المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

kasbah-tunisie-memoire-courte-revolution-2

بقلم إسماعيل دبارة، صحافي تونسي،

ما فائدة الذاكرة التي لا تصنع ولا تستقرئ؟ الذاكرة ليست «ألبوما» للصّور يفتح في مناسبات؛ ثم يهمل إلى مناسبة أخرى قد تأتي وقد لا تأتي.
المنصف الوهايبي

قد نختلف كثيرا أو قليلا في تقييم الانتكاسة التي آل اليها مسار التحرر في تونس في ظرف وجيز للغاية، وقد نختلف في تحديد أسباب تلك الانتكاسة ومن يقف خلفها ولمصلحة من، لكننا نتفق على الأقل على أنها «انتكاسة» وليست أمرا آخر، وقلنا من هذا المنبر إن الورطة التونسية الفريدة في التاريخ، يتم الترويج لها اليوم كنموذج للثورات الناجحة التي يتوافق فيها من أوصلهم المنتفضون إلى الحكم بعد مسار الدم والتضحيات، مع ما تبقى من أذيال النظام الذين يفترض أن الموجة الثورية الأولى قامت ضدهم، ويا لها من مفارقة.

هي مسيرة إحباط وانتكاس، بدأت من شعارات الحد الأقصى وأحلام اليقظة لتفكيك تركة الاستبداد نهائيا، بعد أن رأينا التونسيين يقاتلون بصدور عارية قوات البطش، ما فسح لنا الباب لنطمح إلى تغيير حقيقي يمسّ كافة مناحي حياتنا، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فوصولا إلى استجداء بغير مبرر لمرشح يبدو واثقا من النصر، بألا يعيد المناضلين ضد الديكتاتورية إلى السجون، وأن يكون في مستوى تطلعات الشباب الذي سلّم مصيره إلى من لا يخشى على مصيره، ولا مصير غيره، ولا مصير وطنه.

لستُ ممن ينظرون فقط نصب أعينهم، فعشرات السنين وبضعة عقود في تاريخ الشعوب لا تعني شيئا، وأجزم أن الحكم على مسار التحرر الذي اندلع ذات 17 ديسمبر 2010، الآن وهنا، هو من قبيل العبث، فالتجربة والتاريخ يقولان أن الثورات تحتاج سنين عددا لتنجح أو لتفشل، وأن الأصح هو الحديث عن «موجات ثورية» أو عن مسار تحرري كامل، قد يطول أو يقصر، إضافة إلى أنّ هذا المسار، يحتاج أضعاف ذلك الزمن ليتم التقييم بالقدر الكافي من الموضوعية.

سنترك الأحداث تتدافع ونراقب النتيجة، لكن ما يعنينا هو ما يمكن أن نقوم به لمنع تواصل الانتكاسة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، طالما أننا نبدو قادرين على التغيير في مجريات وضع نعيشه ونحتك به، يؤثر فينا ونؤثر فيه، سيما وأنّ منطق الأشياء يقول إن الغلبة للمنتفضين والشجعان، لا للمهزومين والمطاح بهم، ومن هنا كانت المفارقة التي تحتاج جدلا مستمرا حتى نستقر على رأي واتفاق يكون منطلقا نحو مسيرة التدارك الصعبة والتي تبدأ برأيي بمواجهة نقيصة النسيان والنظر إلى المستقبل بثقة أكبر.

ونفتحُ قوسا صغيرا، الاستشراف المستقبلي في تونس يكاد يكون غائبا. بل إن علم المستقبل (futurology) يبدو مفقوداً بالكامل في المنطقة الناطقة بالعربية، وهذه من مشاكلنا المزمنة كعرب ومسلمين، والسبب أنّ مقومات علم المستقبل وأهمها حرية تدفق معلومات البحث والاستقصاء، لا تتوفر في هذا المناخ الذي تقصف فيه العقول والأفئدة كل دقيقة، وتضلل فيه البحوث والتحريات بشكل غير مسبوق، وتلك الحريات (تدفق وإتاحة معلومات البحث والاستقصاء)، تعتبر جزءاً من حزمة الحريات العامة، التي يتمنى المواطن التونسي أن يتمتع بها ذات يوم كغيره من البشر في الدول السعيدة، خاصة أن “علم المستقبل” يختص ويبرز “المحتمل”، و”الممكن”، و”المفضل” ويحيلنا إلى نتائج مترقّبة و-بالضرورة- مناسبة لطريقة عيشنا.

