المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

dette-danger

احمد بن مصطفى

في تقرير حول صعوبة الاوضاع الاقتصادية بتونس وتفاقم أزمة المديونية التونسية صادر خلال شهر جانفي 2015 لاحظت الهيئة الدوليّة الناشطة في مجال “الغاء ديون العالم الثالث” (comité pour l’annulation de la dette du tiers monde) أن قانون الماليّة لسنة 2015 يعطي الأولويّة، على غرار قانون 2014 ،لتسديد المديونيّة الخارجيّة ولتنفيذ التدابير والوصفات الليبراليّة المفروضة من مؤسسات النقد العالميّة .

ويرجح التقرير أن تواصل السلطات الجديدة المنبثقة عن الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة نفس السياسات والخيارات التي كانت متبعة قبل الثورة وبعدها في مجال التداين الخارجي و ما يتصل بها من برامج ” الإصلاحات الهيكليّة ” المعتمدة منذ 2012 مقابل حصول تونس على القروض والتمويلات المشروطة لصندوق النقد الدولي. كما يتوقع أن تواصل الحكومة الجديدة سياسة انخراط تونس في منظومة اقتصاد السوق القائمة على توسيع الشراكة ومنطقة التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي وهو ما يقتضي التوقيع على برنامج العمل و اتفاقيّة التبادل الحر الشاملة والمعمّقة.

مخاطر سياسة المديونية

ويشير التقرير الى أن حجم الإعتمادات المرصودة بميزانيّة 2015 لتسديد المديونيّة الخارجيّة والداخليّة للدولة تصل الى 5.130.000000 دينار ( 2,3 مليار أورو ) وهو ما يعادل مجمل ميزانيات الصحة والشؤون الاجتماعيّة والتشغيل والتكوين المهني والتنميّة والعناية بالمحيط والثقافة والشؤون الاجتماعيّة والبحث العلمي والسياحة.

وهكذا يتبيّن أن النسبة الأهم من موارد الميزانيّة المقترضة من الخارج والداخل ترصد منذ اندلاع الثورة لتسديد أصل وخدمة الديون ، والقليل منها يخصص لمصاريف الاستهلاك والإنفاق العام وليس لخلق الثورة والاستثمار .

وبذلك ،دخلت تونس في الدائرة الجهنميّة للمديونيّة الصاروخيّة المتفاقمة بنسق متسارع وهي موصوفة بالكريهة باعتبار تضخمها من الحاجة المستمرة لمزيد التداين فقط للحفاظ على القدرة على تسديد الأقساط المستحقة ،وكل ذلك بحجة تمسك تونس منذ الاستقلال بتعهداتها ” والتزاماتها ” الدوليّة والحال أن هذه السياسة أفقدتها حريّة التصرف في موارد الميزانيّة لاسيما وإنها متأتية أساسا منذ 2012 من القروض المشروطة الممنوحة من صندوق النقد الدولي والمؤسسات الماليّة الدوليّة والاتحاد الأوروبي.

الخيارات البديلة المتاحة لتونس

وفي الواقع ،كان بإمكان تونس غداة الثورة مراجعة هذه السياسة بناء على فقه القضاء الدولي القائم على مفهوم ” المديونيّة الكريهة ” التي تندرج في إطارها كافة الديون المقترضة من قبل نظام دكتاتوري والموظفة ضد مصالح الدولة والشعب وهو ما ينطبق على النظام السابق علما ان الجهات المقرضة له كانت مدركة لطبيعتة المستبدة والفاسدة .

و على هذا الاساس كان بإمكان تونس ان تطلب إجراء عمليّة تدقيق شاملة audit de la dette لتحديد حجم المديونيّة التي لم توظف في مشاريع مجدية لخدمة الصالح العام و ذلك من خلال البحث في أوجه صرفها والأطراف المستفيدة منها والإقساط غير المسددة منها ، ثم تطلب من صندوق النقد الدولي التفاوض في سبل الغاء هذا الجانب من القروض المصنفة بالكريهة .

لكن حكومات ما بعد الثورة ارتأت مواصلة تسديد ديون النظام السابق بحجة الحفاظ على الترقيم السيادي لتونس الذي يخوّل لها حريّة النفاذ الى الأسواق الماليّة العالميّة بشروط ميسّرة كما أكد على ذلك محافظ البنك المركزي المعيّن بعد الثورة مصطفى كمال النابلي .

