بقلم شمس عروة،
كنت وأنا أتابع بعض البرامج الحوارية قبل الثورة اتمنى أن يأتي يوم نناقش فيه مشاكلنا بكل هدوء وحرية، إذ كانت البرامج الحوارية الوطنية في ذلك الوقت تطرح بعض القضايا للنقاش، إلا أن اللغة الخشبية كانت طاغية، كما أن الخطوط الحمراء العديدة المفروضة لم تكن تسمح بحوارات عميقة وجدية.
بعد الثورة اعتقدت أن حلمي قد تحقق إذ شاع مناخ من حرية التعبير يسمح بالخوض في أغلب القضايا بمشاركة أغلب الحساسيات الثقافية والأيديولوجية. كما أن المواطنين اصبحوا شديدي الاهتمام بالشأن العام، وهو ما يجعل الطلب على طرح القضايا الوطنية للنقاش يزداد على حساب مشاغل كان لها النصيب الأوفر من الاهتمام كالرياضة مثلا.
لكن، بعد أربع سنوات من الثورة لم نلاحظ تقدما كبيرا في حل مشاكل الوطن نظريا و وتطبيقيا أي لا على مستوى الطرح والنقاش لا على مستوى التطبيق، فالمشاكل التي لطالما عانى منها التونسيون قبل الثورة كالفقر والبطالة والفساد تزداد تفاقما في غياب حلول إستراتيجية واضحة المعالم تعوض سياسات الترقيع والاقتراض والتوسل.
كما أن السنوات الأخيرة كشفت عن مشاكل جديدة لها خطر كبير على المدى المتوسط والبعيد، كتدهور مستوى التعليم، وانتشار تعاطي المخدرات لدى المراهقين، والتعصب الديني، وارتفاع مستوى التداين هذا بالإضافة إلى أزمة المياه والأزمة البيئية وانتشار ثقافة التواكل والمطلبية.
صحيح أن المئات من الفضاءت الحوارية والآلاف من المقالات الصحفية تناولت هذه القضايا، إلا أن طرحها كان سياسويا بحتا لا يركز على الأفكار انما على الأشخاص، لا يرتكز على التحليل العقلاني انما على الشعارات والعواطف، فتكون المشكلة الأولى والأخيرة في أغلب الأحوال، هل الوزير الفلاني هو المسؤول عن الوضع أو أن الوزير الذي قبله هو الفاشل، هذا الطرح ينطبق عليه قول المفكر الإيراني علي شريعتي:
إن أي قضية فردية أو اجتماعية، أدبية كانت أم أخلاقية أم فلسفية، دينية أو غير دينية تعرض علينا، وهي بعيدة عن “النباهة الإنسانية” و “النباهة الإجتماعية”، ومنحرفة عنهما، هي استحمار، قديم أو جديد1“. علي شريعتي
و من المؤسف أن هذه القضايا بدأت تختفي تدريجيا من الإعلام ما إن أخذت حكومة غير متحزبة مقاليد السلطة، رغم أنها لم تزد إلا تفاقما.
إن المعضلات التي يواجهها وطننا اليوم خطيرة جدا وتستوجب الشروع في أقرب وقت في التفكير في حلول حقيقية. وإننا لو نبدأ هذه هذه المرحلة اليوم، فلن تحل أغلب هذه المشاكل إلا بعد عشرين أو ثلاثين سنة، وكل يوم نضيعه في المهاترات والمشاجرات، هو يوم يخسره وطننا في سعيه إلى تجاوز ما فات، واللحق بركب الحضارة.
وحتما لن تسامحنا الأجيال القادمة إذا لم نستثمر نعمة الحرية في تعمير أوطاننا عوض تخريبها بأنانيتنا، و وسلبيتنا وسوء تدبيرنا.
هوامش
1- علي شريعتي: النباهة والاستحمار.
