يثير تكرار حوادث القطارات في السنوات الأخيرة نقاط استفهام جدّية. واستكمالاً لمحاولة فهم أسباب ما يجري تواصل نواة البحث في بقيّة أبعاد هذا الملفّ، اعتمادًا على شهادات أعوان من الشركة الوطنية للسكك الحديديّة.
وإلى جانب الأسباب التقنية المباشرة، التي تطرّقنا إليها في المقال السابق حول حادث تصادم قطارين في دي بوزفيل، هنالك أسباب أخرى أكثر بنيويّة. وهي تكشف، حسب قول شهودنا، على “انعدام الكفاءة” الذي صار يميّز مستوى مسؤولي الشركة العمومية العريقة.
التهاون في إجراءات السلامة
يقول مساعد السائق، عصام الفتاتي، أنّ من أهمّ أسباب حدوث حادث اصطدام قطار قعفور بشاحنة في 16 جوان الفارط، تخلّي الشركة عن خطّة “المواطن المراقب”، الذي كان مكلّفًا بحراسة التقاطعات. إذ كان من مهام الأخير إرشاد السوّاق المجتازين للتقاطعات التي لا يتوفّر بها حاجز إلى قرب مرور القطار. “إلاّ أنّ مسؤولي الشركة قرّروا حذف هذه الخطّة وإرسالهم للعمل في مستودعات الشركة” كما يكشف الفتاتي.
كذلك، يؤكّد الفتاتي على مسألة سرعة سياقة القطارات. إذ يقول أنّه من المستحيل أن ينجح سائق قطار يتحرّك بسرعة 130 كلم/س في التخفيض من سرعته وتفادي الاصطدام بأيّ جسم أمامه في ظرف دقائق معدودات. ويوضح أنّ هذه هي السرعة التي يفرضها مسؤولي الشركة على السوّاق، عبر “ورقة السير” التي تقدمّ لهم قبل كلّ سفرة، في تقاطع مثل تقاطع قعفور على سبيل المثال. ويكشف الفتاتي أنّه إثر حادث اصطدام قطارين ببئر الباي سنة 2010 ، أصدر المسؤولين وقتئد تعليمات بتخفيض السرعة إلى 30 كلم في الساعة، إلاّ أنّهم تخلّوا عن ذلك لاحقًا. ويجيب عن استفسارنا عن سبب ذلك بأنّ “المسؤولين يقدّمون أولوية وصول القطارات بأسرع وقت ممكن على سلامة المسافرين”.
ظروف عمل صعبة للسوّاق
“ظروف رديئة جدًا”، هكذا يصف الفتاتي ظروف عمل سوّاق القطارات. ويذكر أنّهم كانوا ممنوعين من الحديث عنها قبل الثورة. إذ أصدر الرئيس المدير العامّ السابق نجيب الفيتوري منشورًا داخليًا هدّد فيه كلّ من ينتقد أوضاع الشركة بالطرد.
ومن بين هذه الظروف الصعبة يذكر الفتاتي ضيق عربات السياقة. فـ”الكابينة هي عبارة عن صندوق، ولا تستطيع التحرّك بداخلها يمنة أو يسرى”. كما أنّ كرسي السائق لا يتوفّر على هامش للتحرّك ممّا يعسّر من مهمّة السياقة.
أيضًا يشتكي الفتاتي من وجود لوحة مراقبة السرعة خلف ظهر السائق. وهو ما يضطرّه إلى الالتفات للوراء كلّ مرّة وعدم مراقبة الطريق أمامه باستمرار.
شبكة اللاسلكي معطّلة ومليارات مهبّ الريح
كذلك، يشير محدّثنا إلى درجة الاهتزاز العالية داخل كابينة السياقة. وهو أمر ليس فحسب مزعجًا للسوّاق، لكنّه تسبّب أيضا في عدم التمكن من استعمال شبكة اللاسلكي التي يفترض أنّ الشركة قامت بانشائها لتأمين اتصالهم بقاعة التحكم.
وحول نفس الموضوع أفادنا السيّد نعمان بن عيّاد، وهو مهندس مساعد وخبير في حوادث الطرقات، بأنّ صفقة تركيز هذه الشبكة كلّفت خزينة الدولة أكثر من 100 مليار مليم. إلّا أنّه تمّ التخلّي عنها بسبب مشكلة درجة الاهتزاز العالية للقطارات عند مرورها على السكّة الحديديّة. ولم يتمّ التفطنّ إلى هذا المشكل إلاّ مع بداية المرحلة الثالثة من عملية تركيز الشبكة، أي بعد أن تمّ إنجاز كلّ من المرحلة الأولى (الدراسات الميدانية والتهيئة اللوجستية وتكلفتها 8 مليارات و600 مليون مليم) والمرحلة الثانية (تركيز أعمدة الاتصال وكانت تكلفتها 14 مليار و267 مليون مليم).
وبسبب عدم قدرتهم على استعمال اللاسلكي، يضطرّ سوّاق القطارات إلى استعمال هواتفهم الخلويّة للتواصل مع قاعة التحكم وفيما بينهم.