و مع ذلك فان هذا الرهان لم يتحقق وشهد الترقيم السيادي لتونس تدهورا مطردا تحت تأثير انهيار المؤشرات الاقتصاديّة وانخفاض مداخيل البلاد من العملة الصعبة بفعل تراجع الصادرات وموارد السياحة وتدهور الموارد الذاتية الى معدلات خطيرة وتزايد نفقات الاستهلاك مقابل تعطّل الانتاج في قطاعات حيويّة مثل الفسفاط مما اضطر السلطات الحاكمة الى اللجوء المتزايد للاقتراض الخارجي والخضوع سنة 2012 للتمويلات المشروطة المرتبطة بالبرامج الاصلاحيّة والتقشفيّة لصندوق النقد الدولي .

و الغريب في الامر ان حكومة حمادي الجبالي كانت قد تقدمت بمشروع قانون الى المجلس الوطني التأسيسي بإجراء تدقيق في المديونية التونسية لكنها سرعان ما سحبته لأسباب غير معلنة.

تضخم المديونية التونسية

وهكذا ارتفعت المديونيّة الخارجيّة ،التي كانت تناهز 5 مليار دينار مطلع التسعينات ،الى 40 مليار دينار في أواخر 2012 ،مما أدى الى بروز تيار صلب البرلمان الأوروبي بزعامة النائبة Eva Joly يدعو الى الغاء المديونيّة التونسيّة باعتبار انها لم تعد قابلة للاحتمال حيث قدرت بـ 20 مليار أورو سنة 2013 .

غير أن البرلمان الأوروبي صوت بالأغلبيّة ضد مشروع قرار بإلغاء المديونيّة التونسيّة عرض عليه خلال شهر مارس 2014 مما أدى الى احتجاج إحدى النائبات الأوروبيات Marie Christine Vergiat إزاء هذا الرفض وكذلك الشروط المجحفة التي فرضها البرلمان الأوروبي لمنح تونس قرضا بقيمة 300 مليون أورو .

وقد كشفت النائبة المذكورة أن المديونيّة التونسيّة ارتفعت بنسق متسارع بنسبة %20 خلال ثلاث سنوات بعد الثورة ،كما كشفت أن %85 من هذه الديون رصدت لتسديد المديونيّة مضيفة أن تونس سددت لدائنيها فوائد بقيمة 2,5 مليار أورو دون اعتبار أصل الدين .ومع ذلك استمرت حكومة المهدي جمعة على نفس المنهج وبلغت مجمل الأموال المقترضة سنة 2014 ،13 مليار دينار الى جانب 7,5 مليار دينار مبرمجة بعنوان 2015 .

هذا وقامت نفس الحكومة بالتوقيع خلال شهر أفريل 2014 على برنامج العمل مع الاتحاد الأوروبي الذي فتح المجال أمام اتفاقيّة التبادل الحر الشاملة والمعمّقة وهي ستؤدي الى توسيع منطقة التجارة الحرة للسلع الصناعيّة المحدثة سنة 1995 الى قطاع الخدمات وبقية القطاعات الاقتصاديّة علما أن هذه الخطوة تثير مخاوف عديد الأطراف التونسيّة من خبراء وقطاع الأعمال و مجتمع مدني المتخوفة من الهيمنة الكليّة للجانب الأوروبي على مفاصل الاقتصاد والأسواق التونسيّة والقطاعات المستهدفة بالتحرير بحكم عدم أهليتها لتحمّل المنافسة الأوروبية غير المتكافئة.

والملاحظ أن صندوق النقد الدولي رفض منح تونس الدفعة الأخيرة من القرض المتفق عليه مع حكومة جمعة بعنوان 2014 بسبب عدم موافقة مجلس نواب الشعب على بعض القوانين ذات الصلة بإعادة رسملة البنوك العموميّة والشراكة بين القطاعين العام والخاص وغير ذلك من “الاصلاحات الهيكليّة” .وهذا الأمر يؤكد حجم الضغوط المسلطة على السلطات التونسيّة التي لم تفقد فقط حريّة التصرف في الأموال المقترضة بل أضحت مضطرة للاستجابة لكافة الشروط المفروضة من الجهات المقرضة بقطع النظر عن مدى قدرة البلاد والاقتصاد التونسي على تحمل تبعاتها.

وهذا ما يفسر قرار حكومة جمعة المثير للجدل بالخروج مجددا الى الأسواق الماليّة العالميّة قبل مغادرتها للسلطة بفترة وجيزة واقتراضها لمبلغ مليار دولار بنسبة فائدة مرتفعة تناهز %6 مما أثار حفيظة عديد الخبراء والاقتصاديين المتخوفين على مستقبل تونس نتيجة فقدانها لاستقلالية قرارها السيادي في رسم خياراتها الاقتصاديّة والتنمويّة بحكم تبعيتها المفرطة للتداين والاقتراض الخارجي .

