي للتّثبت من تقريرها قبل نشره و هي غير ذات قيمة إن لم تكن مرفوقة بجملة من النقائص الأخرى خاصّة تلك التّي تتعلّق بأحداث الثّورة. ففي الصّفحة 314 تتداخل المواضيع و يدرج بودربالة الحديث عن الجرحى و عن “حادثة سائق سيارة الإسعاف بمنزل بورقيبة” بموضوع وفاة محمد أمين الوسلاتي دون أيّ رابط ظاهر بين الموضوعين و هو ما يتكرر في الصفحة 329 في حديثه عن وفاة حاتم الموفق حين يتحوّل للحديث عن مقتل سعيد الروافي قبل العودة لموضوع الموفق من دون أي موجب لهذا التّداخل. و قد تتعقّد الرواية التّي يذكرها التّقرير لدرجة أنها تصبح عصيّة على الفهم مثلما هو الحال في حادثة المحمديّة (الصفحة 312) و حادثة السّيدة (الصفحة 325) حيث من العسير جدا فهم ما يرويه بودربالة و تبيّن تفاصيل الحكاية.
و قد تتجاوز هذه النواقص المهارات السّردية و الحسابية لكاتب التقرير لتفصح عن عدم دقّّة في تقديم المعلومة. ففي الصفحة 176 في معرض حديثه عن ولاية بنزرت، يذكر التّقرير أنّ اللّجنة سجّلت عدد 15 حالة وفاة ستّة منها قبل 14 جانفي و الباقي بعد هذا التّاريخ في حين أنّ الجزء المخصّص لأحداث الثّورة في بنزرت لا يذكر إلاّ خمسة حالات فقط قبل 14 جانفي، ثم أنه في القائمة المرفقة بالقسم المخصص للجداول و البيانات (الصفحتين 667 و 668)، يذكر التّقرير عدد 16 حالة وفاة و ليس عدد 15 و هو ما لا يتطابق مع ما ذكره في باب الأحداث المخصصة لما قبل 14 جانفي. و يتكرّر ذلك في مواضع أخرى، ففي ضبطه لأحداث الثّورة في ولاية صفاقس أسقط من هذا الباب عملية قتل سليم الحضري و لم يذكره إلا في الجداول المرفقة.
إنّ تقريرا موكولا إليه مهمّة كشف الحقيقة و تثبيتها للتّاريخ و للجهات الرّسميّة و للذّاكرة الشّعبية لا يُقبل منه هكذا أخطاء. فأيّا كانت الأسباب و التّعلات و الصعوبات، لا يمكن أن يُسمح للجنة لم ينتظر منها الجميع تحديد المسؤوليات و ضبط التوصيات بقدر ما انتظرمنها قائمة موثوقة لجميع الهالكين في الثّورة أن تغفل عن اسم قتيل واحد و غفلت اللّجنة عن ذكر اسم الطفل ثابت الحجلاوي الذّي كان له 14 عام قبل أن يقتله رصاص الجيش في 18 جويلية 2011 وقام تقرير لجنة استقصاء الحقائق باسقاط اسمه من أحداث الثّورة في سيدي بوزيد و من قائمة الوفيات المدرجة بالملحق.
هل استطاعت اللّجنة تقصي الحقائق؟
التّقرير لا تقتصر مهمّته على الوظيفة السرديّة في نقل أحداث الثّورة. إنّ أهمّ مهمامه التوصّل إلى الحقيقة و البحث عنها حيثما لم توجد. إلاّ أن تصفّح عمل اللّجنة لا يفي في مواضع عديدة بهذه المهمّة و يترك العديد من الأحداث عالقة دون بحث و دون إضافة.
فهو في العديد من المواقع يقدّم أخبارا مبتورة، ففي أحداث نابل مثلا (صفحة 181) تخبرنا اللّجنة أن المواطنين تمكنّوا من التّعرف على من كان يطلق النّار و هو عون أمن “كان يعمل منذ مدّة بالشرطة العدليّة بنابل” و لم تذكر إن كان هذا الشّخص قد تمّ إيقافه عن عمله و تتبّعه قضائيّا أم تمّت ترقيته مهنيّا. و في الصفحة 184 يتحدّث التّقرير عن سيّارة بارتنار تطلق النّار على المواطنين بسليمان و تصيب رجلا في ساقه اليسرى دون تحديد إن كان هؤلاء من المدنيّين أم من رجال الأمن. أمّا في الصّفحة 332 فيخبرنا التّقرير عن مطاردة الجيش لسيّارة مأجورة حمراء اللّون أدّت إلى وفاة عبد الستّار سعيداني بالرّصاص دون أن تكلّف اللّجنة نفسها عناء البحث في الموضوع خاصّة و أن عدد السيّارات المطابقة لهذه المواصفات لا يعدّ بالآلاف و ليس من العسير تحديد هويّة من أجّر هذه السّيّارة في ذلك التّاريخ. و قد تدفع الرّوايات المبتورة أو المقتضبة للوقائع، بالإضافة إلى رداءة الصّياغة، إلى فهم خاطئ مثلما هو الأمر في حادثة قتل ضابط الشّرطة المساعد عادل عمّار (صفحة 327) الذي يبدو و كأن له علاقة بحادثة قتل وائل التّونسي بالحرايرية.
فاللّجنة قد أقصرت مهمّتها على سرد الأحداث بالاعتماد على المعطيات الموجودة دون أن تكلّف نفسها بمهمّة البحث عن الحقيقة، بل إنها تشتكي أحيانا من قلّة المعلومات المتوفرّة. فرغم إقرارها بوجود شهود عيان في حادثة قتل كلّ من كمال البقلوطي و علي عمدوني (صفحة 339) إلا أنها لم تحاول معرفة المزيد عمّا نقل إليها. و هذا التّقصير قد يطال تفاصيل قد تكون بسيطة لكنّها في غاية الخطورة ففي منزل تميم شهد متضرر كان قد أصيب يوم 12 جانفي بأنه قد حضر أمام مغازة “برافو” تبادلا لإطلاق النّار بين دوريّة للجيش و طرف آخر لم يستطع تحديد مصدره (صفحة 186 و 187) و هو ما يتنافى مع الرّواية الرّسمية لوزارة الدّفاع التّي تؤكّد أنها لم تطلق النّار بتاتا قبل 14 جانفي و لم تكاتب اللّجنة وزارة الدّفاع للتثّبت من هذه المعلومة و لم تحاول حتّى مجرّد التّحرّي فيها. و هو ما يتكرّر في العديد من الحالات التّي تبقى مبهمة و غامضة في حين أن العديد منها يمكن البحث فيه. و قد يعود ذلك لسببن أولّهما الإهمال و هو ما يتجسّد كذلك في عرض اللّجنة لحالة حسونة بن عمر الذّي ذكر التّقرير بالصفحة 389 أنّه توفيّ برصاصة بالصّدر في حين يعلم جميع التّونسيون أن حسونة كان قد أصيب بثلاثة رصاصات، باستثناء لجنة استقصاء الحقائق طبعا، التّي لازالت تعتقد أنه أصيب برصاصة واحدة. أمّا السّبب الثاني فهو على الأرجح الاطمئنان إلى الرّوايات الموجودة دون محاولة استقصاء الحقائق مثلما يليق بلجنة تحمل هذا الاسم. و لعلّ أبرز مثال على ذلك هو ما اعتمدته اللّجنة في الأحداث التّي كان فيها العسكريون طرفا من اقتصار على ردود إدارة القضاء العسكري. ففي جميع هذه الحالات لم تلتق اللّجنة و لو مرّة واحدة بأي عسكري (باستثناء وزير الدّفاع السّابق و الفريق الأوّل رشيد عمار) و اكتفت بالرّدود الرّسميّة لإدارة القضاء العسكرية و هو ما من شأنه أن يضعف مصداقيّة هذه الرّوايات جميعها و ينتقص من شفافيتها. و الغريب أن بودربالة لم يذكر، و على طوال الألف صفحة التّي تحتضن التقرير، هذه النّقطة و لم يشر بكونها من الصعوبات التّي اعترضت طريق اللّجنة. كما أنّه في جميع الحالات التّي ينقل فيها عن مسؤولين أمنيين (خاصة في ذكر أحداث يوم 14 جانفي) يعزف عن ذكر أسمائهم و يلقبهم بصفاتهم ممّا يدفع أحيانا للشّك إن لم يكن التّقرير قبل صدوره قد خضع لنوع ما من أنواع الرّقابة خاصّة أنّه لا يذكر أسماء المتورّطين من أنصار النّظام السابق (ملاحظة لم تذكر الأسماء المطابقة للوظائف إلا في ملحق بآخر التقرير).
هنا، ينتقل الحديث من ذكر للنقائص التّي شابت التّقرير إلى وضع نزاهة التّقرير موضع السؤال.
هل كان تقرير اللّجنة موضوعيا ؟
العديد النّقاط تدفع للإجابة بـ “لا”.
كثيرا ما يقدّم التّقرير قراءة سياسيّة للأحداث هو في غنى عنها. إذ من فائض الكلام أن يذكر بودربالة في أكثر من موضع أن الأحداث لم تأخذ صبغة سياسية إلا في 14 جانفي (صفحة 217 مثلا) و أن يكرّر في مواضع أخرى عديدة أن ما حدث في الجهات كان مطالب اقتصادية و اجتماعية. فهل حرق رموز النّظام و مقرات السّيادة في فريانة و تالة و القصرين مطلب اجتماعي و اقتصادي؟ دون الدّخول في سجال سياسي قد يتطلّب إعادة النّظر في تطوّر الشعارات و المطالب التّي رافقت الثّورة منذ 17 ديسمبر، ليس للتّقرير أن يقدّم هكذا مواقف، خاصّة و أن العديد من النّقاط الأخرى تسترعي الاهتمام و تنتقص من موضوعيّة التّقرير. و من ذلك على سبيل الذّكر لا الحصر، أنّه لا يذكر جملة التجاوزات و الاعتداءات أثناء المسيرة التّي دعا إليها اتحاد الشّغل و لا يذكر لجان الأحياء إلا لتبيان الدّور السّلبي الذّي لعبته في ما بعد 14 جانفي و كأنّها المتسببّة في الانفلات الأمني و ليساوي بين دورها و دور بعض الأجهزة الاعلامية التّي كانت تبثّ الذّعر في نفوس المواطنين… بل إنه ينتقد “عدم التّعامل بصرامة في تطبيق الأمر عدد 50 لسنة 1978 (المتعلّق بقانون حالة الطوارئ)، هل يمكن لحقوقي أن يدافع عن تطبيق هذا الأمر؟
إن كان صاحب التّقرير سريع إطلاق الأحكام في بعض الأحيان فإنه بطيؤها في أحيان أخرى لدرجة أنّه يعجز عن تقديم الحقائق. ففي استقصاء ما حدث يوم 14 جانفي يناقض بودربالة نفسه بنفسه، إذ يقول عن واقعة المطار (صفحة 239) “و تبقى الشكوك مطروحة حول دوافعه (سمير الطرهوني) و حول استقلالية قراره و حول التّوقيت الذّي يبدو غير كاف للتفكير لاتخاذ هذا النوع من القرارات و تنفيذها في مدة زمنية وجيزة و دون حماية أمنية أو سياسية” هذا التّردد في الاستنتاج و العجز عن الوصول إلى حقيقة ما جرى هل يمكن تفسيره؟ نفس هذا الموقف نجده، بطريقة أكثر دهاء، في الجزء المخصّص لأحداث السجون إذ يقدّم التقرير فرضيّة المؤامرة (صفحة 468) في تفسير ما جرى مبينّا أسانيده و يقدّم فرضية التمرّد التّي يدعمها بالأسباب الموضوعيّة التّي يعيشها المساجين. إلاّ أنّه دون أن يقدّم موقفا واضحا يذهب بالقارئ إلى ترجيح فرضية التّمرّد على فرضيّة المؤامرة. أمّا في الجزء المتعلّق بأحداث 15 و 16 و 17 جانفي يبسط الأحداث و يصرّ تكرارا على اعتبار حالات الإصابات في أغلبها “فردية” و “منعزلة” و “ناتجة عن أخطاء في التقدير و سوء التّعامل مع الوضعيات” (الصفحات 303 و 305 و 306 و 307). فشفافيّة التقرير و موضوعيّته و حتّى استقلاليّته يبدو أنها خضعت لنظام الكيل بمكيالين في التّعامل مع الأحداث و استنتاج دلالاتها و ضبط حقائقها.