عزيزتي المواطنة مع إيقاف التنفيذ، كثيرون من السذّج -وأنا منهم- الذين كانوا يعتقدون تحت حكم الزعبع بأنّ البلد سينصلح حاله إن ذهب التجمّعيون، الطرابلسية وزعبعهم. لقد أثبت شعبنا المتخلف أنّ ذلك النمط من التفكير ليس فقط سطحي وساذج بل أيضا مغرق في الغباء وأحد أسباب البلاء. التجمّعيون، الطرابلسية والزعبع نفسه لم يكونوا سوى الجزء الظاهر من جبل جليد الرداءة، الانحطاط والجهل الذين تتميز بهم هذه الرقعة المنكوبة من بلاد العربان الجاهلية دون بقية أقطار الدنيا. لقد كان هؤلاء فقط ذلك الوجه القبيح والدامي لضمير الشعب الميت وتعبير وفيّ على حجم الأزمة القيميّة والأخلاقية التي أصابت السواد الأعظم من أفراده وفئاته. كثيرون كانوا يشمئزّون من ذلك الوجه القبيح لأنّ التونسي عامة منافق بطبعه ولا يحبّ كثيرا أن ينظر في مرآة حقيقته المرّة بينما انبرى البقية في محاولة يائسة لتجميل تلك الصورة علّ ذلك يشعرهم ببعض من الرضى عن النفس! لم ينجح كلا الفريقين في ما فعلوه لأنّ الحقيقة تظهر كالشمس مهما طال إخفاؤها فلا يقدر أحد على نكرانها أو تجاهلها. وقع ما وقع منذ أربعة سنوات، رحل الزعبع إلى منفاه الذهبي والطرابلسية إلى أرض الله الواسعة لتبذير ما سرقوه من أموال العامة والخاصة وبقي التجمّعيون بيننا لأنهم الجزء الأكبر من هذا الشعب. ورغم ذلك لم يتغيّر شيء يذكر! فمن حكم بعد الزعبع لم يكن مختلفا عنه في الجشع، والطمع، العنف والقسوة، أو الكذب والاحتيال. ووجد من الشعب جزءا كبيرا يمدحه ويقبّل له الأيدي والأرجل مقابل بعض الفتات حينا ودون مقابل أحيانا. لم يتغيّر شيء لأنّ “ذوبان” الجزء الظاهر لجبل الجليد لم يطل جزءه المخفي المتمثل في هذا الشعب الحقير الذي لا يحمل أية قيم أو وزاع من أخلاق أو ضمير، ديدنه النفاق والتملّق وشغله التحيل والتحايل والتزييف والكذب. لم يتغير شيء يذكر لأنّ “الحرية النسبية” لا تكفي لصنع شعب كادح مكافح أو رجال دولة أفذاذ أو مشروع أمّة تبني حضارة كونية! لم يتغير شيء لأنّ هذا المجتمع الأخرق مأزوم من أخمص إصبعه إلى أعلى رأسه لكنه لا يزال يصرّ بكل وقاحة على أنه “أحسن أمّة أخرجت للناس”! إنه شعب يحتاج إلى التفكيك وإعادة التركيب أو بالأحرى إلى تربية عميقة من جديد. وهذا الأمر لا يتمّ في سنة أو سنتين أو عقد أو عقدين لأن من يحكمنا الآن (وسيحكمنا مستقبلا) ليس سوى نتاج طبيعي لهذا الشعب المتخلف، وعليه سيكون جاهلا ككل الجهلة الذين صفّقوا له، جشعا ومتحيّلا ككل الذين اشترى أصواتهم ليجلس على الكرسي وقاسيا ككل الرعاع الذين يأتمرون بأمواره! لم ولن يتغير شيء في المدى المنظور ل”إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد 11) والتغيير على المستوى الإنسان يبدأ بالعقل وأداته المعرفة والتربية وكل ذلك مفقود في هذه الربوع المنكوبة من أرض العربان الجرذان