مراجعة الدور المالي و الاقتصادي للبنك المركزي التونسي

تجدر الإشارة الى الدور المحوري الذي لعبه البنك المركزي التونسي بعد الثورة في مجال تحديد الخيارات الاقتصادية و المالية و إدارة الملفات الكبرى المتفرعة عنها و خاصة منها المديونية و إسترداد الأموال المنهوبة و المهربة الى الخارج و وضع إستراتيجية التنمية و إعادة البناء التى أعدتها حكومة جمعة المتخلية.لكن التعاطي مع هذه الملفات الاستراتيجية ظل تعاطيا فنيا بحتا و الحال انها حيوية و دبلوماسية بامتياز يفترض ان تتعهد بها وزارة الخارجية بالتعاون مع الجهات الاخرى المختصة و ذلك في اطار علاقات الشراكة مع مجموعة الثمانية و الاتحاد الاوروبي و المؤسسات المالية الدولية.
و للتذكير فإن محافظ البنك المركزي الشادلي العياري يوصي السلطات الجديدة بالمضي في سياسة الإنخراط في اقتصاد السوق و ما يترتب عنها من مواصلة سياسة التداين لتمويل العجز في الميزانية مهما بلغ حجم المديونية و استبعاد فرضية اللجوء الى طلب إعادة الجدولة او الحلول البديلة الأخرى علما انه من مهندسي القرض الرقاعي الأخير المثير للجدل بسبب الشروط المجحفة المرتبطة به .

و يفترض ان يعمل البنك المركزي كمؤسسة مستقلة عن الحكومة رغم الترابط الوثيق القائم فعليا بينهما بحكم الصلاحيات الهامة الموكولة للبنك في مجال متابعة و تقييم الوضع الإقتصادي وأقتراح التدابير الكفيلة بتحسينه و الإشراف على القطاع البنكي و إدارة إحتياطات الدولة من النقد الأجنبي و السياسة النقديًة عموما، كما يعمل البنك المركزي على ضمان إستقرار العملة الوطنية و الحفاظ على قيمتها داخليا و خارجيا و التحكم في نسبة الفائدة البنكية وهو ما يؤثر سلبا او ايجابا في السياسة الإستهلاكية و الإستثمارية و ما يتصل بها من حركية إقتصاديٌة.

و إزاء النتائج الكاريثية للسياسات الاقتصادية و المالية المتبعة بعد الثورة و ما نجم عنها من إنخرام للتوازنات المالية الكبرى و إرتفاع المديونية إلى معدلا ت خطيرة و انهيار قيمة العملة الوطنية و الإرتفاع المشط لنسبة تضخم الأسعار، قد يكون من المناسب أن تنظر السلطات الجديدة في مراجعة الدور الموكول للبنك المركزي في إطار إصلاح المنظومة البنكية و ذلك بإبعاد هذا الجهاز الحساس عن التوظيف السياسي و جعله يتفرغ في كنف الحياد والاستقلالية لمهامه الرئيسية و منها خاصة الحفاظ على استقرار الأسعار و العملة الوطنية و النهوض بالاقتصاد و التشغيل.

ضرورة مراجعة سياسة المديونية و الاستفادة من الاليات البديلة المتاحة

وهكذا يتضح أن قضية المديونيّة هي بلا شك من أكبر التحديات المطروحة على الحكومة الجديدة التي تسلمت السلطة حديثا مع الاشارة الى ما ورد بكلمة رئيس الحكومة بمناسبة تسلمها لمهامها في تشخيصه للوضع الاقتصادي الصعب حيث أشار الى الوضعيّة الحرجة للماليّة العموميّة وتدني مستوى النمو وتقلص الاستثمار وتعطل آلة الانتاج في عدد من القطاعات الحيوية فضلا عن تفشي البطالة خاصة في صفوف حاملي الشهادات العليا .

