التّجارات السّياسيّة الثلاث: تجارة الجوع الهووي وتجارة الجوع المادّي وتجارة الجوع المدني أغرقت النّخبة السّياسيّة في نزيف قيمي حادّ أسلمها إلى الإغماء وأخرجها من الخدمة. فلم يتخرّج من المدارس الثّلاث: التّأسيسي والتّرويكا والمعارضة أيّ رمز يمكن أن يكون محجّا للجماهير المتعطّشة إلى ولادة شخصيّة وطنيّة تحمل لواء المرحلة. هذا الإفلاس جعل ركوب الحوار الوطني على ظهر الأحداث شيئا غير مستنكر ولا مستغرب رغم لا شرعيّته الفاضحة. وبعد ذلك صار كلّ شيء مرحّبا به جماهيريّا بشرط أن يكون قادرا على طمس الوجوه والأصوات الممجوجة.
يبدو أنّ الحوار الوطني نفسه كان لمسة مخرج عبقري..وقد يكون هوليوديّا. وورقة المهدي جمعة لم تكن منتظرة. لكنّها كانت موجودة ومعدّة سلفا لهذه المرحلة. واحتاج إخراجها إلى لعبة تمويه مركّزة جدّا ومحبوكة بإحكام كبير. كان المطلوب أن يكون الحوار الوطني ماراطونا مرهقا عقيما ترافقه نكسات الاقتصاد الوطني وتدهور الوضع الأمني في أبواق الإعلام، إلى درجة يصبح معها الوصول إلى الشّاطيء حلما ولو كان في وكر القراصنة.
قدّرنا في التّحليل السّياسي عند توافق المتفاوضين على شخصيّة المهدي جمعة أنّ حكومته المنتظرة ستكون حكومة محاصصة. وأصبنا في التّقدير حين رأينا أنّ ما توصّل إليه الحوار الوطني هو بداية وضع دائم وليس تتمّة مرحلة انتقاليّة. كان طرفا المحاصصة من صلب الثّورة المضادّة : أي القوى التي قامت الثّورة عليها وتلك التي حالت دونها ودون قضاء الثّورة عليها. وفعلا برزت المحاصصة في وجود أسماء عملت مع نظام بن علي وفي وجود شخصيّات عملت في حكومة النّهضة. وباستقراء المرحلة الانتقاليّة يمكن أن نستنتج أنّ الحوار الوطني كان تفاوضا ثلاثيا على الحقائب. لا يمكن أبدا احتساب الرباعي الراعي للحوار ضمن الأطراف المتفاوضة إذ المنظّمات الأربع خرجت خالية الوفاض إلاّ إذا احتسبنا المغانم الفردية إن وجدت أو النقاط الرّمزيّة التي سجّلها اتّحاد الشّغل وبشائر لأصحاب رأس المال المحلّي التّابع من خلال انتعاش آمال الشّركات الأجنبيّة. فالتّفاوض كان بين طرف متعدّد يمثّله رئيس الحكومة المكلّف ومصالح سياسيّة مرتبطة بالنّظام القديم وحركة النّهضة.
لم يعد عنوان المحاصصة الدّاخليّة سوى عنوان فرعي. وعنوانها الرّئيسي مصالح القوى الأجنبيّة. فقائمة وزراء جمعة المقترحة مشبعة بالشّخصيّات التي تجمع بين المواصفات الأكاديميّة وتسيير المؤسّسات الدّوليّة.
وجهان بشعان للمحاصصة المقيتة تردّت فيهما ثورة الشّعب التونسي. المحاصصة الدّاخليّة على السّلطة والمحاصصة الأجنبيّة على الوطن. وبعد هذه الفصول لا حاجة بنا إلى استنزاف المخيّلة في استيلاد نهاية للمشهد. نحن في انتظار الثّورة.
