aindrahem1

في زمن لم يجد المغلوب على أمرهم من سبيل لإسترداد حقوقهم النقابية و الاجتماعية إلا الإضراب و غلق مواطن عملهم، نجد في نفس هذا الزمن اخرين مغلوب على أمرهم أيضا يحتجون و يعتصمون من أجل أن يفتح من جديد موطن رزقهم، أجل هذا واقع عمال مصنع الفقاع بعين دراهم.عندما يتهم المضربون عن العمل بتعطيل الدورة الإقتصادية في أصعب الأوقات التي تمر بها البلاد، فما عسانا نقول عندما نرى عمالا يستعملون الإضراب و غيره من الوسائل الاحتجاجية للضغط على أولياء الأمور من أجل إعادة فتح مورد رزقهم؟

فالإدارة تتعنت أحيانا في الاستجابة إلى مطالب وتتهم من يضرب عن العمل بتعطيل الدورة الإقتصادية، و تتناسى هي أنها كذلك تعطل الدورة الإقتصادية للبلاد عندما تتصلب أمام عودة مصنع إلى العمل في جهة لطالما عانت الخصاصة و الفقر.

و قبل الخوض في أسباب توقف هذا المصنع عن العمل، يتوجب علينا الحديث عن بدايته و النشاط الذي يقوم به لتكتمل الصورة في الأذهان. إننا نتحدث عن مصنع الفقاع بعين دراهم الذي بدأ نشاطه سنة 2001 حيث يعمل أساسا على تهيئة منتوج الفقاع و ترويجه، حيث يقبل المصنع كميات الفقاع التي يقع تجميعها من الغابة ليتولى عملية تنظيفه و تعليبه ليصدره بعد ذلك إلى البلدان الأروبية.

بلغت كلفة تأسيس هذا المصنع  3 مليون دينار تونسي، حيث خير صاحبه الإستثمار في بلده، و هو الخبير في المحاسبة و الأستاذ جامعي المقيم في فرنسا. و يتحدث السيد رشيد الخلايفي صاحب مصنع الفقاع عن بدايات هذا المشروع قائلا “عندما بدأت العمل في هذا المجال قمت بجلب خبراء أجانب في مادة الفقاع حيث قاموا بتكوين عمال المصنع و حتى أبناء الجهة المهتمين بجمع هذا المنتوج، حيث كان الخبراء يتنقلون إلى الارياف لتكوين الاهالي في الأنواع الضارة و النافعة للفقاع و في الأنواع المخصصة للإستهلاك البشري و تلك التي يكثر عليها الطلب في البلدان الأجنبية”

و الفقاع، هذا المنتوج الموسمي يظهر خلال فصلي الخريف و الشتاء، و في هذه الفترة يزداد نشاط مصنع عين دراهم حيث يشغل موسميا حوالي 1500 شخص لجمع الفقاع من الغابة و حوالي 50 عاملا بالمصنع، و بصفة دائمة يشتغل بالمصنع حوالي 10 عمال. و نظرا لقلة مواطن الشغل بعين دراهم يعتبر هذا المصنع ذو أهمية كبيرة في التشغيل فعديد العائلات بالمنطقة تستفيد منه و إن كان بصفة موسمية من أجل تحصيل لقمة العيش و إدخار بعض المال لتعليم أطفالها.

و في السابق و تحديدا قبل الثورة، كان نشاط المصنع يسير على أحسن وجه حيث كان يشتغل وفق عقد مبرم مع إدارة الغابات يخول له استغلال غابات الشمال الغربي لمدة خمس سنوات لتجميع الفقاع، هذا العقد لم تشأ إدارة الغابات تجديده بعد الثورة منذ 29 جانفي 2011 حيث تخلت الإدارة المذكورة على النظام القديم في منح الترخيص لاستغلال الغابة (منح الترخيص لاستغلال الغابة بصفة كلية) و وضعت نظاما جديدا يعتمد بيع جبال الشمال على مقاسم ( 7 مقاسم: سجنان، نفزة، طبرقة، فرنانة، غار الدماء، عين دراهم، بوسالم) و الاشكال هنا يكمن في بيع المقاسم بأسعار غالية جدا تتراوح بين 5 الاف دينار للمناطق التي لا تنتج مادة الفقاع و 50 ألف دينار للمناطق التي يكثر فيها هذا المنتوج الغابي، إضافة إلى ظهور “دخلاء على القطاع” مما أزم الوضع أكثر.