كما أكّد أنه بعد نجاح الانتقال الديمقراطي ،فإن المرحلة القادمة تقتضي ارساء الانتقال الاقتصادي من خلال ضبط منوال تنموي جديد يرتكز على التلازم والتكامل بين القطاعات العمومي والخاص والاجتماعي والتضامني وعلى الأنشطة المجددة ذات المحتوى التكنولوجي والقيمة المضافة العاليّة .
والملاحظ أن كافة الحكومات المتعاقبة بعد الثورة التزمت بمراجعة الخيارات الاقتصاديّة وإرساء منوال تنموي جديد ،لكن هذه الوعود لم تتجسد على أرض الواقع بدليل أنها مضت في ترسيخ انخراط تونس في منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر وما يرتبط بها من آليات بما في ذلك اللّجوء الى الاقتراض الخارجي لتمويل العجز المزمن في الميزانية وفي الماليّة العموميّة .
وبالتالي فإن الحكومة الجديدة مطالبة بمراجعة سياسة الانخراط في العولمة الاقتصاديّة وتعديل الخيارات الدبلوماسيّة ذات الصلة ومنها خاصة سياسة الشراكة والاندماج في الفضاء الأوروبي بما يتلاءم مع مصالح تونس ويحافظ على مقومات سيادتها واستقلاليّة قرارها السياسي والاقتصادي وأمنها الوطني بمفهومه الشامل .

وبالنسبة لقضيّة المديونيّة ،لا بد من الاقرار بأن السياسات المتبعة بعد الثورة وصلت الى طريق مسدود كما أوصلت تونس الى أزمة ماليّة واقتصاديّة خانقة غير مسبوقة قد تؤدي الى افشال الانتقال الديمقراطي والأضرار بالاستقرار الأمني و الاجتماعي للبلاد اذا لم يقع اتخاذ تدابير تصحيحيّة جذريّة مستمدة من تجارب البلدان التي واجهت أوضاع مماثلة مثل الاكواتير Equateur والأرجنتين Argentine.

وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى أن الاكواتير ،بعد اجراءها لعمليّة تدقيق في ديونها ،توصلت اثر مفاوضات مع صندوق النقد الدولي سنة 2008 الى الغاء %70 من ديونها المصنفة بالكريهة وهو ما سمح بإعفائها من تسديد 7 مليار دولار مع الإشارة الى أن هذا التطور حصل في أعقاب نجاح هذا البلد في تحقيق انتقال ديمقراطي على غرار تونس .ويمكن الاستشهاد أيضا بتجربة الأرجنتين التي نجحت سنة 2003 في شطب %75 من ديونها المقدرة انذاك بـ 94 مليار دولار .

هذا وتوجد تجارب وآليات أخرى يمكن لتونس أن تلجأ إليها لمعالجة قضيّة المديونيّة على الصعيدين الثنائي والمتعدد الأطراف دون التخلي عن التزاماتها الدوليّة ،ومنها العمل على تحويل المديونيّة الى استثمارات أو طلب الغاءها في اطار ما يسمى بالمبادرة الخاصة لنادي باريس club de Paris لفائدة الدول الفقيرة ذات المديونيّة المرتفعة علما أن عدّة دول افريقيّة استفادت من هذه الآليّة .

وهكذا يتضح أنه توجد بدائل عن السياسات المتبعة بعد الثورة للتعاطي مع قضيّة المديونيّة التي لم يعد بمقدار تونس تحمل تبعاتها الكاريثيّة .لكن الاهتداء الى الحلول البديلة يتطلب ارادة سياسيّة يؤمل أن تتوفر لدي السلطات التونسيّة الجديدة المنبثقة عن الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة .
ولتجسيد هذه الارادة السياسيّة ،يتعيّن ربط ملف المديونيّة بملفات استراتيجيّة أخرى ومنها ملف استرداد الأموال التونسيّة المنهوبة والمهربة الى الخارج التي وعدت دول مجموعة الثمانية والاتحاد الأوروبي بإعادتها الى تونس في اطار علاقات الشراكة الاستراتيجيّة الجديدة مع تونس و بلدان الربيع العربي المنبثقة عن قمة الثمانية المنعقدة خلال شهر ماي 2011 بمدينة دوفيل الفرنسية .

ويمكن لتونس اثارة كل هذه القضايا بالدعوة الى اجراء حوار استراتيجي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وهي من الآليات المتاحة في اطار العلاقات الثنائية وكذلك الأطر المتعددة الأطراف أي مجموعة الثمانية وبرنامج العمل الموقع مع الاتحاد الأوروبي في أفريل 2014 .
وإجمالا يتضح ان دقة الملفات و التحديات المطروحة تقتضي فتح حوار وطني قائم على المصارحة ومكاشفة الشعب التونسي بحقيقة الاوضاع الاقتصادية و المالية مع احياء الفكر و التخطيط الاستراتيجي التونسي باعتباره السبيل الوحيد للخروج من ازمة المديونية الخانقة كشرط ضروري يمهد الطريق لا استرداد تونس لاستقلالية قرارها و حرية تحديد خياراتها السياسية و الاقتصادية و الاستراتيجية.

تونس في 11 فيفري 2015

احمد بن مصطفى