بقلم محمد سميح الباجي عكاز،
يولدون من المرايا، يولدون من الزوايا، وسُيولدون من الهزائم، يولدون من الخواتم، يولدون من البراعم، وسيولدون من البداية، يولدون من الحكاية، يولدون بلا نهايةْ،
وسيولدون ويكبرون ويُقتلون، ويولدون ويولدون ويولدون…محمود درويش
ثمان وعشرون سنة مرّت على الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى سنة 1987. الانتفاضة التي خرجت من رحم الهزائم والانتكاسات التي تفنّنا في تجميلها، بدأ بالنكبة والنكسة وأيلول الأسود واجتياح بيروت. تعدّدت الشعارات وضاق الطريق بالسائرين، فكان بدّا أن تبدأ معركة الداخل.
خريف جديد ينتفض فيه الفلسطينيّون، بعد رحلة طويلة من المفاوضات والاتفاقيات والمعارك، ترجّل خلالها عشرات الفرسان، وأسر المئات، ضجر الكثيرون من رحلة طالت، وتقاتل الإخوة وضاعت بوصلتهم بين العواصم، حتّى أعادتها القدس في الأوّل من أكتوبر إلى وجهتها الصحيحة لتندلع الانتفاضة الثالثة
ثورة السكاكين: إرادة المقاومة واستثمار الخوف
فرادى يحسمون قرارهم بالثأر لعقود من الإذلال، بخطى ثابتة يتوجّهون نحو هدفهم، وبقبضة مشدودة يعتصرون نصل السكّين. أخيرا يسقطون برصاص الصهاينة بعد أن يثخنوا ما استطاعوا في أجساد جلاّديهم. الموت لم يعد مخيفا بقدر الفشل، والأرض ما زالت قادرة على استيعاب المزيد من المدافعين، ما يشغل بالهم في تلك اللحظة هو ان لا يذهب موتهم سدى ويعيش الجلاّد ليقتل منهم المزيد.
مثلما كان الحجر منذ أكثر من ربع قرن وسيلة للمقاومة، تتحوّل سكاكين الفلسطينيّين اليوم إلى كابوس يهزّ قلوب الصهاينة ويجبر العالم على الالتفات مجدّدا للقضيّة الفلسطينيّة. هكذا كانت الصورة التي عجّت بها شاشات التلفزات ومواقع التواصل الاجتماعيّ أو ما تمّ تسميته فيما بعد بثورة السكاكين.
“المقاومة بالسكّين والأظافر”، كانت هذه الجملة تستعمل للدلالة على الإصرار على المقاومة وبكلّ السبل حتّى لو انعدمت الامكانيّات. ولكن ان تتحوّل السكّين إلى سلاح لدحر الاحتلال، فهو ما لم يأخذه أحد قطّ على محمل الجدّ.
جيل أوسلو، كحالنا جميعا، ولدنا في زمن انحسار الأحلام، بدأ بحصار رام الله واجتياح الضفّة وسقوط بغداد، أخبرونا أنّ السلام فرض، وأنّ الاستسلام شرّ لا بدّ منه، وأنّ علينا أن نذعن لضرورات الوضع الدولي والإقليميّ والمحليّ. عوّدونا بمفاوضات سلام، وفرضوا علينا أسماء الصهاينة في شاشاتهم وصحفهم وحواراتهم. وكادوا يقنعوننا بأنّ مسار الأحداث في فلسطين صيرورة تاريخيّة لا نملك تصحيحها.
ولكنّ هذا الجيل المثقل بأوزار السابقين استلّ سكينا ليعلن أنّ المقاومة إرادة، لا تخضع لمنطق الإمكانيات وموازين القوى. فقط بسكيّنك قد تفعل ما عجزت عنه مئات المناشدات لمجلس الأمن والأمم المتّحدة.
الانتفاضة الثالثة، تجاوزت الاشتباكات اليوميّة على الحواجز وداخل المدن والقرى الفلسطينيّة، بل وتجاوزت عمليّات الطعن والدهس، لتستثمر الخوف وتنتهج السخريّة والاستهزاء بالآلة العسكريّة للمحتلّ لكسر معنوياته.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=gsCUxTu4vkU&w=640&h=360]
آلاف الصور ومقاطع الفيديو الخاصّة بالانتفاضة الثالثة، سجلت حضور أساليب ابداعيّة في تعاطي الفلسطينيّين مع قوات الاحتلال. من شاب يرقص الدبكة قبل رمي الجنود بمقلاعه، إلى آخرين يمثّلون أدوارا مسرحيّة في خضّم المواجهات ويتّخذون من الأبواب دروعا وديكورا، وصولا إلى استعمال المسدّسات البلاستيكيّة والصوتيّة للاستفزاز قوات الاحتلال وإرعاب مجنّديها، وغيرها من الحركات الساخرة من وضع قاتم لا تكسر ظلمته إلاّ ضحكة عدميّة منه ومن صانعيه.
انتفاضة ثالثة والأسباب لم تتغيّر
عاد أبو عمّار إلى فلسطين بعد الانتفاضة الأولى، أمّا الانتفاضة الثانية التي اندلعت في خريف سنة 2000 بعد اقتحام رئيس وزراء الكيان الصهيوني آرييل شارون باحة المسجد الأقصى، فقد وضعت حدّا لمسيرة ياسر عرفات النضاليّة وأنهت حياته بعد حصار دام سنتين، ليكون الفلسطينيّون اوّل من يدفع فاتورة الحرب الأمريكيّة على الإرهاب.
مرّة أخرى، تكون القدس قادحة لانتفاضة الشعب الفلسطينيّ. البداية كانت باقتحام أكثر من 100 مستوطن صهيونيّ للمسجد الأقصى نهاية شهر سبتمبر الماضي، إضافة إلى تعمّد جيش الاحتلال التنكيل والاعتداء على الأطفال والنساء المقدسيّين الذّي احتجوا على تدنيس الأقصى.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=IlCul1-mDsM&w=640&h=360]
موجة الغضب الفلسطينيّة سرعان ما انتشرت لتعمّ جميع ارجاء الضفّة الغربيّة، والقدس وغزّة المعزولة قسرا، لتنتشر بسرعة الاشتباكات في جميع المدن والقرى الفلسطينيّة وتصل حتّى تل ّأبيب. وحسب البيانات الصادرة عن الهلال الأحمر الفلسطينيّ أنّ حصيلة الأسابيع الثلاثة الماضية منذ انطلاق الانتفاضة بلغت 50 شهيدا وأكثر من 5000 جريح. امّا في الطرف المقابل فقد أسفرت عمليّات الفلسطينيين عن مقتل ثمانية وجرح أكثر من 50 اسرائيليّا من بين الجنود والمستوطنين.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=uGyWADLLw60&w=640&h=360]
الانتفاضة الثالثة لم تكن مجرّد ردّة فعل على حادثة الاقتحام، بل كانت نتيجة تراكمات سنين من الانتهاكات اليوميّة لجيش الاحتلال الصهيونيّ والمستوطنين، سواء عبر الاعتقالات التي طالت مئات الشباب والأطفال الفلسطينيين مرورا بازدياد وتيرة النشاط الاستيطاني في الضفّة الغربيّة إضافة إلى تواصل سياسة الاغتيالات والقتل العشوائيّ.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=rC1merLNh-8&w=640&h=360]
مفاوضات السلام التي سلبت الفلسطينيّين أكثر ممّا أعطتهم، وجرّدتهم في الضفّة الغربيّة من أبسط وسائل الدفاع عن النفس، وأنهت حياة أبو عمّار، وجعلت من السلطة الفلسطينيّة وأجهزتها الأمنيّة حارسا لأمن الكيان والمستوطنين، توقّفت فعليّا بإرادة الصهاينة الذين تجاهلوا دعوات السلطة الفلسطينيّة للتحاور ووقف توسيع المستوطنات وتحرير الاسرى. ولكنّ الطرف المقابل الذّي استفاد طيلة العقد الماضي من انشغال العالم في الحرب على الإرهاب و”الربيع العربيّ” وداعش، أصّر على المماطلة وإجبار الفلسطينيّين على الاستمرار في الركض وراء الوهم.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=RFPXdOcs9_0&w=640&h=360]
الأجهزة الأمنيّة لم تجد بعد الطريقة المثلى للتصدي لعمليات الطعن التي ينفذها أفراد، ليس لديهم ماض أمني.
بينما حُبس المستوطنون داخل منازلهم. أمّا الاوساط السياسيّة فهي تعيش تخبطا كبيرا ترجمته تصريحات رئيس وزراء الكيان الصهيوني الذّي لم اتهّم أخيرا مفتي القدس أمين الحسيني بتحريض هتلر على حرق اليهود. تصريح مسّ لأوّل مرّة أحد الروايات المقدّسة في الذاكرة الصهيونيّة التي طالما ابتزّت العالم باسم المحرقة وأثارت موجة عارمة من السخرية في الأوساط السياسيّة والشعبيّة الغربيّة.
