المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

culture-patrimoine-immateriel-tunisie-unesco

بقلم حمد غضباني، كاتب عام النقابة الأساسية لمحافظي التراث،

جاءت اتّفاقية حماية التّراث الثّقافي غير المادي الصّادرة عن المؤتمر العام لليونسكو بتاريخ 17 أكتوبر 2003 كتتويج للصّكوك والعهود الدّولية السّابقة، واستكمال وإثراء للإتّفاقيات والتّوصيات والقرارات الدّولية بشأن التّراث الثّقافي والطبيعي وإعلان روائع التّراث الشّفوي وغير المادّي للبشرية، ولأنّه لم يكن يوجد، إلى حدود صدور هذه الإتّفاقية، أيّ صكّ متعدّد الأطراف ذي طابع ملزم يستهدف صون التّراث الثّقافي غير المادّي. حيث كان هذا الجانب من التّراث غير متفرّد بحماية خصوصية تراعي طبيعته اللاّمادية.

وكانت تونس قد صادقت على هذه الإتّفاقية خلال الجلسة البرلمانية المنعقدة بتاريخ 02 ماي 2006.

وتتنزّل مسألة حماية التّراث غير المادي ضمن سياق التّحوّلات التي أفرزتها العولمة والتّغيّرات التي طرأت على مفهوميْ الثّقافة والتّراث. ومن أهمّ ما أكّدت عليه اتّفاقية اليونسكو لسنة 2003 هو دور ذلك التّراث في تعزيز التّنمية المستدامة، بل يمكن اعتباره أسّ أساسها. علاوة على الدّور المحوري والأساسي للجماعات والمجموعات – وأحيانا للأفراد – في الإضطلاع بإنتاج التّراث الثّقافي غير المادّي وإعادة إنتاجه والمحافظة عليه وصونه وتطويره بما يلبّي حاجياتهم المادّية والفنّية والذّوقية وقناعاتهم الفكرية والإعتقادية – طبعا في إطار احترام حقوق الإنسان وقواعد العيش المشترك وإثراء التّنوّع الثّقافي والإبداع البشري-.

وتكوّن فريق عمل من محافظي تراث وباحثين داخل المعهد الوطني للتراث منذ حوالي ثلاث سنوات بغاية الإشتغال على جرد وتوثيق التّراث الثّقافي غير المادّي والعمل على إعداد ملفّ لأحد عناصر ذلك التّراث وتقديمه إلى اليونسكو عساه يحظى بالموافقة على إدراجه ضمن القائمة التّمثيلية للتّراث الثّقافي غير المادي للبشرية. ونظرا لغياب الإطار الإداري المنظّم لنشاط الفريق المذكور قام أعضاؤه بتنظيم عدّة اجتماعات مع إدارة المعهد لحلّ تلك المعضلة، إلاّ أنّ تخلّف الهيكلة الحالية للمعهد وجمود أساليب العمل داخله حالا دون التّقدم في ذلك المشروع.

وفي الأثناء تدخّلت وزارة الثقافة ونظّمت دورتين تكوينيتين لعدد من أعضاء ذلك الفريق من سلك محافظي التّراث، بمساعدة وإشراف مكتب اليونسكو في الرّباط (المغرب) عن طريق بعض خبرائه. وبعد ذلك قام أولئك المحافظين الذين حصلوا على فرصة التّكوين بتنسيق وتنشيط الأيام التّحسيسية حول التّراث الثّقافي غير المادّي والمجتمع المدني، وبإعداد سجلّ أوّلي لعناصر التّراث الثّقافي غير المادّي بالبلاد التونسية تحت إشراف وتوجيه الأستاذ عبد الرحمان أيوب الخبير المعتمد لدى اليونسكو في المجال. وإثر ذلك اقترحت عليهم وزارة الثّقافة تقديم مطالب إلحاق للإشراف على المراكز الجهوية للتّراث الثّقافي غير المادّي التي قيل أنّ الوزارة تعتزم بعثها في عدد من الولايات، حيث يتواجد محافظو التّراث المذكورين، في مسعى أوّلي لتفعيل آليات تطبيق اتّفاقية اليونسكو لصون التّراث الثّقافي غير المادّي. ونظرا لأنّ وزارة الإشراف، كغيرها من مؤسّسات هذا البلد، كثيرا ما تخطط لبرامجها حسب هوى الإداريين “الكبار” الذين يرون الكون من خلف مكاتبهم المرفّهة دون أن تكون لهم المعرفة الكافية بالواقع العيني، فقد وافقت على مطالب الإلحاق التي تقدّم بها إليها فريق محافظو التراث المعنيون، ولكن وفق صيغة الإلحاق الإداري، بحيث يكونون تحت سلطة مندوبي الثقافة، وفي ذات الوقت يتبعون المركز الوطني للتراث الثقافي غير المادّي الذي دشّنه وزير الثقافة السابق في الأيام الأخيرة قبل انتهاء مهمّته على رأس الوزارة، ويعملون حسب نظام توقيت المندوبيات، ودون أية حوافز. وذلك على غير ما أرادوه وما تقتضيه طبيعة نشاطهم. نظرا لأنّ عملهم الذي سيتولّونه علمي وميداني وليس مجرّد تسيير إداري، وهي – أي وزارة الثقافة – في ذلك كلّه لم تُشركهم في وضع تراتيب العمل التي سيعتمدونها، عملا بالمثل القائل “غيّبوه وعملوا عرسه” !

