بعد أن بدأت الأشغال في 2006، كانت التوقّعات الأوّلية أن تنتهي بداية أوت 2008. ثمّ تأجلت إلى نهاية السداسي الأوّل من 2009. إثر ذلك، تقرّر أن يتمّ التدشين الرسمي في 7 نوفمبر من نفس السنة، تاريخ الاحتفال بذكرى “التحوّل” وبإعادة انتخاب الرئيس المخلوع لولاية جديدة 2099/2014. ومن ذلك الوقت لم ينفكّ تاريخ الفراغ من المشروع يتأجّل، من 2009 إلى 2010، ثمّ 2011 وأخيرًا إلى 2018.

لكن ما الذي جرى بالضبط حتى تتعثّر أشغال التنفيذ بهذا الشكل؟ هذا المقال محاولة لرصد تاريخ الملفّ وواقعة الراهن.

بدايات المشروع

في جانفي 1992، قرّر زين العابدين بن علي إنشاء مدية للثقافة بالعاصمة. تطلبّ الأمر حوالي عشر سنوات قبل أن تظهر أُسس هذا المبنى المسخّر للفنّ، والذي يجسّد الممارسات المشبوهة التي عوّدنا عليها النظام السابق، على أرض مساحتها 9.2 هكتار، في قلب العاصمة.

سنة 1994، تمّ تخصيص ميزانية قدرها 120 مليون دينار لبناء المدينة، التي تسمح الأجزاء المغطاة والمشيّدة فيها 48836 م مربّع. وقد فازت مجموعة من المصمّمين، بقيادة المهندس المعماري رياض البحري، في المناظرة (البحري هو كذلك المهندس الذي صمّم الملعب الأولمبي برادس وأشرف على تجديد ملعب المنزه).

بناء الأُسس العميقة

إثر ذلك، تمّ إصدار طلب عروض من أجل بناء الأسس العميقة. وقد أسند المشروع إلى شركة الإخوة بوزغندة. تطلبّت الأرض الرخوة البحث عن موقع جيّد بعمق 60 م. وكان ضروريًا وضع 560 قضيبًا، أنشئ البناية فوقها ثمّ الالتجاء إلى خراسانة خاصّة باسمنت من نوع آش آر آس، المقاوم للمؤثرات الكيميائية للأرض.

بداية الأشغال

لاحقًا، في 2006، حازت شركة تشيكيّة على طلب العروض الدولي الذي أصدر في 2004، وبدأت أشغال البناء بتأخير 30 شهرًا. وهكذا انخرطت الجمهورية التشكية مباشرة في المغامرة عبر شركة ’جيوسان’ (مجموعة تونس)، والبنك التجاري ’كومارسني بانكا’، فرع ’لا سوسيِيتي جينيرال’، التي أسندت للمشروع قرضًا بـ 40 مليون يورو، أي ما يضاهي 70 مليون دينار.

يثير اختيار التشيكيين، على حساب عرض مالي صيني أكثر إغراء، التساؤلات. سنفهم لاحقًا أنّ هذا القرار كان مفروضًا من فوق. وأنّ الشركة التشيكيّة ستكون أحد أكباش فداء المشروع.

منذ ذلك الوقت، بدأ بناء هذه القلعة في إثارة نقاط الاستفهام. وللتذكير، فإنّه في ذلك العهد، كانت تونس تفاخر بصرامتها في تنفيذ المشاريع المبرمجة وفي احترامها الآجال. إلاّ أنّ التأخيرات التي سجّلها تنفيذ المشروع بدت منافية لهذه القاعدة.

انطلق المشروع نظريا في 1 فيفري 2006، وكان من المنتظر أن ينتهي في 30 جويلية 2008. لكن الشركة التشيكية لاقت العديد من الصعوبات بسبب دراساتها غير السليمة للسوق المحلّية. وقد حاولت حينئذ دفع السلطات المعنيّة إلى القيام بدراسة جديدة حول ملفّ السوق وإلى تعديلات في الميزانيّة. الأمر الذي رفضته الأخيرة.

لم يعمل التشيكيون من قبل في تونس ولم يكونوا يعرفون شيئا عن السوق التونسيّة. في 2008، تمّ قرع جرس الإنذار. اشتكت العديد من المؤسسات التونسية من الشركة التشيكيّة بسبب تخلّفها عن دفع مستحقّات لها. وقد وجد التشيكيون أنفسهم عاجزين عن إتمام المشروع في الآجال المحدّدة.

هنا تدخّلت السلطات وأخذت الأمر بيدها، ودرست، ضمن خيارات أخرى، إمكانية فسخ العقد مع الشركة التشيكيّة. لكنّ الفكرة استبعدت لأنّ التشيكيين كانوا قد أسندوا إنجاز جميع الأشغال إلى شركات تونسيّة.

إثر ذلك، اضطرّت الحكومة إلى إعادة دراسة الأسعار مقارنة بسعر السوق، الأمر الذي أضاف 7 ملايين دينار – من دون أداءات – إلى المبلغ الأصلي للمشروع، إلى جانب تأجيل تاريخ إنهاء العقد إلى نهاية شهر جوان 2010. إلاّ أنّ استئناف المشروع ترافق مع خلاص شركات المناولة التونسيّة وبتأطير الشركة التشيكية عن قُرب.

