المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
boycot-elections-isie-tunisie-2014
مصدر الصورة: الفايسبوك، بتصرف

بقلم إسماعيل دبارة*،

(ثقافة الإنكار) والعناد المستمر، تحكم سيكولوجية الإنسان العربي عامة والتونسي خاصة، ولها جذور تمتد في الزمان والمكان، وهذه الثقافة تبدو لنا “نتيجةً” لإرث ثقيل ومتكلّس نرفض مراجعته وعرضه للتمحيص والتدقيق، لا “سببًا” فحسبُ لنكسات وصفعات نتلقاها بشكل يومي.

يمكن باختصار تقسيم نظرة الإنسان لواقعه إلى قسمين اثنين، يحددان بالضرورة الناجح والفاشل في تحقيق سعادته في حياته الدنيا.

عالم نعيشه… وعالم نتوهّمه

نظرة أولى تستند إلى الأيديولوجيا بأنواعها المختلفة، سواء كانت مادية أو ميتافيزيقية تحمل معها تصورا ما عن الطريق الأنسب لتحقيق سعادة الفرد والجماعة، وتقولب ذلك الطريق في شكل ما، بشروط ومواصفات نموذجية مفترضة لحياة البشر وعلاقاتهم البينية، وعلاقاتهم ورؤيتهم لحقائق العالم المادية.

معتنقو الأيديولوجيا في مسعًى محموم لتطويع واقعهم المعقد والمتشابك في تلك القوالب التي يحملونها كطرائق للسعادة والنجاح والرفاهية، لا يريدون الشذوذ عنها، ولا تسامح منهم في بلوغ الصورة النموذجية فائقة الخير والجمال، بأدق تفاصيلها، وينسبون كل انتكاسة تظهر في مساعيهم تلك إلى “اختلال التطبيق” لا إلى علة في الصورة النموذجية نفسها أو في الطريق إليها، وهذا ما يؤدي بالنتيجة إلى كم هائل من الأكاذيب والأراجيف والمزاعم، ترافق مسيرة هؤلاء نحو أهدافهم.

النظرة الثانية، مقابلة للأولى، ولا تلتقي معها إلا في النوايا الطيبة حيال تحقيق سعادة الفرد ورفاهيته، لأنها تعتمد العلم كمنظار ترى منه حقائق الحياة وكمنظم لعلاقاتها، وهي رؤية تدرك نسبية تلك الحقائق، فلا تعتقد بتا بحقائق مطلقة شاملة، وتدرك شديد الإدراك معنى النسبية والتغيّر المستمر في الحياة وعلاقاتها ومفاهيمها من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى آخر.

النظرتان أعلاه تجاه الحقائق على الأرض تختلفان، وتشكّلُهما لأول مرة، هو بالضرورة نتاج لأسباب كثيرة لسنا معنيين ها هنا بطرقها، لكن يمكن القول إنّ التجمعات البشرية التي تعتنق إحدى النظرتين، دون الأخرى، تبدأ باستجابة لميول أساسية في عقلية الجماهير وسيكولوجيتها ومقدساتها، وثقافتها السائدة والموروثة، لكن بمرور الزمن، يتحول هذا “الاختيار” من عامل استجابة لنوازع ذاتية وثقافية لدى تلك الجماهير، إلى عامل تشكيل لوعي الجماهير ذاتها، أي التحول المهم والمصيري، لنظرة الناس للحياة والواقع، من نتيجة إلى سبب، ومن حاجة إلى ضرورة.

تفسيرات متوهّمة لمشاكل حقيقة

ننتمي – بلا فخر- إلى أصحاب النظرة الأولى التي انتهت بنا إلى تسيّد معتنقي ثقافة الإنكار والعناد واستبدال عالمنا المعيش بعالم موهوم مفترض لا وجود له إلا في مخيّلاتنا، لا نكتفي بإيهام أنفسنا به، بل نراوغ ونلفق كثيرا أو قليلا، لتمريره إلى الآخر بإصرار عجيب يبدو عصيًا على التفسير.

عندما ننظر إلى واقعنا بنظرة غير علمية، من الطبيعي أن تتحول الثورات إلى “فورات”، وتتحول الانتصارات إلى هزائم، و النكسات إلى بطولات، و يتحول الشهيد إلى إرهابي، والإرهابي شهيدا، ويصبح الثائر خائنا، والمستبد بطلا، والمرتزق صنديدا، والصنديد مرتزقا…إلخ

وآخر ما صدر في هذا السياق، ما تفضل به المحللون والسياسيون ومسؤولو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، من أسباب قالوا إنها تقف وراء عزوف التونسيين عن التسجيل في القائمات الانتخابية، كخطوة أولى وضرورية من أجل الظفر بحق وواجب الاقتراع، وهو حق وواجب مقدس في الدول الديمقراطية.

يمكن اختزال الأسباب التي تفضلت بها “النخبة” تجاه ظاهرة العزوف عن التسجيل في الآتي:

– ضعف الومضات التحسيسية في الإعلام وتحميل هيئة الانتخابات المسؤولية.

– خصوصية شهر رمضان المعظم وتحديد التوقيت الإداري المألوف موعدا للتسجيل.

– دور الإعلام السلبي في نشر الإحباط وشيطنة السياسيين والعملية الانتخابية. (موقف الشيخ راشد الغنوشي ومن والاه – الشروق أونلاين – بتاريخ 7 جويلية 2014)

وأسباب أخرى تبدو أقل أهمية.

البعض استند إلى تلك الأسباب ليقفز إلى طلب، سبق وأن دعا إليه، تلميحا أو ظاهرا، آي تمديد آجال التسجيل، وتأجيل الانتخابات بالضرورة والعبث بالرزنامة التي قيل إن الفرقاء في تونس “توافقوا” عليها بشق الأنفس.

والمطالب التي قفز البعض إليها، دون البحث بشكل جدّي في أسباب العزوف عن التسجيل للانتخابات، وهو ما يشي بمهزلة انتخابية غير مسبوقة إن تواصل هذا العزوف في مقبل الأيام، تشير إلى أن المعالجة علاوة على أنها غير علمية ولا تمت لحقائق الواقع بصلة، فإنها سياسوية ضيقة، تحيلنا إلى صنف من السياسيين يقدسون ثقافة الإنكار والعناد والتلفيق حتى النخاع.

أكاذيب لذيذة

في تونس تفاقمت حالة من الإنكار، رافقت المسار التحرري الذي بدأ ذات 17 ديسمبر 2010، وشملت كافة الميادين، فالجميع ينكر ويعاند ويكابر، ويرفض رؤية الحقيقة كما هي بمنظار غير منظار الوهم والإفتراض والتمني، وهذا ما يفسّر تفاقم الأزمة وانحدارها نحو الأسوأ عوضا عن تلمّس الطريق نحو الحلّ بعد أكثر من 3 سنوات عن رحيل الطاغية.

والأكاذيب اللذيذة والمريحة، عادة ما تنتعش في سياق القهر والإحباط، فهي تعفينا من الوقوف وجها لوجه أمام واقع مُزرٍ، ومعلوم أن حالات اليأس تجعل اليائس يتشبث بكل من يزعم القدرة على تحسين الأوضاع ولو كانت المزاعم لغوا لا طائل من ورائه.

تكشف معالجتنا لـ”الصفعة” المدوية التي وجهها التونسيون بالتعامل مع “انتخابات التوافق” بلا مبالاة تامة، عن إصرار مريع في التنكر لحالة الفشل العامة التي نعيشها منذ أن “توافق” المناضلون الأشاوس والنظام القديم على مشهد سريالي ملفّق، يتيح للحكام السابقين البقاء أقوياء متنفّذين خارج السجون وبعيدا عن الملاحقات، ويُتيح للمناضلين القدامى، المشاركة في الحكم والتخلص من عبء (النضال إلى الأبد).

