المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
reconciliation-economque-tunisie-conference
مصدر الصورة: شبكة القطب المدني للتنمية و حقوق الإنسان

بقلم شكري بن عيسى،

اثار انشغالي قبل اسبوعين في حوار السبسي على الفضائية التونسية نسمة حديثه عن مجموعة من الاكاديميين “المرموقين” في الساحة القانونية، الذين يعتبرون مشروع القانون الذي تقدم به حول المصالحة المزعومة برغم الاخلالات الدستورية الجلية العالقة به، انه سليم قانونيا، وازداد انشغالي عمقا الحقيقة بعد حضور احد الندوات “الدراسية” السبت.

المثير للانشغال المتزايد اليوم ان النخب المزعومة لئن عاد كثير منها للتحنط والصمت، فان العديدين انطلقوا بقوة وسقطوا في التعفن، ورفعوا علم الانتهازية، والسبسي اليوم قدم لنا في ذلك الحوار مجموعة من شهود الزور من القانونيين المزعومين (عياض بن عاشور ومحفوظ والغرايري واللغماني والصادق بلعيد وحتى وزير الدفاع) ، يبدو انه وعدهم بتعيينهم في المحكمة الدستورية، واطلق بذلك “مشروع” الزابوية فسيحا، ما اسال لعاب الاخرين الذين خيروا اتباع نهج “التاييد” بشكليه المباشر والضمني، وكل يطمح حسب “قربانه” ما يمكن ان يلبي حاجياته.

لا احضر العادة الندوات “العلمية” ولا “الحزبية” ولا “الثقافية”، الا نادرا، او عرضا، فانا لا تشدني هذه الفعاليات التي صارت الفولكلورية، في الصالونات الفارهة، والنزل الفاخرة، ولم تتجاوز بعد الثورة مشاركاتي وحضوري عدد اصابع اليد الواحدة، ولكني صباح السبت وجدتني في نزل “افريكا” في ندوة حول مشروع قانون “المصالحة”، رغما عني، لاني كنت متوجها الى ندوة اخرى الحقيقة، ولكن الاشارات والتوجيه الخاطىء داخل النزل وضعتني في هذا المسار، فلم امانع في البقاء، بعد ان وجدت قاعة يعمها الشباب.

حضرت منذ البداية، وكعادتي كان لا بد ان اتمعن بتدقيق، حول الاطراف “المنظمة” (القطب المدني للتنمية وحقوق الانسان)، ولكن خاصة الجهة “المتبنية” (هانس زايدل)، وبصفة اكثر دقة المتدخلين (د. منى غيازة ود. وليد قظوم ود. عزالدين سعيدان ود. محمد الهدار)، وكما لاحظتم فقد انقسمت المداخلات بين القانوني (علاقة مشروع القانون بالدستور وبالعدالة الانتقالية على التوالي للثنائي الاول) والاقتصادي (الانعكاسات المالية لمشروع القانون ومدى ارتباطه بالتنمية الجهوية على التوالي للثنائي الثاني).

لم اكد اصدق نفسي الحقيقة بعد المداخلة الاولى والثانية، من غيازة وكظوم، لسطحية المقاربة، ولكن اساسا للالتباس المتعمد في التحليل في مادة تكاد تكون من المواد التقنية في القانون، وايضا من المواد الاساسية والبدائية في مجال الحقوق، تتمثل في قياس “الملاءمة” و”التطابق” بين قاعدة “ادنى” وقاعدة “اعلى”، التي عادة ما نطلق عليها “دستورية القانون”، ولكني زدت “صدمة” بعد معاينة المتدخلين في المادة الاقتصادية بدرجة اولى لخروجهم عن اشكالية المداخلة، ولكن عودتهم بعد “انهاك” المتابع لاعلان “الحاجة” او بالاحرى اثارتها لدى المتلقي لمشروع قانون المصالحة، الذي يبدو لك انه “الحل السحري”، ولكن الاهم انه الوحيد.

وكانت الحقيقة المداخلات في شكل معزوفة متوافقة، ولكنها ركيكة، لغياب شرط الذوق السليم والادب الرفيع، ولئن انتهت الدكتورة غيازة الى ان مشروع القانون يحتوي “على حد ادنى من السلامة” ولو انه “تشمله اخلالات دستورية” بعد ان اتحفتنا بمفاهيم جديدة خاصة عن اندراج مشروع القانون في اطار “صفقة” مشروعة، وكانت مآخذتها المركزية في اخراج الموظفين من مضمون المشروع حتى يكون متعلقا برجال الاعمال ومتطابقا مع العنوان، فان قظوم بعد عرض واهي وصل الى محصلة ان قانون العدالة الانتقالية صار قاصرا على معالجة الفساد المالي ما “يبرر” لديه الحاجة لمشروع قانون المصالحة المزعومة.

اما عزالدين سعيدان “الخبير” الذي يخفي انتماءه لنداء تونس، فقد غرق لعشرين دقيقة في ابراز الوضع الاقتصادي الكارثي للبلاد من تقهقر اقتصادي وخسائر في النمو والاستثمار والتشغيل وتهويل المستقبل الاسود للبلاد، وخاصة العجز الذي سنواجهه في تسديد الديون لينتهي في الدقية الاخيرة انه يمكن تحقيق 5% من الاموال المنهوبة المقدرة تقريبا بـ40 مليار دينار، هكذا بطريقة مسقطة، ويجعلك وفق الالية “البافلوفية” تربط بين هذا وذاك ويتراءى لك “الحل” في مشروع القانون المعروض، وفي خصوص الهدار فقد اتى على احوال التنمية الجهوية دون رابط بمشروع القانون سوى اشارة بدهاء الى ان المشروع المذكور سيحسن في “مناخ الثقة”، و”وضوح الرؤيا” هكذا بطريقة مسقطة، داعيا الشباب للمساهمة في صياغة برامج التنمية في الجهات.

هكذا في عمليات تخدير للشباب ومغالطة مفضوحة ان لم يكن تحيل موصوم، لتسويق مشروع القانون، بابراز الوهم والحاجة اليه،، عبر مداخلات (عفوا فتاوي)، من فقهاء السلطان، الذين تستر بعضهم ولم يصدع بالحق الظاهر، واوهم الاخر بجنات النعيم المنتظرة.

ولئن تدخلت في الابان لفضح المغالطات والتزوير، فان ما اثلج صدري هو جملة الشباب الذي لم يقبل التدجين وكان على وعي كامل بالمغالطات والتضليل، وتصدى عبر مداخلاته الرشيقة الخلاقة لعملية التحيّل، وادان منفذيها، الذين فشلوا في تمرير فتاويهم برغم كل الخزعبلات والحيل والخدع، المغلفة بالتحليل “الاكاديمي”، وكان فعلا “المفاجأة” السعيدة، واثبت ان المستقبل يصبغه الامل في هذه البلاد.

ولكن مع الاسف الاعلام الغارق في التعتيم الذي غطى الندوة الدراسية (نسمة والوطنية اللتين تابعتهما)، دلس الرفض الشبابي الجلي لمشروع القانون، والاعتراض الحاد على المداخلات التسويقية، وحرّف الامر، محولا ذلك الى مجرد محاولات تحوير للنص المقترح لا غير، وان الاعتراضات لم تكن جوهرية، خلافا لحقيقة الامر!!