المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

tunisie-egypte

إن من عرف تونس بعد الإستقلال السياسي لم يعهد فيها إلا طريقة واحدة رسمية في نطق حرف القاف، وذلك نطقا عربيا صرفا، إذ لم يكن مألوفا بردهات الحكم أو في المحافل الرسمية استعمال القاف بنطق الجيم المصرية، بل كان ذلك مستهجنا، رغم أن النطق بمثل هذا الحرف كان شائعا في الأوساط الشعبيه، البدوية خاصة.

فعادة ذلك الزمان، حتى من قبل أصحابها من كانت سليقته في النطق بهذا الحرف الأخير، كانت في ترك استعماله والاستعاضة بالحرف الآخر، حرف القاف، لا لأنه يوافق النطق العربي الفصيح، بل لأنه يتطابق مع العادات الحضرية. فكان ذلك أساسا بسبب الاستحياء من أصول بدوية أكثر منه من باب التمسك بأصول عربية. وقد علمنا، مع هذا، أن الأصول العربية الحقة هي أساسا بدوية.

وها نحن اليوم، بتونس بعد الاستقلال الشعبي الحق، نرى نطق القاف على طريقة الجيم المصرية يغزو الأسماع؛ فيا له من انقلاب ثقافي عظيمَ! والأعظم أن لا نعيره الاهتمام اللازم رغم أنه انقلاب تام على ذوق معهود من الحسن، تغلغل في العادات إلى حد أنه عد من السليقة.

وطبعا، لم يكن ذلك إلا من المعتقدات السخيفة والاستعلاء الحضري من ناحية، كما كان في نفس الوقت، والحق يقال، من مركب النقص عند البعض، رغم أنهم الأغلبية، والذي مرجعه طبعا وأساسا الضغط الاجتماعي المزعوم والكبت الثقافي الذي لا مراء في وطأته.

والأكيد أن العودة القوية اليوم للقاف بلهجة الجيم المصرية، لا فقط كطريقة في النطق، بل وأيضا كتميّز من طرف الناطقين بها وعلامة على تجذر في حضارة عريقة، لم تتزامن ضرورة مع الثورة التونسية، إذ هي سبقتها ببعض السنوات؛ ولكنها بقيت رغم ذلك مرتبطة أساسا بالميدان الفني كظاهرة طريفة، متصلة أساسا برغبة عودة إلى العادات العربية الإسلامية وتأصل في التقاليد.

أما اليوم، فهي تكاد تكون ذات بعد سياسي، إذ هي إشارة شكليّة صريحة لهذا التأصل في العادات ولثورة البادية على المدينة وأهلها؛ وهي تدعّم استفاقة القيم القديمة على ما بدا غلطا للبعض متأصلا بمجتعنا من ظواهر لم تفارق الحياة الحضرية فالتصقت بها شديد الالتصاق حتى عُدّت غريبة عن المجتمع، وإن لم تكن ضرورة كذلك.

إننا نشهد اليوم ببلدنا، على هذا المستوى الثقافي على الأقل، حربا عشواء بين أخلاقية المدينة والبادية، وهي ولا شك تتغذى من مخيال عربي ثري، ذلك الذي تنازع فيه طويلا أهل الحضر وأهل المدر. إلا أن الغريب هو أن تكون قاعدة مثل هذه الحرب مغلوطة أساسا إذ نحن نعلم أن النطق الصحيح في لغة الضاد لحرف القاف هو النطق الحضري المعروف.

نعم، إن البادية بقيت محافظة على أصولها العربية القحة ومنها العديد من العادات والتقاليد التي اندثرت بالمدينة، حتى في سلاسة النطق بعربيتنا الفصحى، مما من شأنه إثارة الاستغراب، خاصة عندما نرى ما للمدينة من الامكانيات المادية والزاد الثقافي، طالما تجاهلنا مدى توظيف كل ذلك توظيفا كليا في حقل ثقافة غريبة عن البلاد.

ولكن، رغم هذا الواقع، فإنه ما كان بتاتا مما يؤشر ضرورة على أن ما تميزت به المدينة من أمور التراث والدين كله من البدع أو لا ينتمي البتة إلى الأصول العربية التي يحرص البعض اليوم، ممن يرفع شعار الانتماء العربي الإسلامي، على التغني بها أو الإشادة بحتمية العودة إليها، وكأنها كانت يوما حكرا على انتماء إيديولوجي أو تيار سياسي.