بحلول جويلية 2010، لم يتمّ انهاء المشروع واقترب تاريخ نوفمبر 2010 الموافق لانتهاء اتفاقية القرض، فتمّ طلب التمديد في اتفاق القرض. من جهة أخرى، وحدهما البنك التشيكي ومؤسّسة تأمين القرض من طالبا بالتمديد في آجال انتهاء الأشغال. وعلى إثر اجتماع وزاري بإشراف رئيس الدولة، تمّ الأمر بالتسريع في وتيرة إنجاز أشغال البناء، وبإنشاء فضاء للسينما ومتحف للفنّ الحيّ بالمدينة، وأقرّ التمديد في آجال إتمام المشروع إلى 30 جوان 2011.

في ذلك الوقت، كان المشروع قد بلغ 70 % من الانجاز الماديّ، فيما تجاوز استهلاك التمويل النصف. وبقي للإتمام، أساسًا السينوغرافيا (التوضيب المسرحي للفضاء والبناءات)، التي أسند إليها 20% من قيمة الصفقة، والتي كان من المنتظر أن يتفاوض التشيكيون على تمويلها مع البنوك.

في 9 ديسمبر 2010، أُسندت الدرجة الاستثنائية لخطّة مدير إدارة مركزية إلى السيد زهير بن جازية، كمهندس رئيس، ورئيس وحدة التصرف حسب الأهداف، لإتمام إنجاز مشروع بناء مدينة الثقافة بتونس التابعة للإدارة العامة للبنايات المدنية بوزارة التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية.

مع بداية الثورة في أوائل 2011، مسّت بعض الأحداث حظيرة البناء. خشي التشيكيون وأشعروا مقرّهم المركزي بالأمر، مع ذكر أنّ عمالهم المغتربين ليسوا مُؤمَّنين ضدّ الحروب والثورات. لكنّ تمّ إقناعهم بضرورة استئناف لأشغال.

في الأثناء، قدمّ محمّد زين العابدين، الذي عُيّن في 2008 على رأس وحدة التصرّف حسب الأهداف في مدينة الثقافة، استقالته سنة 2011.

ويبدو أنّ هذه الاستقالة مردّها الغياب التامّ لاهتمام وزارة الثقافة بالعمل الذي أنجزه العشرات من مجموعات العمل بخصو اسغلال المديمة الثقافية طيلة ثلاث أعوام. وليس من المفاجئ تسجيل، مرّة أخرى، نقص التواصل من قبل المعنيّين بالموضوع.

جدير بالذكر أنّ محمّد زين العابدين هو أستاذ تعليم عالي في العلوم الثقافية بجامعة تونس، وباحث من مستوى عال في جامعة باريس 1 (بانتيون/ لا سوربون)، ومختصّ في السياسات الثقافية والاستراتيجية للتنمية. وقد توّج تكوينه بدكتواره في السوسيولوجيا السياسية والثقافية في جامعة ريني ديكارت، وبدكتوراه في الجيوسياسة والاستيتقيا بجامعة براس 1 ودكتواره في تاريخ الموسيقى بالسوربون /باريس 6.

توقّف الأشغال

تمّ إيقاف الأشغال في نوفمبر 2011 بسبب استحالة إتمام المشروع.

قبل أيّام قليلة من انتهاء مهمّته، قرّر مجلس وزاري لحكومة مهدي جمعة في جانفي 2015 إرسال تنبيه، ينتهي أجله خلال 10 أيّام، بإلغاء العقد بحجّة عدم احترام المقاول التشيكي لتعهداته. يقضي هذا التنبيه بأنّه في حال عدم استئناف التشكيين للأشغال، ستضطرّ الحكومة التونسية (بعد الاطلاع على القوانين المرعيّة) إلى إلغاء العقد وإلى إطلاق طلب عروض جديد.

قرّرت الشركة التشيكية الالتجاء إلى القضاء، الذي أنصفها. إذ تمّ الحكم بأنّ أسباب التأخير تعود إلى التداعيات الجانبية لانتفاضة 14 جانفي 2011. فضّلت ’جيوسان’ التوصل إلى اتّفاق بالتراضي. أمّا وزارة التجهيز فقد اقترحت إصدار طلب عروض جديد من أجل إنهاء الأشغال، بتكلفة قدرها 120 مليون دينار، في أقرب الآجال.

إعلان طلب عروض جديد، وربمّا أخير

في أفريل 2015، وضعت لطيفة الأخضر، وزيرة الثقافة والمحافظة على التراث، على رأس أولويّاتها مواصلة الأشغال في حظيرة مدينة الثقافة. إذ أطلقت في نفس الشهر طلب عروض دولي، ينتظر أن تعرف نتائجه نهاية شهر جويلية الجاري، بعد موافقة لجنة العروض، حسب الوزارة.