وفات طرفا الوفاق التاريخي، أن البشر يختلف عن الصلصال فيما يتعلق بتشكيله بالصيغة التي نحبّ وبالشكل الذي نريد. فالبشر لا يتحلون بالمرونة التي يتحلى بها الصلصال، ولا يمكن للصلصال والبشر أن يتشابها إلا في العالم المفترض المزعوم الذي تحدثنا عنه، وينهل “الفرقاء المتوافقون” من أساطيره وخزعبلاته بلا ملل، فكانت “الصفعة” الأولى التي نعتقد أن صفعات جديدة ستليها.

ما الذي جرى إذا ؟

السؤال المطروح الآن، ما الذي نسف حالة الحبور والوفاق التي عاشتها تونس منذ أواخر العام 2013، وأدت إلى دستور توافقي، وحكومة توافقية، وقرارات توافقية ورزنامة انتخابية توافقية، وربما ستؤدي إلى رئيس توافقي، وبرلمان توافقي، وحكومة أخرى توافقية، ليكون التوافق عنوانا لتونس ما بعد بن علي؟

لسنا من معتنقي التفسير بالسبب الوحيد الأوحد، فتلك مهمة معتنقي (ثقافة الإنكار)، فمشاكل تونس التي تترنح ونراها تضيع ونحن ذاهلون، هي نتيجة شبكة سببية معقدة للغاية، تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والبيئية والثقافية والنفسية والاجتماعية والروحية والأخلاقية وغيرها.

تلك الأسباب لا تعفي التونسيين في كلّيتهم، شعبا وحكاما ومعارضة وما بين كل ذلك، من تحمل المسؤولية بدرجات متفاوتة، كل من موقعه، لكن تحميل “الحملات التوعوية” مسؤولية ضعف الإقبال على التسجيل هو ضرب من الاستنطاع وهوس مرضي بتجميل الفشل والإخفاق والحنين الى عهد التزوير والتلفيق، ومعاملة نفوس تائقة إلى الثورة على القديم، بالضحك على الذقون و”الإيهام في القول” والوصاية التي ولّى عهدها.

الذين تنكروا للتسجيل هم خليط غير متجانس من المحبطين والمتواكلين والكسالى والمنشغلين والمُعدمين والمهمّشين، وأصحاب الإنتظارات الكبرى من حالمين وأصحاب الطموح غير المتناهي، ينظر كل منهم إلى “الشأن السياسي” بمنظوره الخاص، ولا يمكن تجميعهم في سلة واحدة، على اعتبار أن المشاركين في المسار التحرري في 17 ديسمبر، هم أيضا مختلفون ومتنوعون ولم يكونوا على كلمة سواء.

من بين غير المبالين بالعملية الانتخابية، أقلية شاركت في الأحداث التي شهدتها تونس منذ 17 ديسمبر وربما قبل ذلك، فكانت انتظاراتهم عالية للغاية تتجاوز التوافق الحالي بين القديم والجديد، لا تقف عند المحاسبة والكرامة والحرية كاملة غير منقوصة، بل تتجاوزها إلى تونس أخرى عبروا عنها في شعاراتهم التي مازال بعضها مرسوما على الجدران، وهؤلاء فوجئوا بنتائج لا ترتقي إلى الدم الذي سُكب على هذه الأرض قبل أن يلفّق الملفّقون مقولة (سلمية) و(ياسمين) لمسار تحرري مازال متواصلا وسطره شباب بالدم والتضحيات والقهر.
وهؤلاء لم يسجلوا في القائمات الانتخابية لأنهم خائفون من الدولة البوليسية التي تضررت معنويا لكنها لم ترحل، وعادت ببطشها المعهود لتكون كابوسا يطل برأسه يوميا، مُروعًا من تصدوا لهجمات البوليس بصدور عارية، بتهم ملفقة وكيدية.

من بين غير المبالين بالعملية الانتخابية كذلك، مشاركون لأول مرة في انتخابات جرت في 2011، قيل إنها شفافة ونزيهة، وغالبيتهم من الشباب المتحمّس، فتفاجئوا بنكث السياسيين لوعودهم، وذهلوا للأداء المتواضع لمن أوصلوهم إلى سدة الحكم بأصواتهم، وصدموا بمن كان يعدهم بالتخلص من المنظومة السابقة التي نالت منهم، وهو يجالس أو يعانق أو يربت على كتف من سالت الدماء من أجل رحيلهم.

ومن بين غير المبالين بالعملية الانتخابية أيضا، حشود هائلة من البسطاء يهمّهم الخبز بالمقام الأول، شاركوا في انتخابات 2011 عندما قيل لهم إنها ستحمل التغيير والرخاء والعدالة والخير الكثير والغزير، فتفاجئوا بزيادات مهولة في الأسعار، وقرارات تستهدفهم في لقمة عيشهم، لم ترافقها قرارات بذات الجرأة تستهدف من يملك المليارات، فانتبهوا إلى فوارق، وانتبهوا إلى الكيل بأكثر من مكيال، فكفروا بالعدالة والتغيير إن كان على تلك الشاكلة.
ومن بين غير المبالين بالعملية الانتخابية نجد أيضا متعلمون ومثقفون، يدركون ضعف التنافسية وانحياز الإعلام لطرفين لا غير، فرفضوا المشاركة في انتخابات معلومة النتائج سلفا، تشي كل مؤشرات “التوافق” بنتائجها.
ومن بين غير المبالين بالعملية الانتخابية كذلك، مصابون بالهلع من الإرهاب الذي لم يتعودوا عليه، وهم يتابعون صور الأشلاء والأطراف المبتورة والألغام المنفجرة والجنائز المتواترة ونحيب الثكالى والأرامل.

وأخيرا، من بين غير المبالين بالعملية الإنتخابية، من لم يسعفه الوقت وصيام رمضان للتسجيل، فاطلع على تفسيرات الإعلام والسياسيين ولجنة الإنتخابات عن أسباب العزوف، وتجاهلهم لكافة الأسباب الموضوعية والمنطقية… فقرر عدم التسجيل !
“مادة خام” بصدد التشكل

قصارى القول، لا نتعشّم صحوة للسياسيين بعد هذه الصفعة المدوية التي وجهت إليهم بتسجيل 108 ألاف شخص فقط من مجموع 7 ملايين يحق لهم التصويت في منتصف المدة المخصصة للتسجيل، فمسار التزوير والأكاذيب الذي اختاروه جعلهم يصدقون أكاذيبهم ويتحولون إلى ما يشبه المريض الذي هوى في غيبوبة بلا قرار، ويحتاج معجزة ليستفيق منها.

لكننا نعتقد أن المسار الذي اختاروه، والقائم على التلفيق والسير عكس عقارب الساعة وإيهام التونسيين بتوافق مغشوش لن يصمد مع أول خلاف، بدأ يفضي إلى تشكل “مادة خام” من الرفض الذي لم يتخذ بعد أشكالا احتجاجية كلاسيكية، لكنه يعبّر عنها بذكاء وبطرائق مبتكرة، وكان الإنذار الأول في “صفعة التسجيل”.
“المادة الخام” التي تتلمس طريقها في تونس رفضا لمسار انقلابي غادر على أحلام ما كان لها لتنمو لولا التضحيات والدماء والشهداء، تحتاج أصابع سحرية تتقن تحويل “الخام” إلى نفس نضالي جديد وهادر، توجّهه نحو الوجهة الفضلى، لتنطلق الموجة التحررية الثانية التي ستنسف ما تبقى من منظومة القهر والاستبداد التي تأبى الرحيل، وتطيح كذلك بمن تواطأ مع تلك المنظومة وفضّل عودتها وتسيّدها مقابل بقائه شريكا في “حكم” تباركه السفارات والتوافقات والمصالح الضيقة.

*صحافي تونسي