بقلم فرحات عثمان،
لعله مما يبدو لأول وهلة من المفارقات الغريبة هذا التعلق اليوم من طرف أحزاب لا تؤمن بالديمقراطية الحقة بآلية من آلياتها، ألا وهي الإنتخابات. فأنت تسمع يوميا الكلام المسهب على ضرورة الإلتجاء للصندوق وحكم الصندوق وكأنه من القرآن المنزل الذي لا مراء فيه. وفي ذات اليوم تصغي لنفس هؤلاء الذين بمجدون هذه الآلية الآتية إلينا من الغرب ينتقدون هذا الغرب ويرفضون فكره ونظرته للسياسة. إنهم لا يأخذون منه إلا ما فسد ويضربون عرض الحائط بما حسن عنده وأصبح نافقا عند من لا ينافق في تلك البلاد.
إنها ليست ديمقراطية بل ديمومقراطية !
فالصندوق وآلية الديمقراطية النظرية مما لم يعد فيه أي نفع في الغرب نفسه حيث بينت التجارب أن الإنتخابات ليست، في معظم الأحيان، إلا عملية خداع لا خير فيها.
ذلك أن هدفها الوحيد هو إلباس تسلط الساسة قناع سلطة الشعب واختياره، بينما الاختيار الحقيقي يبقى لصناع القرار من شياطين السياسة وأبالسة الأحزاب، يفرضون مرشحيهم بوسائل عدة، قذرة كالمال السياسي، وشبه نظيفة باالتوظيف الإعلامي.
لهذا تنادي الأصوات النبيلة المتعلقة بفهم صحيح لسطلة الشعب في الغرب للخروج من هذه الديمقراطية الخاطئة التي غدت كالصحراء أو الديموم، مرتعا خصب لشياطين السياسة وهي تكثر في المفاوز حسب المتخيل العربي. إنها بحق ديمومقراطية أو حكم شياطين السياسة في ما أصبح صحراء قاحلة لا حكم للشعب فيها حقيقة.
إن مثل هذه الأصوات تدعو اليوم بالغرب إلى ديمقراطية تكون أقرب إلى سلطة الشعب وذلك من خلال آليات تقرب المواطن من مواقع النفوذ في نطاق ما سمّي بالمشاركة Participation والعقل التشاركي Raison participative أو الديمقراطية التشاركية Démocratie participative التي هي أساسا ديمقراطية محلية Démocratie locale.
ديمقراطية هذا الزمن هي ما بعد الديمقراطية !
ولا شك أن هذا التوجه هو الذي يتوجب علينا أخذه عن الغرب حتى لا نستورد إلى بلادنا بضاعة فسدت، فلم تعد صالحة، أو في أفضل الحالات تلك الثياب التي خرجت من السوق والتي هي عماد سوق نافقة عندنا، تلك التي تسمى بالبالة. فنحن قادورن على الإتيان بالجديد، فلا يكون عندها الصندق في بلادنا نعشا لحكم الشعب وإنما أفضل سدة لحكمه بنفسه.
إننا في فترة ما بعد الحداثة، وهي زمن الجماهير، وهذا يقتضي تدعيم الامركزية بالبلاد، لا الإدارية فحسب، بل السياسية بالخصوص، إذ لا تنفع اليوم الإنتخابات إذا لم تكن محلية يختار فيه المواطن مرشحه حسب قانون انتخابي على الأشخاص وفي نطاق عقد يربط المترشح بمن يصوت له مع إمكانية تجريد المتنخَب من منصبه من طرف منتخبه في حالة عدم احترامه لبنود العقد.
بهذا تكون الديمقراطية في بلادنا أقرب للحقيقة منها إلى ما هي عليه اليوم، أي مجرد سوق نخاسة تُباع فيها الأصوات وتُشترى باسم الشعب ولا حول ولا قوة للشعب فيها إذ لا يحكم هذه السوق إلا نخاسة هذا العهد وهي الأحزاب بقائماتها وطغاتها.
لقد أخطأ أهل الساسة ببلادنا بتجاهل الضرورة القصوى التي يحتمها الوضع بتونس والحالة المزرية التي عليها مدننا وقرانا في تنظيم الإنتخابات البلدية والجهوية قبل التشريعية والرئاسية. ذلك لأنهم غلّبوا مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن العليا، فجعلوا من الصندوق الانتخابي نعشا لما كان من الممكن له أن يكون المثال النير لديمقراطية جديدة متناغمة مع متطلبات الزمن.
وهذا المثال هو النمط المابعد الحديث للديمقراطية، أي ما بعد الديمقراطية كما بينا آنفا والتي بها لا يكون الصندوق نعشَ سلطة الشعب بل صندوق الديمومقراطية الحالية التي يتوجب سريعا مواراتها تراب التاريخ قبل أن تقضي على أحلامنا في غد أفضل.
الحركات الإسلامية السياسية باعة الوهم اليائس
ونحن نبحث في مدار الحركات الإسلامية، السياسية بالأساس، وجدنا قراءات عدة عن منشئها، أولا، نكتفي بسرد أبرزها. إذ هناك من يرد نشوء هذه الحركات إلى حالة الاغتراب والصدمة الحضارية التي واجهها العرب المسلمون أمام الهيمنة الغربية الكلية، اجتماعيا وعلميا وثقافيا واقتصاديا، وهناك أيضا من يرد المنشأ إلى فشل التيارات القومية في رفع راية الهوية العربية والتأسيس لمسار عربي اجتماعي واقتصادي وسياسي منبثق من جذور الحضارة الإسلامية وأيام الزمن الضائع. هناك كذلك من يرد نشأة الحركات الإسلامية السياسية إلى ثقل استبداد الأنظمة الدكتاتورية الموالية للغرب، فجاء المشروع الإسلامي خطوة لإعادة هيكلة النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للتأسيس لدول تستأنس بذكريات الماضي وتعيد أمجاده الراسبة في الأذهان.
البقية على نواة