جدير بالذكر أنّ المقاولين العقاريين مدعوّون إلى اقتراح تمويل خارجي، عامّ أو خاصّ، إلى جانب ضمانة بإتمام أشغال المشروع بجزئيه. إلى ذلك، يعتبر قيمة العرض والنسبة المائوية لمشاركة المقاولين التونسيين، وكذلك حجم الدين، من معايير تقييم العرض. إضافة إلى أنّه لا يتوقّع أن يتجاوز السعر الجملي الأقصى المخصّص للمشروع، الذي سيعلن عنه عند إعلان طلب العروض، الـ 120 مليون دينار.

تتكوّن الأشغال التي سيتمّ انجازها من جزئين: إنهاء المرحلة الأولى ومساحتها الجملية 48836 م مربّع وبناء المرحلة الثانية، المتحف الوطني للحضارات ومساحته تمسح حوالي 26000 متر مربّع.

ويحتوي المخطّط التمهيدي لمختلف مراحل المشروع على مايلي:

  • أجل تنفيذ ب18 شهر للجزء الأوّل
  • أجل تنفيذ بـ 30 شهر للجزء الثاني،
  • 27 أفريل 2015، تاريخ نشر إعلان طلب العروض،
  • 26 جوان 2015، تاريخ افتتاح العروض،
  • 15 جويلية 2015، تاريخ تقديم ملفّ تقييم العروض إلى اللجنة العليا للصفقات العموميّة
  • 30 جويلية 2015، تاريخ نشر نتائح طلب العروض،
  • سبتمبر 2015، بداية الانجاز،
  • مارس 2017، تاريخ الانتهاء من إنجاز المرحلة الأولى،
  • مارس 2018، تاريخ الانتهاء من إنجاز المرحلة الثانية.

وصرّح محمّد صالح العرفاوي، وزير التجهيز والإسكان والتهيئة الترابيّة، خلال اجتماع بمقرّ مدينة الثقافة شهر ماي الماضي أنّ “عشرة مؤسّسات تونسية وأوروبيّة سحبت ملفّات للمشاركة في طلب العروض الدولي مع التمويل من أجل استكمال مجمل مكوّنات مشروع بناء مدينة الثقافة في تونس” (الزيارة بالصور).

وقد أشار المهندس المعماري فتحي كوشاد، المدير المكلّف بالبناءات والقضايا العقارية بوزارة الثقافة، خلال زيارة ميدانية في شهر جوان الماضي، إلى أنّ المتطلبات الأساسيّة لطلب العروض هي احترام آجال إنجاز المشروع وضمان جودة العمل طبقًا للمعايير الدوليّة والخصوصيات المعماريّة التونسية. وأضاف أنّ الأشغال لن تبدأ قبل اختيار مقاول بناء جديد والمصادقة على التمويل من قبل مجلس نوّاب الشعب.

وتبدو الوزيرة لطيفة الأخضر مصرّة على أن تجعل من المكان، مدينة الأحلام غير اليقينيّة المعبّرة عن التبذير المالي بالنسبة للبعض وعن الابتكارات المقبورة بالنسبة للبعض الآخر، معبدًا حقيقيًا للفنون والثقافة. هل أنّ تونس قادرة على خسارة المزيد من الأموال؟ هل سيكون هذا المنشأ مربحًا يومًا ما؟ بماذا سيتمّ ملؤه في ظلّ انتاج فنّي يعاني من جفاف مالي؟ هل يتحكّم المواطن التونسي الذي يعاني من أجل لقمة الحياة في المال العامّ الذي يُفترض أن يجعل حياته أكثر رفاهيّة؟

أكثر من أربع سنوات بعد الثورة، ومازالت السلطات المشرفة على الثقافة عاجزة عن ملاحظة أنّ الجمهور المعني يهتمّ أكثر من أيّ وقت مضى بالثقافة البديلة؟ ألم يروا بعد أنّ الذكاء يفترض توفير فضاءات ثقافيّة في المناطق المهمّشة منذ عهد بورقيبة، مرورًا ببن علي ومن تلاهما؟ متى سنقطع مع النخبويّة والكوْلسة التي أغرقتا الثقافة؟ متى سيُمنح الشعب حقوقه المستحقّة؟ متى سيكون له حقّ تقرير ما يحتاج إليه؟

cite-culture-tunis-ar-680

تمتدّ مدينة الثقافة على مساحة 52 هكتار، بقلب العاصمة، في مكان معرض تونس الدولي سابقًا على شارع محمّد الخامس، وتحتوي على جملة من الفضاءات للعروض الحيّة: فضاء عامّ لاستقبال الجمهور، ثلاث قاعات عروض (1800، 700 و300 مكان) و7 استوديوهات إنتاج، مكتبة سمعية بصريّة، مكتبة سينيمائيّة فيها قاعتيْ عرض بطاقة استيعاب : 150 و350 مكان، دار للفنّانين، رواق عرض فنّي وطني تتكوّن من ثلاث قاعات عرض مزوّدة بفضاء حفظ للقطع الفنيّة، إدارة عامّة للمدينة، فضاء للأنشطة التجاريّة، و”برج للثقافة”، مآوي سيّارات. وسيكمل ما سبق متحفٌ للحضارات تُقدّر كلفته بمائة مليون دينار.