منظومة التغطية الإجتماعية: الحصن الأخير للطبقة الوسطى في تونس

couverture-sociale-tunisie

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،

تتفاقم مشكلة الصناديق الاجتماعية يوما بعد يوم حتى بلغ بها العجز وضعا خطيرا بشهادة المسئولين عن هذه الصناديق. إنّ الدور الاجتماعيّ الذي تلعبه منظومات التقاعد والضمان الاجتماعي في تونس يتجاوز دوره التقليديّ أو النمطيّ المتمثّل أساسا في جرايات التقاعد والعلاج لتتحوّل إلى جدار ضمان أخير لعموم الطبقة الوسطى والفقيرة في تونس والتي تعاني من الاهتراء ومزيد التآكل وتفاقم الحاجة مع ارتماء تونس في منظومة العولمة والإصلاحات المسقطة من الخارج ومن هيئات النقد الدوليّة، حيث يصبح الجانب الاجتماعي آخر الاهتمامات أمام حسابات الربح والخسارة وحجم المردوديّة.

إنّ هذه الوضعية الصعبة لمختلف الصناديق الاجتماعيّة في تونس تطرح أكثر من سؤال عن ماهية الإصلاحات والقرارات الواجب اتخاذها وعن السبب الكامن وراء انهيار هذه المنظومة. ولكنّ السؤال الأهمّ والأعقد، هل ستكون هذه الإصلاحات أو التغييرات نابعة من الخصوصيّة التونسيّة وتهدف بالفعل إلى تدعيم الدور الاجتماعيّ لهذه الصناديق؟ أم ستكون حلقة من حلقات الهروب إلى الأمام وتسكين المشاكل لا معالجتها؟.

المنظومة الاجتماعيّة في تونس ودورها في ضمان التوازن الصعب

منظومة التغطية الاجتماعيّة لم تكن حديثة العهد في البلاد، إذ ظهر أول نظام للتغطية الاجتماعية بتونس سنة 1898 عبر نظام الحيطة الاجتماعية لموظفي الدولة الذي عمل على توفير جرايات تقاعد لمن ينهي خدمته في صلب المؤسّسات العموميّة.
أما في القطاع الخاص، فقد وضعت تشريعات فرنسيّة لجبر الأضرار الناتجة عن حوادث الشغل في التراب التونسي سنة 1921، إلى جانب إرساء نظام للمنح العائلية في القطاعات التي يشرف عليها الفرنسيّون أو الخواص التونسيّون.
أمّا بعد الاستقلال، فقد عرف قطاع الضمان الاجتماعي انطلاقة نوعية باعتبار صدور العديد من النصوص التشريعية والترتيبية التي مكنت من توسيع التغطية الاجتماعية لتشمل جل السكان النشيطين ولتبلغ نسبة التغطيّة الاجتماعيّة سنة 2013 ، 81,8 % في القطاعين العموميّ والخاصّ.
ترتكز هذه المنظومة على إحداث نظام ضمان اجتماعي يراعي القدرات التمويلية لكل فئة مهنية وتضمن لهم المنافع الاجتماعية الدنيا من تغطية صحية وجرايات تقاعد، وتعويض وعلاج لحوادث الشغل والأمراض المهنية.
أمّا هياكلها فتتوّزع على ثلاث مؤسّسات هي؛ الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية الذي يتولى تأمين التغطية الاجتماعية لأعوان الوظيفة العمومية والقطاع العمومي بصفة عامة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يسهر على توفير التغطية الاجتماعية لأعوان القطاع الخاص من الأجراء وغير الأجراء العاملين في مختلف قطاعات النشاط بالإضافة إلى الصندوق الوطني للتأمين على المرض الذي يدير مختلف أنظمة التغطية الصحية للمضمونين الاجتماعيين للقطاعين العمومي والخاص وإسناد منح المرض والأمومة ويتولى كذلك إدارة أنظمة جبر الأضرار الناتجة عن حوادث الشغل والأمراض المهنية.