فالبعض لا يتوانى بتونس اليوم في الربط بين مثل هذا النطق، الذي جرت به العادة دون قياس على العربية الفصحى، والذي يعتبره غلطا علامة على تأصله في العادات العربية، وبين أخذه بالدين وتمسكه بتعاليمه؛ وكأن عظم أهل المدينة لا يعلمون ضرورة دينهم أو لا يعملون به، أو إن عملوا كان ذلك على وجه الخطأ والإفحاش.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن مثل الذي يتحدث اليوم عن جهل باسم الدين في بلدنا كمثل الذي يتمسك بنطق القاف على الطريقة المصرية في نطق الجيم مدعيا مطابقتها للأصول التي يرى ضرورة إحياءها، وهي غير صحيحة في عربيتنا الفصحى.

إن إسلام هؤلاء، ومنهم سلفية شوارعنا، كعربية من نطق القاف جيما مصرية، لا لتمسكه بعادته وتأصله فيها، بل فقط لرفض طريقة أهل المدينة وما اتصل بها من تبجح في ادعاء التحضر. كذا نرى كيف يجعل البعض من الحق باطلا فيخلط الصحيح بالمعتل ولا يبالي! ولعل لا مضرة في ذلك لو لم يتعلق الأمر بمعالم ذاتيتنا.

فكما يكفينا حروبا شعواء لا طائل منها ولا معنى لها بين حروف العربية، كفانا تقتيما لديننا وقراءة له مغلوطة تنقص من نوره، بل وتذهب به! وليتكلم كل بما شاء أو اعتاد دون الزج بلغتنا في متاهات لا خير فيها ولا فائدة تُجنى إلا المزيد من التفرق والتشتت إضافة إلى إضعاف لعربيتنا؛ وليعتقد كل في دينه كما يرى وكما تسمح له به سماحة ديننا، بل وكما يهديه الله!

ذلك لأن مفهوم الهداية حاضرا أو آجلا في الإسلام هو من الأسرار الإلاهية التي لا يتضح كنهها إلا لذوي العقول بفهمهم مدى رحمة الله بعباده، كل عباده دون استثناء، خاصة من ضل منهم أو تراءى لنا كذلك؛ إذ العقل البشري يبقى دوما قاسرا عن علو الحكمة الإلاهية، ولأن مآل الضلال هو الهداية بكل حرية وعن قناعة في الإسلام الحق، لا إسلام الأكاذيب.

فإسلام من يجعل من ديننا دين رهبة وكراهية ليس هو تلك العودة التي يدّعيها إلى مثل السلف الصالح بقدر ما هو تميّز عن إيمان اعتبره مبتذلا، غير مطابق لنظرة متحجرة للإسلام، ليست منه بأي حال.

إن الدعوة اليوم إلى دين على الطريقة السلفية الظلامية هي من باب ادعاء النطق الصحيح لحرف القاف على الطريقة المصرية لحرف الجيم، ولا أساس لها في عربيتنا، كما لا أساس لدعوى هذه السلفية في الدين الحق، إذ تبقى قراءتهم للدين غير سلفية البتة، حيث تتقوّل عليه الأكاذيب بما أنها تجعل منه دين رعب وكره وانتقام بينما يعلم القاسي والداني أن الدين الإسلامي الحق هو دين المحبة والصفاء والسلام.

وتلك هي سلفية الأكاذيب! فلا سلفية حقة اليوم آخذة بخير ما في ديننا ومتمسكة بالقرآن والسنة دون تحريف أو تصحيف إلا صوفية الحقائق؛ فهي بحق سلفية الحقائق اليوم، التي تؤمن حق الإيمان، هذا الإيمان الحر الذي ليس في أكراه ولا تهويل، لا رهبوت ولا نقموت.

لقد حان الوقت للمرور بديننا من مجرد الإسلام الشعائري إلى إسلام الحنيفية وهو الإيمان الذي يمتاز على الإيمان الشعائري المجرّد بتوحيد الله بإيمان كوني وعلمي، إيمان ثقافي حضاري، لا يرتبط ضرورة بالنص إذا خالف النص روحه، فيغلّب حينها مقاصد النص وروحه السنية على الحرف المجرد، حيث أن الروح هي دوما أعلى درجة في كلام الله؛ وهو بذلك يأخذ حقا بتعاليم ديننا الأزلية، الصالحة لكل زمان ومكان بصفته دين البشرية، خاتم الأديان كلها.

فهل بعد هذا كلام، يا أهل الإسلام؟

فرحات عثمان