gun-tunisie-dinars

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

جسد تهاوى بلسعات ألسنة اللهب معيدا إلى الأذهان مشهدا كان حاسما في الوصول إلى ما نعيشه اليوم من واقع سياسيّ وثقافيّ واقتصاديّ جديد.
جسد آخر غرق نتيجة اليأس والشعور بالغبن والإقصاء وفقدان الرغبة في مواصلة حياة أبت أن تكسر الجمود والرتابة التّي يغرق فيها مئات الآلاف من المعطّلين عن العمل.

أجساد نخرتها الشظايا في جبل الشعانبي وسيدي بوزيد وقبلاط، مناطق تعاني منذ عقود من التناسي والإقصاء، والحكومة عاجزة منذ أكثر من سنتين عن توفير بصيص من النور يبعث في اليائسين أملا بإمكانية التغيير أو وعدا مؤجّلا بغد أفضل.

إن الصراعات السياسيّة التّي تغرق فيها البلاد قد أعمت الكثير من السياسيّين عن المشكلة الحقيقيّة والحلّ الحقيقيّ في آن واحد، بل وتحوّلت إلى إرهاب اقتصاديّ يطال الجميع دون استثناء، إرهاب أساسه التجويع حتّى الفوضى.

لقد كان المطلب الأوّل الذّي رفعه التونسيّون يوم 17 ديسمبر هو التشغيل وتوفير مقوّمات الحياة الكريمة لمئات الآلاف من الشباب الذّين ضاقوا ذرعا بزيف النظام السابق وتجاهله لمشاكلهم، واليوم يعيد السياسيّون الغلطة بتجاهلهم للمشكلة الأهم ويحاولون التملّص من المسؤوليّة عبر الدخول في صراعات جانبيّة وجدالات عقيمة والسعيّ لجعل المعارضة شمّاعة يعلّقون عليها كلّ أخطائهم مُتناسين مرّة أخرى أنّ البطون الجائعة والجيوب الفارغة لا تعنيها مسألة الهويّة أو الحرب في سوريا أو التجربة النوويّة في كوريا الشماليّة.

يتناسى السياسيّون أنّ النموّ الاقتصاديّ هو صمّام الأمان لحالة الاستقرار السياسيّ وأنّ تخفيض نسبة البطالة وتحسين مستوى الدخل الفرديّ والطاقة الشرائيّة وهيكلة البرامج التنموية وفق الاحتياجات الحقيقيّة للبلاد والانتباه إلى ضرورة خلق توازن جهويّ هو البلسم الذّي سيداوي جراح البلاد ويهدّئ نفوس النّاس، لكنّ الحكومة أثبتت وفي مواقف عديدة أنّها كانت تمتلك برنامجا للوصول إلى الحكم وليس لتسيير البلاد وممارسة الحكم، وطرحت على النّاس وعودا لا برامج.

تونس على حدّ السكّين

يعيش الاقتصاد التونسي منذ 14 جانفي 2011 ظرفا حرجا للغاية اتّسم منذ سنتين بالتراجع والانكماش في نموّ جميع القطاعات. وقد استمرّت حالة التدهور بعد الاضطرابات الأمنيّة والسياسيّة التّي لم تنقطع منذ ذلك التاريخ، وهو ما أدّى إلى تراجع سعر صرف الدينار التونسيّ بمعدّل 10% مقارنة بالأورو و6 % بالنسبة للدولار الأمريكي. أمّا التضخّم فقد ناهز الـ 6.5% خلال أوت 2013، وهو ما أدّى إلى انخفاض نسق الاستهلاك والاستثمار المحلّي والأجنبي وتآكل الطبقة الوسطى وارتفاع نسبة البطالة والتّي بلغت في نفس التاريخ المذكور 17.6% . هذا ويجمع جميع الخبراء على انخفاض الثروة الوطنيّة وتضرّر مختلف القطاعات الحيويّة التّي تمثّل دعامة الاقتصاد المحليّ كالسياحة والصادرات والاستثمار الأجنبي المباشر، ممّا انعكس على التصنيف الإئتمائي لتونس وأدّى إلى تخفيضه وما يعنيه ذلك من انحشار للاقتصاد التونسي تحت رحمة هياكل النقد الدولي.

انعكاسات الاضطرابات الأمنيّة والصراعات السياسيّة تبدو كارثيّة على الاقتصاد المحليّ. وقد بدأت نذر تفاقم الصراعات السياسيّة في تونس وتحوّلها إلى نزاع أهليّ تلوح بجديّة في الأفق، خاصّة بعد سلسلة الهجمات التّي تعرّضت لها القوّات الأمنيّة والعسكريّة وتكرّر حوادث الاغتيال وتفشّي العنف السياسي. فهل بإمكان الاقتصاد التونسيّ الهشّ مواجهة أزمة يبدو أنّها ستكون أعمق من تقديرات أكثر الخبراء تفاؤلا؟

إلى متى يمكن لتونس أن تحتمل هذا الضغط؟

من المحتمل حسب خبراء الأزمات والمخاطر أن يؤديّ تفاقم الأزمة السياسيّة وما قد يتلوها من انفجار للوضع الاجتماعيّ والأمنيّ في تونس إلى زيادة حالة الانكماش الاقتصاديّ الحاليّة نظرا لعدّة أسباب، أوّلها الارتفاع المحتمل للنفقات الأمنيّة والعسكريّة والتّي ناهزت سنة 2012 ما يقارب 1046 مليون دينار بالنسبة لوزارة الدفاع و 1885.6 بالنسبة لوزارة الداخليّة. وهذه النفقات ستعرف ارتفاعا ملحوظا في الفترة القادمة نظرا لتأزّم الوضع الأمنيّ في البلاد واحتمالات تطوّره نحو الأسوأ. و لكنّ هذه الأرقام ستكون عبئا قد لا يقدر الاقتصاد التونسيّ على تحمّله نظرا لما سيتزامن خلال الأزمة من ارتفاع لنسبة التضخم بالنظر إلى انخفاض الناتج المحلي وارتفاع الأسعار، وانخفاض سعر صرف الدينار وارتفاع الإنفاق الحكومي، خصوصا وأنّ جزءً من هذه النفقات يتّم صرفه بالعملات الأجنبية، ما يعني أنّ العجز المالي للدولة سيقفز نحو سقف مرتفع للغاية دون أن نغفل أهميّة خدمة الدين والتّي تناهز 3 مليار دولار أمريكي.

أمّا فيما يتعلّق بالقطاع الخاصّ، فمن المتوقّع أن يتعرّض بدوره لأضرار فادحة ناتجة عن عجزه عن مجاراة التطورات المستجدة في المجالات العلمية والتقنية والمهنية والإدارية بسبب محدودية أفق العمل الناجمة عن حالة الصراع وانعدام الأمن والاستقرار وانخفاض المنافسة الداخلية. وأغلب الظنّ حينها أنّ عدداً معتبراً من كبار رجال الأعمال وأصحاب المشاريع سيغادرون تونس بغية العثور على فرص استثمار في أماكن مستقرّة، تماما كما حدث في الأسابيع الأولى بعد سقوط نظام بن عليّ.

كما يسبّب تفاقم الصراعات السياسيّة والاضطرابات الأمنية وما ينتج عنها من انهيار للمؤسّسات وانتهاك للقوانين والأطر الرسميّة للأنشطة الاقتصاديّة في ظهور ما يسمى بالاقتصاد الموازي، الذّي ترعاه مثل تلك الظروف وتوفّر له الأرضية الملائمة لينمو ويترعرع و ليؤدّي إلى إحكام سيطرة المافيا المنظّمة على الدورة الاقتصاديّة.

وتتواصل سياسة الهروب إلى الأمام عبر الترفيع في الأسعار تارة والتوسّل والتداين طورا وارتهان مستقبل البلاد والسيادة الوطنيّة لتوجيهات هياكل النقد الدولية، وها نحن اليوم نعيش فصلا جديدا من فصول الهروب اللا منتهي عبر خوض صراع مفتوح ضدّ الحركات الإسلامية المتطرفّة، صراع كان من الممكن تفاديه لو أصغت الحكومة لتحذيرات المجتمع المدنيّ من تنامي التطرّف الديني وانتهاكات سابقة تغاضى عنها المسؤولون في فترة التحالف وتبادل الأدوار، والمناورة و التلاعب بآمال الملايين الذّين ينتظرون من الحوار الوطنيّ أن يكون خطوة لانتشال البلاد من واقع ضبابيّ. وإلى حين كتابة هذه الأسطر، مازالت الحكومة مشغولة “بحربها” ضدّ من ترعرعوا في ظلّها ودفعتهم تراكمات عشرات السنين إلى اختيار الموت كبديل لحياة لا تغريهم، ومازال رجال السياسة منشغلين بمبارزاتهم الكلاميّة ومزايداتهم السياسيّة، … ومازال معطّل آخر يجمع ثمن قارورة بنزين ليلسعنا في يوم قادم بجسده الملتهب لعلّنا نجد الطريق الصحيح للخروج من المتاهة.