نعود إلى مرض ذاكرتنا التي تحتاج إنعاشا عاجلا، فكثيرة هي الأخبار التي نقرأها يوميا، والتصريحات التي نستمع إليها من سياسيين وحقوقيين ونقابيين ومؤرخين وجامعيين، جميعها تصدمنا وتحيلنا إلى حقيقة الوضع الحرج الذي باتت عليه ذاكرة التونسي التي لم تعد تتذكر غير جرائم ووكسات الأمس القريب، وتتناسى بفجاجة أهوال الأمس البعيد، رغم أنّ عدم التعاطي الناجع مع آلام الأمس البعيد، هو ما أنتج آلام الأمس القريب، وهو ما سيُنتج بالضرورة مزيدا من الألم غدا.

لا يكتم المرء دهشته وهو يرى تواطؤ الإعلام والسياسيين والمسؤولين في اختزال شهداء تونس في الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ولا يكتم المرء دهشته وذهوله وهو يرى الحيز الضئيل الذي بات يحظى به شهداء (17 ديسمبر – 14 جانفي) وهذا التجاهل المطلق لهم، ليس إعلاميا فحسب، فقضايا شهداء الثورة لم يتحولوا حتى إلى مجرد “قضية انتخابية” كما كان عليه الأمر في 2011 ! ولهذا يحق لنا التساؤل عما يحصل؟ ومن يريد إسقاط هذا الرقم الصعب (الشهداء) من المعادلة التونسية ؟ لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فالقصف المسلط على التونسي البسيط كان مركزا ومكثفا خلال هذه السنين الأربع حتى باتت جرائم الرشّ قضية أوكد وأهم من قضايا الرصاص الحي في سيدي بوزيد وتالة وسليانة والقصرين وغيرها من المناطق التي انتفضت على حكم بن علي وجوبهت بقمع شديد أدى إلى سقوط شهداء وجرحى.

لا نتحدث هنا عن فضاعة الجرم ومدى دمويته، فالجريمة تضل جريمة ولا يمكن السكوت عنها طال الزمن أم قصر، ولا يمكن طيّ ملف أي جريمة إلا بتحقيق العدالة كاملة غير منقوصة والكشف عن المذنب والقصاص منه ثم تعويض الضحايا ومعالجة الجرح الغائر الذي تسببت فيه الجريمة.

لكننا نتحدّث عن اتجاه عام في بلدنا يتعامل ويتفاعل فقط مع “الجديد” وينسى الماضي، ولا يرى ضررا في اعتبار “الأحدث” هو الأكثر فضاعة، وهذا الاتجاه هو تفاعل سلبي مع خطط إعلامية وسياسية تم التسطير لها بعناية بحنكة.

بهذا الشكل الذي نُعاينه، قد تكون قضايا شكري بلعيد ومحمد البراهمي رغم عدالتها وإلحاحيتها، نسيا منسيا بمجرد وقوع فضاعات جديدة يوم غد، لا سمح الله.

القتلة في تونس موجودون ومعروفون، بأسمائهم ووظائفهم وتسلسلهم الإداري، فضلا عن تصريحاتهم التي هددت بالقتل ودعت إليه وباركته. سواء كانوا من الفاعلين الأصليين، أو الشركاء والمحرضين، وكلاهما معروف، ولا يحتاج الأمر غير “تنشيط” الذاكرة واحترام الذات، والاهم، احترام من قدموا أرواحهم لنعيش نحن، والوفاء لهم طالما في الجسم قلب ينبض.

ظهرت حكاية الذاكرة المثقوبة التي تحولت مرضا اجتماعيا ونفسيا ساهم في انتكاسة المسار التحرري، إلى العلن، منذ أن عاش آبائنا الذين ساهموا بالقليل أو بالكثير في دحر المستعمر الفرنسي، أيام التنكر والخذلان، ولامسوا الهجمة التي استهدفتهم وشككت فيهم، وفي نضالاتهم ومقاومتهم وتضحياتهم، وعاينوا في صمت ومرارة، التشويه والتلفيق وسرقة نضالاتهم ونسبها إلى شخص واحد و حزب واحد.

تضخمت الذاكرة المثقوبة اللعينة حتى كادت أن تتحول إلى مُنخل (غربال) عندما لفلفنا – كل من جهته – موضوع العدالة الانتقالية ولم نعد نعيره المكانة التي يستحق، وتخلينا على هذا الملف الحيوي لصالح قضايا تحتمل التأجيل.

لننظر إلى الجرائم الهائلة التي جرت خلال نصف قرن، وكيف تم التعامل معها نتيجة ضغط الآني واليومي، كان تعاملا مستهترا وخاضعا في مجمله إلى السياسة لا إلى الأخلاق والحقّ والعدل، التي نتطلع إليها لبناء تونس الجديدة.

فكانت سنوات حكم النهضة وما حصل خلالها من تجاوزات، طاغية على ما جرى في حكم الرئيسين السابقين، وهذا لا يعني التهوين مما جرى في عهد “النهضة” وحلفائها، لكن كما ذكرنا، فالمسألة لا تتعلق بفضاعة الجرم ولا بالمعطى “الكمي”، إنما هي مسألة مبدأ قبل كل شيء، فإما أن نكون أوفياء لتاريخنا بإيجابياته وسلبياته، أو لا نكون، فالتعامل الانتقائي مع تاريخنا بما فيه من جرائم لن ينتج غير جيل من هواة التقاط كل ما هو تافه وسطحي وساقط وغير مجدٍ ولا مفيد، جيل لا يملك القدرة على التركيز على أمهات القضايا ولن يكون مستعدا للتضحية من أجل الحقوق بل سيضخّم التفاصيل ويُحقّر المهّم ويسفّهه، وهذا ما بدأنا نلمسه منذ رحيل الطاغية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت توافه الأمور.

والحل؟

kasbah-tunisie-memoire-courte-revolution

لا يتعلق هذا الموضوع بنوازع دفينة للانتقام والتشفي واجترار الآلام لهدف ممارسة هواية اللطم والنواح والولولة التي يجيدها البعض، ولذلك سأسمح لنفسي بضرب أمثلة من دول تختلف جوهريا عن الحالة التونسية، وما حصل فيها من جرائم مروعة، لا يُقارن بما حصل في تونس لو استندنا إلى المعيار الكمي الذي يتحول إلى تفصيل عندما نكون بصدد محاربة الذاكرة المثقوبة.

ومن المهم ها هنا التشديد على أن “التوثيق” أهم بدرجات، لذاكرة الشعوب، من التحقيق، وما يليه من قرارات وأحكام، فالتوثيق لا يخضع للسياسة وموازين القوى، أما العدالة فقد تكون أحيانا عدالة المُهيمن والمُسطير، عدالة من يمسك القوة والأدلة ومن يملك الشرعية والمشروعية، حتى وإن كانت مزيفة، فالتوثيق يسجل وقائع الجريمة وأدلتها ويحفظها بطرق مختلفة حتى ترسخ في ذاكرة الشعوب، بينما يسلط التحقيق وما يتبعه، الضوء على ملابسات الجريمة ويحتمل الكثير من هامش التلاعب والتضليل.

ولا أدل على ذلك مما حصل مع القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون حين أعد تقريره عام 2009 بعد العدوان الإسرائيلي الذي تعرض له قطاع غزة نهاية العام 2008، وتقرير غولدستون أدان إسرائيل صراحة، ولكن رئيس الفريق تراجع عن موقفه في وقت لاحق، وأغلب الظن بسبب الضغوط التي تعرض لها بسبب السياسة وموازين القوى العالمية، ومع ذلك فإن الصورة والسجلات التي وثقت جرائم إسرائيل ستُعتبر إلى الأبد، وثائق تاريخية غير قابلة للتوظيف والاستثمار، تدين الجرائم الإسرائيلية ولا تحتاج حكما أو قرارا أمميا.

لنرى الآن كيف استطاع اليابانيون بذكائهم المألوف وبعيدا عن أعين الدعاية الغربية التي لا ترحم، تحويل كارثتي هيروشيما ونجازاكي النوويتين في نهاية الحرب العالمية الثانية، من كارثتين يابانيتين خاصّتين إلى كارثتين إنسانيتين ووصمة عار على جبين الإنسانية قاطبة، وعلى جبين القرار السياسي الأميركي الأخرق خاصة.

الكارثتان ماثلتان أمام ضمير العالم رغم مرور سنين عليهما، وذلك من خلال المتاحف والمزارات والكتب والنشرات والأفلام التسجيلية والوثائقيات والأعمال الدرامية والتظاهرات وغيرها، بل يمكن القول بلا مبالغة إن أفلاما وثائقية من قبيل (هيروشيما: صلاة أم) و(أطفال القنبلة الذرية) و(بلد أزهار الكرز) قدمت لضحايا تلك الجريمة ما عجزت الحكومات المتعاقبة عن تقديمه.

هنالك تجربة أخرى يقوم بها كرد العراق لتوثيق الجرائم البعثية والصّدامية، وأخرى تتلمّس طريقها في سوريا التي تنهشها جرائم النظام، وجرائم من يدعون معارضته، وهي تجارب تستحق فعلا المتابعة لمن يريد أن يستعد لجعل الماضي حاضرا في أذهان سياسيي الحاضر كلما حاولوا تكرار مآسي الماضي القريب والبعيد، ولتذكيرهم بويلات ذلك الماضي الذي مازلنا نتجرّع تبعاته، فالذاكرة الحية هي السد المنيع الأول أمام استجرام الحكّام.

لو لم يقم اليابانيون بتوثيق ما جرى لهم، فلن يفعل ذلك الغيرُ نيابة عنهم، وهذا ما نحتاجه كتونسيين لنفعله، عوضا عن انتظار السياسيين وهم يمنّون علينا بلجان الحقيقة والكرامة التي لا نراها خاضعة لغير التوازنات السياسية وها هي تبدو اليوم مهددة أكثر من أي وقت مضى بالاندثار بعد عودة (وجوه الصفيح) إلى الحكم.

لا تعولوا على هؤلاء !

علينا كتونسيين ألا ننتظر إعلاميين هم في معظمهم سدنة في معابد الديكتاتورية لكي ينبشوا في الماضي ويذكرونا بلا كلل أو ملل في جرائم العهود السابقة حتى يتعظ منها مسؤولو العهود الجديدة.

تعاملهم مع حقائق اليوم، تخضع في مجملها للانتقائية والصمت المخزي عندما تتعلق بجرائم هذا الطرف، والنعيق والهيجان عندما تتعلق بالطرف الآخر، وهؤلاء ليسوا محل ثقة لتحمل مسؤولية إنعاش ذاكرتنا المثقوبة، فهم لا يقومون بغير تكريس ثقافة الاستهانة بالنضال والمقاومة والبذل، والتشكيك في كل نفس تحرري والحط من قدره، وربطه بالانتهازية وحب الشهرة، وجمع المال.

وذات الملاحظة للطبقة الفنية التي كانت أكثر براعة في التنكر للإبداع والفن بتلونها وحربائيتها وتسيّسها وحنينها للديكتاتورية مع بعض الاستثناءات.

أمامنا الكثير لنقوم به كأفراد أو جماعات، نحس بخطورة الذاكرة المثقوبة على مستقبل هذا الوطن العزيز الذي لا نملك غيره، ولكن غالبية النخب والسياسيين والصحافيين والمبدعين لا تحمل هذا الهاجس، فلنستثنهم مؤقتا من هذا العمل.

من هنا نبدأ

فلنطلق حملة لتخليد ذكرى شهدائنا مهما كانت الأزمنة التي تقدموا فيها بكل شجاعة ليكونوا قرابين لنعيش نحن بكرامة… ومهما كانت انتماءاتهم فلنقِم الأنصبة لهم، والمتاحف، والمعارض، والمزارات، ولنكتب عنهم القصص والروايات والكتب، ولنفرض إدراجهم في مقرراتنا التعليمية، فلنكثف الدعم ونمول الأفلام الوثائقية والتسجيلية التي تسرد خفايا رحيلهم حتى يكونوا حضورًا قارين دوما وأبدا في مخيلاتنا، فلتكن أسمائهم وألقابهم محفوظات نربي عليها الناشئة في سنوات الدراسة الابتدائية، وليكن جلادوهم، استعارة للغبن والقهر والاستعباد، فليكن وفاؤنا وحبنا لهم، وليكن سخطنا ولعناتنا حميما يُصب على قاتليهم بلا هوادة.

هو إذا صراع محتدم بين من يريدوننا أن ننسى أو نتذكر ما يردونه هم، وبين الحقيقة وتخليد ذكرى من وهبنا الحرية.

التقنية الحديثة سلاح متاح، تعوضنا الأحزاب وإمكانياتها، ووسائل الإعلام وسطوتها، وبها، قد نرسم بكثير من الصبر قواعد جديدة للصراع الدائر حاليا بمستويات مختلفة، فنحن نعيش عصرا تكاملت فيه شبكات الاتصال الاجتماعي مع أجهزة التصوير المحمولة الحديثة لتمنح مستخدميها فضاء حركيا جديدا متحررا من قيود التسلط والاستبداد والتضليل، وما علينا سوى أن نطلق صرختنا التي ستكون عنوانا للتعامل الجديد مع الورطة الحالية: نحن جيل لا ينسى !

معركتنا الجديدة تبدأ ضد اليأس والنسيان، وعلينا البدء في التعبئة النفسية والمعنوية التي تزوِّدنا بالعزيمة والإصرار والأمل لتغيير معطيات المعادلة التي انتهت بنا- في ظرف وجيز- إلى الاختيار بين خيارين سيئين: المنظومة القديمة… ومن سهّل لها طريق العودة.

نحن أمام تحدي رتق ثقوب الذاكرة التونسية وشحنها بما يكفي لتتجاوز ضعفها ووهنها، وهذا يحتاج المزيد من الابتكار والتفكير والإبداع بين الشباب الذي يقاسمني نفس الهواجس، بحثا عن الطرق الأنسب لقطع الطريق أمام من يريدنا أن ننسى… ولن ننسى.