و أمام هذا الواقع الجديد لم يستطع المصنع مواصلة العمل كالسابق و السبب هو كثرة المجمعين الجدد ( ما يطلق عليهم عمال المصنع صفة “الدخلاء”) الذين يشترون الفقاع من الذين يجمعونه من الغابة و يبيعونه بأسعار تنافسية مما تسبب في ارتفاع أسعاره كثيرا مقارنة بما كانت عليه سابقا، و هو السبب الذي جعل المصنع غير قادر على شراء منتوج الفقاع بأسعار غالية، و حسب تفسير أحد العاملين في المصنع: “إذا أضفنا لهذه الأسعار المرتفعة تكلفة تنظيف المنتوج و تعليبه و تصديره يصبح المصنع غير قادر على تغطية النفقات و هذا بالضبط ما جعله غير قادر على المحافضة على استمرارية نشاطه.”

و لكن هذا لا يجعل الأزمة مقتصرة على مصنع الفقاع فقط بل إنها تتجاوزه لتشمل جميع المستفيدين من نشاطه من أهالي عين دراهم، فمنذ أن أغلق المصنع أصبح هؤلاء يواجهون مشكلة حقيقية في الترويج بعد تكبد عناء جمعه في ظروف طبيعية قاسية جدا لأن الفقاع لا بنبت إلا في فصلي الخريف و الشتاء، في هذا الشأن يتحدث إلينا أحد المجمعين: ” أهالي عين دراهم يتحملون البرد القارس في هذه المنطقة من شهر أكتوبر إلى شهر فيفري، إضافة إلى صعوبة التنقل في الجبل ليجمعون الفقاع من أجل بيعه لمن يستطيع شراءه من المجمعين الذين يبيعونه بدورهم إلى النزل و المطاعم السياحية و لكن هؤلاء لا يشترون إلا الكمية التي يحتاجونها و تبقى البقية دون ترويج و بالتالي تصبح غير صالحة للإستعمال لأن الفقاع منتوج سريع التلف.”

aindrahem3

طبعا لم يبقى المستفيدون من مصنع الفقاع بعين دراهم مكتوفي الأيدي بل سعوا بكل الطرق إلى التماس تدخل السلطات الجهوية و الوطنية من أجل إعادة فتح هذا المصنع، و قالت رئيسة جمعية “الحفاظ على منتوج الفقاع بالبلاد التونسية”: “اتصلنا بالمسؤولين لإيجاد حل فلم يستمعوا إلينا بل لم نجد منهم إلا الإهانة” و أضافت بحماس مختلط باليأس: ” ماحاجتنا بشي منهم حاجتنا بخدمتنا أكهو”

العديد من التحركات قاموا بها للضغط على من يمتلكون السلطة لإيجاد حل، اجتماعات عديدة مع المسؤولين الجهويين من المعتمد إلى الوالي، اعتصامات أمام مقر الولاية بجندوبة و إعتصامات أمام وزارة الفلاحة لحوالي 3000 رئيس عائلة مورد رزقهم الوحيد هو منتوج الفقاع، و لكن لا حياة لمن تنادي من قبل الإدارة المركزية التي تصرفت مع الأمر بكل تجاهل وصل حد رفض مقابلة المعتصمين أو حتى مجرد الإستماع لهم.

عمال مصنع الفقاع بعين دراهم استوفوا كل السبل الممكنة و طرقوا كل الأبواب من أجل أن يعود مصنعهم إلى العمل من جديد هذا المصنع الذي يعتبر مورد الرزق الوحيد لهم و لعديد العائلات في عين دراهم و الذي توقف عن النشاط منذ سنتين بسبب تغيير وزارة الفلاحة لأسلوب استغلال الغابات.

هم لم يعتصموا من أجل زيادة في الأجور أو ترقيات أو حوافز مادية و لا من أجل أي امتيازات مادية أخرى، فقط همهم الوحيد هو إعادة فتح ابواب مصنع الفقاع الذي يعملون به منذ سنوات، و كل التحركات التي قاموا بها و التي مازالوا يقومون بها كانت فقط من أجل تحقيق هذا الهدف و لا شيء اخر سواه.

ذهب فصل الشتاء الذي من المفترض أن ينشط انتاج الفقاع و يحيي مصنع عين دراهم، و ذهبت معه كل فرص العمل الممكنة في هذه الجهة التي تتمسك بفقرها، ذهب الشتاء و جاء الربيع و مازال هناك من يأمل في عودة المصنع إلى العمل عله يحصل منه لقمة عيش مغمسة في قسوة الطبيعة و مرارة الزمن.