وقد توسّعت الصناديق الاجتماعيّة لتشمل تقريبا كلّ الفئات المهنيّة و الاجتماعيّة من الأجراء الفلاحيّين والعمّال والموظّفين والحرفيّين والفنانون بالإضافة إلى الطلبة وحاملي الشهادات العليا والمتربصين والعملة التونسيّين بالخارج.
ولكنّ، ومنذ ما يقارب العقدين من الزمن بدأت هذه المنظومات تسجّل عجزا متواصلا في ميزان مصاريفها ومداخليها تواصل إلى حدود هذه اللحظة ليقرع بجديّة ناقوس الخطر ويطرح بشكل عاجل ضرورة البحث عن مخرج عاجل ونهائيّ للوضعيّة المتدهورة التي شملت الصناديق الثلاث والتي تعتبر شريان الحياة بالنسبة لمئات الآلاف من المتقاعدين ومحدودي الدخل.

واقع الصناديق الاجتماعيّة وآفاق الحلول

في هذا الإطار، وبحثا عن ردّة فعل الجهات الرسميّة تجاه الأزمة الخانقة التي يعيشها هذا القطاع الحيويّ، كان “لنواة” حوار مع “سيّد بلال” رئيس مدير عام الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية حاولنا من خلاله فهم أسباب الأزمة وحجمها الحقيقيّ وما هي أهمّ الحلول العاجلة من وجهة نظره بالإضافة إلى الإصلاحات الهيكليّة المنتظرة.

حدود وتعقيدات الإصلاحات المزمعة

إنّ إصلاح الوضعيّة المتدهورة للصناديق الاجتماعيّة وكما أشار رئيس مدير عام الصندوق الوطني لتقاعد والحيطة الاجتماعيّة يمثّل ضرورة عاجلة ويجب أن يشمل خطوات آنيّة وإصلاحات هيكليّة، ولكنّ هذه الخطط والإصلاحات المزمع إجراؤها مليئة بالتعقيدات والمشاكل التي قد تؤثّر سلبا على حياة التونسيّين وتعمّق من معاناتهم الاقتصاديّة. وقد حاولنا استجلاء تأثيرات الإصلاحات والمقترحات من خلال الاستعانة بخبراء في المجال الاقتصاديّ كمعزّ الجودي وعزّ الدين سعيدان.

في بداية مداخلته، أشار الأستاذ معزّ الجودي إلى أنّ مشاكل الصناديق الاجتماعيّة بدأت قبل الثورة بسنوات، وأنّ العامل الديمغرافيّ ليس الأساس في مشاكل المنظومة الاجتماعيّة، إذ تمّ إهدار المال العام وميزانيّة هذه الصناديق لأغراض سياسيّة تمثّلت خاصّة في تمويل شركات ذات حضوة أو تمويل حملات الحزب الحاكم آنذاك وغيرها. أمّا الخطأ الأكبر بعد 14 جانفي 2011، كان في إهمال هذا الملفّ الشائك والمستعجل، فالوزير السابق خليل الزاوية كان خائفا ومتردّدا لاعتبارات سياسية وحسابات انتخابيّة ولم يستطع اتخاذ قرارات حاسمة أو البدء في إصلاحات هيكليّة لمشاكل متراكمة منذ عقود بينما مشكلة الصناديق الاجتماعيّة هي أولويّة وطنيّة فوق كلّ اعتبار أو مصالح حزبيّة ضيّقة.
أمّا بالنسبة للحلول والإجراءات اللازمة لانتشال منظومة الضمان الاجتماعي من وضعيتها الحالية، فيجب أن تبدأ باستشارة وطنيّة تظمّ كلّ المعنيّين والفاعلين في هذا القطاع، مع مراعاة الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي تمرّ بها البلاد وتدهور القدرة الشرائيّة للمواطن التونسيّ ممّا يجعل من فرضية الترفيع في المبالغ المقتطعة لفائدة الصناديق أمرا مستبعدا. أمّا بخصوص الترفيع في سنّ التقاعد، فيرى الجودي أنّه ربّما الخيار الوحيد المتاح. على عكس سابقه، اعتبر الخبير عزّ الدين سعيدان أنّ الترفيع في سنّ التقاعد سيفاقم مشكلة البطالة وسيخلق العديد من المشاكل المتعلّقة بالتسلسل والترقية الوظيفيّة مستغربا من غياب رؤية استباقيّة لسلط الإشراف التي اكتفت بدور المراقب ولم تبدأ التحرّك الجديّ إلاّ بعد تدهور الأمور إلى مرحلة خطيرة جدّا. أمّا مسألة الترفيع في المبالغ المقتطعة أو التخفيض من الجرايات وإحداث صندوق تكميلي، فهي حلول حسب رأيه لا تتماشى ووضعيّة البلاد الراهنة، حيث لن يقدر المواطن المنهك من تبعات الغلاء وارتفاع المعيشة و التضخّم من مجاراة تلك الإجراءات المقترحة. كما أن مسألة بعث صندوق تكميليّ يجب أن يتمّ دراستها بتعمّق أكبر نظرا لما ستتطلّبه من مجهود مضاعف من المؤجّر والأجير وما قد يكون لذلك من ارتدادات سلبيّة على نسق الاستثمار المحليّ والأجنبيّ المتدهور أصلا. وقد شدّد على أنّ ما يُطرح اليوم من حلول واقتراحات هو نتيجة الضغط وتفاقم العجز وهي بالتالي حلول اضطراريّة لا يمكن اعتبارها إصلاحات جذريّة قادرة على تغيير مستقبل وضعيّة هذه الصناديق الاجتماعيّة.