الجديد في المسألة أنّنا للمرّة الأولى نرى سياسة معولمة في تونس. كانت السّياسة محليّة تحرّكها إملاءات وشروط خارجيّة. والآن نحن أمام طاقم معولم كوّنته الشّركات والمؤسّسات العالميّة. هذا الواقع يبدو محبطا بمعايير استحقاقات الثّورة ومطالب التّحرّر الوطني واستقلال القرار. ولكنّه ينطوي على فرصة يستدعي حسن استغلالها درجة عالية من الوعي عند النّخب ومستوى مرموق من الانسجام ووضوح الرّؤية. وأوّل شروط تحقيق هذا الانسجام هو أن نفهم أنّ العولمة لا تستهدف تذويب الهويّات قسرا ولا ترمي إلى تجهيل الشّعوب. العولمة تهاجم العناصر الصّدامية في الثّقافات والهويّات وتريد تسخير الشّعوب تسخيرا ثلاثي الوجوه:
ــ السّيطرة على مقدّرات الشّعوب عبر الشّركات ورهن مستقبلها بالمديونيّة.
ــ استغلال الوضع الاجتماعي الصّعب لامتهان القوى العاملة بأقلّ كلفة ممكنة.
ــ تحويل المجتمعات إلى أسواق للاستهلاك.
لكنّ هذه اللّعبة العولميّة تبدو أنعم من الاستعمار التّقليدي، إذ لا يحقق رأس المال المعولم أهدافه إلا بعد أن يكون قد أهّل المجتمع لاكتساب مهارات الإنتاج التكنولوجية وشروط التعامل مع المنتوج. فالاستهلاك أيضا ثقافة. وبهذا تعطي العولمة فرصة لتحديث البنيات الذهنية تماما مثلما تشترط تحديث البنيات التحتية. وهذا هو الصيد الثمين الذي يجب على المجتمعات اقتناصه. فالديمقراطيّة أصبحت معطى كونيا في وجهها الشكلي. ما يمنع من إعطائها مضمونا حقيقيا بنّاء هو أمر مرتبط بقدرة الثقافة على التفاعل معها إيجابيا ودون استسلام ولا تسليم، بقدرما هو مرتبط بنضج النّخب.
تونس في المنعطف الرّاهن محوجة إلى قدر مقبول من الوعي بالرّيادة والمسؤوليّة التّاريخيّة على سلامة الّتمشي في السّياسة والاقتصاد والثّقافة والتّنمية الشّاملة لتخطّ طريق النّجاح للمنطقة العربيّة بأسرها. وتونس مؤهّلة بحكم توسّطها الجغرافي وتماسّها تاريخيّا مع الفضاء الأوروبي لذلك الدّور.
إنّ للثّورة مكاسب بيّنة رغم حالة الإحباط النّاجمة عن فشل القوى المحليّة المنتخبة في إدارة الشّأن العام. وأهمّ هذه المكاسب في تقديري المتواضع نفسي. فالثّورة التّونسيّة تتلخّص في كسر حواجز الخوف من أجل التّغيير دون المجازفة بسلامة كيان الدّولة. وهو أهمّ من الدّستور الجديد لكون بقاء الدّولة وحفاظها على وظائفها الأساسيّة هو شرط شروط إنجاز المهام التّأسيسيّة جميعها.
الوضع الحالي بالغ الدقّة من حيث هو قائم على مسرح صراع الإرادتين الوطنيّة والأجنبيّة. لكنّه واقعيّا صراع غير متكافيء، إذ الإرادة الوطنيّة تعدّ في طور التّبلور منذ اندلاع الثّورة وقد كانت “إرادة الحياة” أكبر شعاراتها. ولكنّ صراع النّخب ونفوق التّجارات السّياسيّة الثّلاث نعني تجارة الجوع بضروبها الثّلاثة: الهووي والمادّي والمدني، شوّشت على فرص تشكّل هذه الإرادة.
le citoyen Tunisien est loin de comprendre se qui se passe autour de lui, on a confisqué ses ambitions et ses rêves on lui a volé sa révolution, ce qui est sur c’est qu’on lui fait comprendre qu’il va payer trop cher sa révolte, pauvre de toi cher citoyen et maudit à vous les comploteurs
Une de nos responsabilites est celle d expliquer ce qui se deroule autour de nous.