هذا التّوجه في استقصاء الحقائق يبدو أكثر بديهيّة كلّما تعلّق الأمر بالحديث عن المؤسسّة العسكريّة. فلئن تعرّض التقرير إلى بعض أوجه النّقد للجيش في بعض الحالات الفرعيّة، فإنه يمتنع تماما عن الاستنتاج و “استقصاء الحقائق” في الحالات الأخرى التّي يمكن لها أن تدين، أو على الأقل أن تساهم في إدانة، المؤسسّة العسكريّة مثل حادثة المبيت الجامعي بجرزونة أو حادثة الحمّام ببنزرت (صفحة 335 و 336) و خاصّة حوادث السّجون مثل سجن برج العامري الذّي أغفل بودربالة ذكر ما حصل خارجه من مطاردات بمروحيات الجيش(صفحة 422) و مثل سجن المهدية الذي قتل أغلب ضحاياه برصاصات في الرأس. إضافة إلى أنه في رصده للتّجاوزات أهمل ما ورد في بيان للجمعية التّونسية لمقاومة التعذيب بتاريخ 24 مارس 2011 من تعذيب تعرّض له معاق إثر إيقافه من طرف دوريّة حرس و جيش بالقصرين بعد اعتصام القصبة 2. هل يمكن لبودربالة و هو الرئيس السّابق لرابطة حقوق الإنسان أن يغفل عن مثل هذا البيان أم أنه تغافل عنه؟
الحقيقة و الرّوايات الرّسميّة
هل بعثت “اللّجنة الوطنيّة لاستقصاء الحقائق في التجاوزات و الانتهاكات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى حين زوال موجبها” من أجل تقصي الحقيقة أم من أجل دعم الرّوايات الرّسميّة للحكومات الوقتية المتعاقبة و لحرّاس المعبد الذين لا يتغيّرون بتغيّر الحكومات؟
ما من شكّ في أن بودربالة يفضّل ابتسامة النّهايات السّعيدة على مرارة الحقيقة :” هذه الواقعة و لئن شكلت نقطة استفهام، و أثارت غضب و تساؤل من كان ربما يخطط لتغيير الوضع، فإنها حملت للشعب أخبارا كان يرجوها و أرجعت الثورة إلى مسارها الذي كادت أن تزيغ عنه نتيجة فرار الرئيس بن علي في وقت كانت فيه الأوضاع تهددّ بالانفلات الأمني” (صفحة 242). هكذا يعلّق بودربالة على بطولات الطّرهوني في استقدام التّلفزة وغير مهمّ بالنسبة إليه إن كانت الواقعة قد وقعت فعلا أم لا. المهمّ هو النّهاية السّعيدة. ذلك هو منهج التّقرير في استقصاء حقيقة ما حدث من أحداث يوم 14 جانفي في قصر قرطاج و في مطار قرطاج و بالقاعدة العسكرية بالعوينة. فعمل اللّجنة اقتصر على نقل جملة الشّهادات للمسؤولين الأمنيّين الموقوفين منهم و المباشرين و قدّم بها تصوّرا لما حدث يعيد ما تكررّ على مسامع الناس من بطولات الطرهوني و السيك سالم. و “ما حصل يومها لم يثبت أنّه كان مخططا له و أن سرعة تواتر الأحداث و كثافتها جعلا الرئيس بن علي و علي السرياطي يتخذان قرارات مفاجئة و مستعجلة كقرار المرور إلى الدرجة الثالثة من حالة الطوارئ، و قرار سفر العائلة إلى المملكة العربية السعودية” (صفحة 255). تلك هي الحوصلة التي يقدمها بعد تقصيه للحقيقة. و هو في نهاية المطاف يذهب إلى أن اليوم الأطول في تاريخ تونس هو وليد “الصدفة” و “العفويّة”، كيف لا و قد “كان تسلسل الأحداث يومها عفويا و ربما كانت هذه الصدف، و إن لم يتوقعها أحد، هي التي أنقذت البلاد في نهاية الأمر”.
هنا، لا ينخرط فقط بودربالة و لجنته الموقّرة في الدّفاع عن الرّوايات الرّسمية و إعادة رسكلتها دون أيّة محاولة لمعرفة الحقيقة بل إنّه يصل حدّ الابتذال و الاستخفاف بالعقول في المساهمة في تزييف التّاريخ و مغالطة الشّعب. إن دفاعه عن الرّوايات الرّسمية الذي يبدو محتشما (مقارنة برواية فرار بن علي) مثل رواية الانفلات الأمني وسوء التّعامل مع الوضعيات بعد 14 جانفي و في إبراز التّناقض في رواية الشّهود في أحداث الوردانين و إضفاء المصداقيّة على أقاصيص قيس بن علي (صفحة 345) و ترجيحه فرضيّة التّمرد على فرضيّة المؤامرة في أحداث السّجون و تغاضيه عن العديد من التّجاوزات التّي قد تحرج البعض و جزمه بعدم وجود القنّاصة، كلّ هذا يبدو موضوعيا مقارنة بافتتانه ببطولات الطرهوني و سيك سالم و تبنّيه الأعمى لنظريّة فرار بن علي القائمة على “محاسن الصدف”.
إنّ ما يحتاجه الشّعب التّونسيّ اليوم هو لجنة لاستقصاء الحقائق في تقرير لجنة استقصاء الحقائق.
لقد فشل بودربالة مرتين. مرّة حين كتب تقريره و نصّب نفسه مؤرخا و عالم اجتماع و عالم نفس و رجل قانون و كذلك عالم جغرافيا. ففي هذا التّقرير يمكن أن نعثر على إحالة تخبرنا أن صاحب “إذا الشعب يوما” هو أبو القاسم الشابي “و هو شاعر تونسي من العصر الحديث” و يمكن في موضع آخر أن نتعلّم أن القصرين “تحتوي على أعلى قمة و هي جبل الشعانبي الذي يعتبر امتدادا لسلسلة الأطلس الصحراوي” و يمكن أن نتعلّم أن “الفلاقة هم الثوار المسلحين من تونس و الجزائر الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي” كما يمكن أن نتعلّم أن سجن منوبة “يقع سجن النّساء في منوبة و هو خاص بالنساء”. و فشل بودربالة مرّة أخرى حين جانب الموضوعية و عوض أن يقوم بالمهمّة الموكولة إليه انبرى يقدّم تصوراته الشّخصية و قناعاته الذاتيّة في محاولة لتنصيبها حقيقة تاريخية.
في هذه المساهمة لم أتطرّق إلى مضمون التّقرير و جملة التناقضات الواردة به خاصّة ما تعلّق منها بأحداث يوم 14 جانفي و مسألة الشّهداء و القنّاصة التي أعود لها في مقالين منفصلين أحدهما بعنوان “من يقف وراء انقلاب 14 جانفي؟” و الثّاني بعنوان “هل تعرفون القتلى جميعا؟”. هذه المساهمة هي قراءة نقديّة عمودية تتطرّق أساسا إلى جملة نقائص التّقرير من حيث الشّكل و من حيث المنهج العام المعتمد في صياغته كان الهدف منها بالأساس هو دراسة تموقع الّجنة و تثبيت ضرورة عدم الاطمئنان إلى هذا التّقرير و إثارة النقاط الإشكالية فيه و الدّعوة إلى إعادة النظر في أدقّ تفاصيله. إذ من الخطير جدّا أنّ تمرّ هذه المغالطة التاريخيّة بسلام. هذا التّقرير هو أوّل بادرة رسميّة للتأريخ للثّورة و هي و إن احتوت على كم هائل من المعلومات فهي كذلك احتوت على قدر كبير من المغالطات و قدر أكبر ممّا وقع التّكتّم عليه و لا يمكن التّعليق عليها إلا بتكرار القول القديم “ما أكذب هذا التّاريخ يبقى منه الوجه الزّائف و الوجه للتّفسيخ”
[…] Texte original en Arabe Share: […]