ضعف أشغال الصيانة
إلى ذلك، يؤكّد الفتاتي على أنّ أحد أهمّ أسباب الحوادث يتمثّل في المستوى الضعيف للمشرفين على صيانة السكك. إذ يقول أنّ هؤلاء أغلبهم من الأعوان “عصاميي التكوين وليسوا مهندسين أكفّاء”. ويسجّل مهندسٌ، من خارج الشركة، – يعمل بمكتب استشارات وفضّل عدم ذكر اسمه – مطلّع على الملفّ نفس الملاحظة من زاوية مغايرة. فللشركة القدرة على تفادي هذه الإخلالات لو توفّرت “الإرادة لدى مسؤوليها”، كما يرى. إذ تتوفّر على ذمّتها شركة “سوترافار” (شركة أشغال سكك الحديد) شبه العموميّة – وتموّلها “الشيمينو” – التي يفترض أنّ صيانة السكك الحديدية تقع على عاتقها، و”هي تتوفّر على التجهيزات والكفاءات المناسبة”. لكنّ مسؤولي “الشركة الأمّ”، يصرّون على منافستها و”عرقلتها” في أعمال الصيانة دون قدرتهم على ذلك، ممّا يؤدّي إلى تدهور جودة هذه الأعمال وإلى تبذير المال العامّ في اقتناء تجهيزات صيانة باهظة الثمن. وهو يفسّر ذلك بوجود عقليّة احتكاريّة لدى بعض مسؤولي الشركة العموميّة، الذين يرون في مجال الصيانة وغيرها “غنيمة” لا يريدون التفريط في ما تدرّه عليهم صفقاتها من أرباح غير مشروعة.
صفقة قطار الفسفاط
ومن بين الصفقات الخاسرة للشركة، صفقة قطارات الفسفاط. إذ يكشف المهندس نعمان بن عيّاد عن صفقة اقتناء “الشيمنو” سنة 2012 لـ 100 عربة من المملكة الغربية يتمّ استعمالهم لنقل الفسفاط في الحوض المنجمي. وهي صفقة بلغت تكلفتها 53 مليار مليم، حسب قوله.
ويوضح بن عيّاد (الذي يقول أنّه تمّ نقله سنة 2008 إلى إدارة المحاسبات لأنّه صار “مزعجًا” للمسؤولين) أنّ العربات التي تمّ شراؤها لا يمكن استعمالها، بل وتمثّل خطرًا جدّيًا في السلامة. إذ يكمن المشكل أساسًا في المسافة الفاصلة بين العجلتين في مستوى الربط. ويبيّن “أن العربات الجديدة تحمل مقاسات تنحصر بين 938 و941 مم في حين أن قوانين السلامة المعتمدة تأكد على وجوب أن تكون المسافة بين 929 و932 مم”. ويضيف أنّ قواعد السلامة تفترض على إيقاف كل المعدات التي تحمل مقاسات أقل أو أكثر لما تمثّله الذي تمثله على سلامة الحركة. ويقول بن عيّاد أنّه طالب مسؤولي الشركة عديد المرّات، وكذلك وزارة النقل، بالتدخّل لإصلاح هذا الخلل، عبر مراسلات (أمدّنا بنسخ منها). إلاّ أنّ نداءاته ذهبَت أدراج الرياح.
وتبيّن بعض الوثائق – أنظر الصور أسفله – التي تحصلّنا عليها (وهي مراسلات داخلية بين مسؤولي الشركة) على أنّه تمّ المضيّ قُدُمًا في عمليّة اقتناء العربات رغم التفطّن إلى عدد من النقائص والاخلالات التقنيّة
ويضيف الرئيس السابق لورشة صيانة العربات المجرورة، أنّ هذا الإهمال تسبّب في عدد من حوادث انزياح القطار عن سكّة الحديد التي تجري بين منطقتيْ الصخيرة والرديّف من حين لآخر، لكنّ المسؤولين يعتمّون عليها.
وهو ما يثبته أحد التقارير الداخلية التي أمدّنا بها السيّد بن نعمان
ورغم وجود هذه الاخلالات الخطيرة، كما يرى الخبير السابق في حوادث القطارات، فإنّ ذلك لم يمنع وزير النقل السابق، عبد الكريم الهاروني، من منح الشركة أواخر سنة 2012 التراخيص اللازمة للبدء في تشغيل 94 عربة على شبكة خطوط نقل الفسفاط.
وللحيلولة دون وقوع “كوارث جديدة ومن أجل وقف تبذير المال العام”، يطالب نعمان بن عيّاد الحكومة الحالية أن تتدخّل لعدم انهاء ما بقي من استحقاقات هذه الصفقة. إذ رغم عدم صلوحيّة العربات فإنّ الشركة الوطنية ستدفع قريبًا “الضمان النهائي” وقيمته 10% من الصفقة.
هذا وقد حاولت ’نواة’ الاتصال أكثر من مرّة بمسؤولي الشركة للحصول على تعليقهم على هذه الاتّهامات، الاّ أنّه لم يتمّ الردّ على مكالماتنا.
iThere are no comments
Add yours