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يصدر إلى حدّ هذا التاريخ أي تشريع حول الهيكلة القانونية لتلك المراكز التي ما تزال، رسميا، حبيسة “العقل الباطن” للمسؤولين الأجلاء، وذلك في ترجمة حرفية للمثل الشعبي “سبّق الحصير قبل الجامع” !

ومثلما ذكرنا آنفا فإنّ اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادّي صادقت عليها بلادنا سنة 2006 ومازالت إلى حدّ الآن لم تجد طريقها إلى التّنفيذ عندنا، أي بعد ما يقارب تسع سنوات ! وبودّي لو أعيد السّؤال الذي طرحه أحد النّواب على وزير الثّقافة خلال جلسة المصادقة تلك حول “الإجراءات والآليات التي ستتوخّاها الوزارة مع مختلف الأطراف المتدخّلة قصـد تحقيق ما يرجى من الأهداف التي تضمنتها هذه الاتفاقية والوصول بها الى نتائج عملية في حماية تراثنا اللاّمادي”.

ما الذي فعلته وزارة الثّقافة والمؤسّسات المعنية بالتّراث التّابعة لها لتطبيق اتّفاقية حماية التّراث الثّقافي غير المادّي؟ علما وأنّ تلك الإتّفاقية تعني بعبارة “الصّون” (الحماية) مجموع التّدابير الرّامية إلى ضمان استدامة ذلك “الوجه” من التّراث، بما في ذلك تحديد هذا التّراث وتوثيقه وإجراء البحوث بشأنه والمحافظة عليه وحمايته وتعزيزه وإبرازه ونقله، كما جاء في الفقرة الثالثة من المادّة الثانية من الإتّفاقية.

الجواب عن ذلك السّؤال هو أنّ وزارتنا الموقّرة لم تفعل شيئا لتطبيق الإتّفاقية والمحافظة على رصيدنا التّراثي غير المادّي. إذ لا نعثر، إلى حدّ اليوم، على أيّ تدابير قانونية أو تقنية أو إدارية أو مالية في هذا الغرض.

وجميع المختصّين يعرفون مدى الفقر والتخلّف الذي عليه مجلّة حماية التّراث الأثري والتّاريخي والفنون التقليدية الصادرة بتاريخ 24 فيفري سنة 1994، والتي لا تستجيب إلى الحدّ الأدنى المطلوب لحماية التّراث الأثري والتّاريخي، فضلا عن الغياب التّام لأي إجراء يخدم التّراث الثّقافي غير المادّي، وهو أمر طبيعي نظرا لكونها صدرت قبل صدور اتّفاقية اليونسكو المعنيّة بنحو عشر سنوات. ويعرفون أيضا أنّ التّراث غير المادّي هشّ وسريع الإندثار، وعمره رهين أعمار حَمَلتَه إن لم يجد الطريقة المُثلى لتوثيقه وتمريره للاّحق من الأجيال. ولسائل أن يسأل كم فقدت تونس من مسنّ حامل لرصيد هائل من ذلك التّراث خلال التّسع سنوات الماضية – أي بعد مصادقتها على الإتّفاقية -؟ وكم من مهارة وحرفة في طريقها إلى الزّوال؟ وما حجم الرّصيد الذي فقدنا – أو الذي بصدد التّلاشي – من تراثنا الشّفوي؟ أسئلة كثيرة لا أحد من مسؤولينا – المسؤولين جدّا- له جرأة الإجابة عنها، ليس لأنّهم لا يعرفون، ولكن لأنهم متورّطون فيما حصل وما يحصل.

مشاكل هيكلية وخراب شامل يلفّ مؤسّساتنا العاملة في التراث، وأولها المعهد الوطني للتراث الذي يعرف جميع العاملين فيه – طبعا باستثناء المسؤولين عمّا يحصل فيه بالمشاركة أو بالصمت – مقدار الضعف الهيكلي الذي عليه حتى بات غير قادر على إنجاز الحدّ الأدنى المطلوب من اختصاصاته. بل يمكن القول أنه صار عبء على التّراث وعلى العاملين فيه على حدّ السواء. ورغم الدّعوات المتكرّرة لإعادة هيكلته، والتي وصلت إلى حدّ دخول المنتسبين إليه في تحركات احتجاجية بعد أن استوفوا ما في جعبتهم من صبر، حتى أنّ بعض النّقابات الناشطة فيه قدّمت مشاريع إعادة هيكلة له منذ عدّة سنوات، ولكن وزارة الإشراف ما تزال تغمض عينيها عن الخراب الذي مسّ هذه المؤسّسة العريقة التي تعود لها المسؤولية الأولى في حماية التّراث ببلادنا.

“هي كلمة حقّ و صرخة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح ستذهب غداً بالأوتاد”.