الاتحاد العام التونسي للشغل، كان بدوره حازما تجاه مثل هذه المقترحات أو الحلول، إذ اعتبرها وعلى لسان السيّد عبد الكريم جراد الأمين العام المساعد والمسؤول عن التغطية الاجتماعيّة، بالونات اختبار لن تمرّ. وقد أضاف السيّد عبد الكريم أنّ تحديد سنّ التقاعد محدّد بقانون وبالتالي لا يمكن أن يتغيّر إلا بقانون يلغيه صادر عن السلطة التشريعيّة، كما أنّ الحلّ الحقيقيّ للأزمة يكمن في الأخذ بأسباب عجز الصناديق وهي مشاكل هيكليّة تتطلب حلولا جذريّة لا مجرّد إجراءات شكليّة كمسألة الترفيع في سنّ التقاعد والتي لن تكون سوى حلّ جزئيّ ومؤقّت.
أمّا مسألة إعادة النظر في قاعدة الاحتساب، فيرى الأمين العام المساعد أنّ الصيغة الحالية مكسب وطنيّ لا يجوز التفريط فيه بأيّ شكل من الأشكال وأنّه لن يتم السماح بالمساس به كون سيضرب المنظومة ككلّ، بل ذهب بعيدا ليقول أنّ إفقاد الجوهر الاجتماعي والتضامنيّ لهذه الصناديق سيحدث ثورة أخرى في البلاد.
وقد رفض محدّثنا بصفة قاطعة أن تكون الإصلاحات أو القرارات مسقطة، بل شدّد على أنّ الحلّ يكمن في الجلوس والتحاور وفق العقد الاجتماعيّ الذي سبق توقيعه بين الدولة ومنظمة الأعراف والاتحاد والبدء في استشارة معمّقة وجدّية لتطوير أداء الصناديق وضمان عدم المساس بحقوق الأجراء وجوهر المنظومة ككلّ.

بعيدا عن الحسابات السياسيّة ومحاولات التوظيف والمزايدات، تبدو أزمة الصناديق الاجتماعيّة أعمق من أيّ حلول عاجلة أو مسكّنات ظرفيّة، وهو ما يستدعي بالفعل تجنّد جميع الأطراف لحلّ هذه المعضلة ذات الطابع الوطنيّ بعيدا، فالكارثة لو حلّت لن تستثني أحدا وهذه المنظومة لو انهارت فإنّها ستشكّل واحدة من أكبر النكسات التي سيعرفها الشعب التونسيّ، والمطلوب اليوم أن توضع خطّة واضحة للإنقاذ تتجاوز الشعارات وخصوصا الإسقاطات، فتبنيّ النماذج الأجنبيّة والتجارب الأخرى وإن كانت ناجحة دون الأخذ بعين الاعتبار الظرفيّة السياسيّة والاقتصاديّة للبلاد في الوقت الراهن لن يكون سوى تكرسا لخطوات سابقة من تسليم البلاد للإرادة الأجنبيّة ولن بسهم بأي حال من الأحوال إلاّ في تعميق الأزمة.

Inscrivez-vous

à notre newsletter

pour ne rien rater de nawaat

2Comments

Add yours

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *