المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

violence-police-tunisie

بقلم محمد ناصر،

اعتدوا على الطلبة، على النقابيين، على الصحفيين على الأساتذة، على المعلمين، وآخرها على القضاة، وغيرهم من المواطنين كثيرون. هكذا هو البوليس التونسي اليوم، ونقول اعتدى وعيا منا بالكلمة، ففرض الأمن والسلم العام لا يتطلب العنف اللفظي والمادي ولا يتطلب قوة السلاح أو تجاوز السلطة او معاملة الناس كرعايا دونيين.

لا ندري الطرق التي يتكون بها أطر الأمن التونسي وأعوانه، لكن يبدو أنها نفسها منذ عقود، هي من أنتجت البوليس المتغول زمن الديكتاتورية، وهي التي مازالت تنتجه حتى بعد ثورة قامت ضد النظام البوليسي القمعي، لتتحد فيما بعد كافة أطياف الشعب مع القطاع الأمني لبناء دولة حديثة مغايرة، ومحاربة الشوائب مثل الإرهاب والعنف والتطرف وغيره، مما يعرقل مسار بناء دولة تحتضن في كنفها الأطياف المختلفة للشعب الواحد. لكن النتيجة هي عودة تغول البوليس مصحوبا هذه المرة بنقابات أمنية تدعي الدفاع عن الأمنيين بينما وجودها سياسي بحت تكذب ذاك الخبر أو الحادث أو الطرف وتزيف هذا وتضخم ذاك وتحط من ذاك الخ.. ولنا في حادثة اعتداء عون امن على قاض مثال صريح لذلك.

كلنا خبر عقودا الدولة البوليسية ومظاهرها حتى بات يدرك ما معنى دولة البوليس ويشم بوادرها حتى عن بعد، دولة البوليس القائمة على عنف الدولة المفرط وغير المقنن تجاه مواطنيها، وما يتبعه من حيف في حق الأفراد والجماعات، وما ينجر عنه من تمييز وتصدع بين مكونات الشعب الواحد.

مازال البوليس التونسي إلى اليوم يعاني من قصر كبير وعميق في تكوينه، حتى في أبسط شيء مثلا كالتواصل مع المواطنين في أبسط الأمور، مازالت لغة البوليس تختزن عنفا شديدا لا غاية منه سوى الترهيب والإذلال في علاقة قديمة بين الحاكم والمحكوم، مازالت سلوكات من قبيل الرشوة والتجني سماته الأبرز، سلوكات عديدة تصل إلى حد القتل والاغتصاب والتعذيب، والتي أقرتها الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ووثقتها، أساليب لن تفرز وضعا امنيا متوازنا بقدر ما تفرزه من احتقان قد يؤول إلى فوضى لا يمكن إصلاحها فيما بعد.

كثيرا ما نسمع اليوم أن دولة البوليس عادت من جديد لتبسط سيطرتها، بالقمع والترهيب، والجميع متخوف من عودة ديكتاتورية البوليس الذي لم يصلح من منظومته ليكون بحق أمنا جمهوريا يحضى بالتأييد الشعبي، وبالتالي الالتفاف من حوله في مواجهة كل ما يمكنه ان يمس بوحدة وسيادة البلاد.

كثيرة اعتداءات البوليس التونسي مؤخرا سواء على المتظاهرين مثلما حصل في بطحاء محمد علي، سواء على الأفراد في الشارع أو داخل الأقبية المظلمة لبنايات البوليس التي لا تدخلها حتى في أبسط الأمور إلا وتخرج منزعجا لسوء المعاملة الفوقية، رغم وجود بعض الشرفاء ودمثي الأخلاق في القطاع الأمني.

آخر القضايا تمثلت في اعتداء عون أمن على قاض، لا لشيء إلا لإثبات سلطته أنه هو البوليس أي هو “الحكومة” هو الحاكم المطلق الذي يتحكم بكل شيء، ونعرف جميعنا ان نظام بن علي لم يقم دولة مؤسسات بل دولة رعية على رقابهم يجثم الراعي وحرسه، وها قد عاد هؤلاء “الحرس” اليوم، متناسين أن تونس الحديثة هي دولة المؤسسات حيث التكامل والتوازن ولا سلطة ولا قطاع يتغول على آخر.

القاضي من منطقة زغوان شاب معروف لدى الجميع بدماثة أخلاقه، عندما اضطر للوقوف قرب المفترق، أوقفه عون الأمن مطالبا بالأوراق اللازمة، فمكنه منها، وهنا كان للعون أن أراد استعراض سلطته امام قاض التزم الهدوء رغم صراخ العون به، ليصل الأمر إلى حدود سعي العون إلى توفيق القاضي مرددا “احنا والي مرمدناه خلي قاضي”، و”احنا عندنا النقابات متاعنا يتمس بوليس بلاد نبركوها”، و”كان انت تكلم وكيل الجمهورية انا نكلم الوكيل العام هو ولد عمي و ياقف معاي”، ودون أن يرد القاضي الفعل سوى انه اتصل بوكيل الجمهورية، وهذا اعتداء واضح أوقف على إثره العون للتحقيق معه.

لكن المثير في الامر ان النقابات الأمنية تحركت كعادتها لتزييف الحقائق وتشويه القاضي المعتدى عليه وهرسلته، من قبيل “كان يرتدي ملابس خليعة لا تدل انه قاض” وغيره من الافتراءات المضحكة حقيقة، وصلت حد الضغط عليه لإسقاط الدعوى، متناسين أن في الامر إهانة كبرى لحق الإنسان البسيط، واعتداء قانوني على قاض كل جرمه أنه يمثل سلطة عدلية هي إحدى السلط الثلاث، وطبعا سلط ثلاث امر غير مقبول في عقل البوليس التونسي فلا يمكن في ذهنه أن تكون هناك سلطة غير سلطته هو، فلا سلط ثلاثا في البلاد بل هي سلطة واحدة سلطة البوليس.

كلنا نطلب بلدا آمنا يتكاتف الجميع من اجل بنائه والتقدم به إلى ماهو احسن وأجمل دائما، وأعوان الامن والجيش وكل أفراد المجتمع التونسي مطالبين ضرورة بالتكاتف لأجل ذلك، لكن قضية كهذه واللعب الإعلامي من اجل تحويل وجهتها، يدفعنا إلى التساؤل فعلا، كيف يتكون هؤلاء الأمنيون، هل يدسون لهم مثلا سم الكراهية للمواطنين، هل يزرعون في أدمغتهم العنف الذي لا يسلط إلا على الأبرياء، ثم يدفعنا إلى التصدي إلى التشويه والمغالطات الإعلامية التي ينتهجها الامن التونسي سواء كان ذاك في شكل تجاوزات فردية او عملا ممنهجا سلفا.