التخبّط الصهيوني في مواجهة الانتفاضة الفلسطينيّة، دفعا إلى الاستنجاد بسلسلة من الأكاذيب والروايات حول ما أسمته العنف أو الإرهاب الفلسطينيّ في محاولة لاستغلال المناخ الدوليّ والحرب في سوريا والعراق ضدّ الإرهاب. هذه الروايات كذّبها الناشط الحقوقيّ ومدير المركز الفلسطيني لأبحاث السياسيات والدراسات الاستراتيجيّة (مسارات) صلاح عبد العاطي، حيث اكّد أنّ ما يحدث هو دفاع الفلسطينيّين عن أنفسهم ضدّ جرائم الحرب الصهيونيّة المستمرّة منذ عقود، خصوصا مع إطلاق يد المستوطنين لإطلاق النار على الفلسطينيّين تحت حماية جيش الاحتلال وتواصل المخطّطات الصهيونيّة لتدنيس وهدم الأقصى لإقامة هيكلهم المزعوم.
ليستطرد الأستاذ عبد العاطي أنّ التحرّكات الاحتجاجيّة للفلسطينيين جاءت بعد يأس الشعب الفلسطينيّ من التجاهل الدوليّ ممّا دفع الشباب الفلسطينيّ للتصدّي للاحتلال بالحجارة والسكاكين والصدور العارية. وهو ما حقّق نتائج ملموسة منذ الأيام الأولى، حيث أفقدت الانتفاضة الاحتلال الصهيوني أمنه الشخصيّ كما استطاعت الاحتجاجات منع تنقّل المستوطنين في مناطق الضفّة الغربيّة، والأهم توحيد الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال وإعادة القضيّة الفلسطينيّة إلى رأس سلّم الأولويّات الدوليّة.
أمّا عن الجانب السياسيّ للانتفاضة، فقد أكّد الأستاذ صلاح عبد العاطي أنّ هذا الشباب المنتفض كان سبّاقا في التحرّك ضدّ الاحتلال دون انتظار الاملاءات من السلطة أو فصائل المعارضة والتي ما زالت حتّى هذه اللحظة عاجزة عن اللحق بركب الانتفاضة نتيجة الانقسامات السياسيّة وتجاوز وعي الشباب الفلسطينيّ لوعي القيادات السياسيّة. وفي المقابل استمرّت منظّمات المجتمع المدني في لعب دورها التاريخيّ في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، وتواصل هذا الدور خلال الانتفاضة الحاليّة من حيث تقديم الخدمات الاجتماعية والصحيّة والتعليميّة وفضح ممارسات الاحتلال وتعرية أكاذيبه وتعديل الانحياز الدولي المفضوح. وقد أشار السيّد صلاح عبد العاطي أنّ عددا كبيرا من الشباب الفاعل في الانتفاضة تخرّج من هذه المنظّمات المدنيّة التي كانت حاضنة لآمال وتطلعات الشباب دون خلفيات سياسيّة أو محاولات لتوظيف جهودهم لصالح الحسابات الضيّقة.
ضمان استمرار الانتفاضة الثالثة حتّى اجبار الاحتلال على التراجع عن ممارسته السابقة وفتح آفاق لإيجاد حلّ يرفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني رهين قدرة الشباب على تنظيم أنفسهم وتوحيد مطالبهم، وهو ما يجري حاليّا باستخدام وسائل جديدة أهمّمها وسائل التواصل الاجتماعيّ لتأطير التحرّكات وتشكيل قيادات ميدانيّة وتبادل مختلف المعلومات ونشر الانتهاكات الصهيونيّة ضد المتظاهرين والمدنيين العزل. وهنا وجب على القيادات الفلسطينيّة أن تعي ضرورة تسليم المشعل إلى قيادات شابّة جديدة قادرة على قراءة الواقع الجديد واستغلال درجة الوعي المتطوّرة لديهم لخدمة القضيّة الفلسطينيّة.
يستطرد السيّد صلاح عبد العاطي ليشير إلى انّ الفلسطينيّين محبطون حاليا من ردّة الفعل العربيّة الشعبيّة والرسمية وإن بدرجة اقلّ. فإن كان الفلسطينيّون يتفهّمون انشغال الشعوب العربية بقضاياها الداخليّة والصراعات والأزمات الاقتصادية والسياسيّة التي أفرزتها الانتفاضات الشعبية في عدد من الدول العربيّة، إلاّ انّ التعاطي الاعلاميّ لبعض القنوات التلفزية على غرار قناة العربيّة وغيرها يظلّ غير مفهوم، التّي تتبنّى الرواية الصهيونيّة وتقف على نقيض الحقّ التاريخي الفلسطينيّ مقدّمة خدمات مجانية للكيان الصهيوني وحملاته الإعلامية لتشويه نضال الشعب الفلسطينيّ.
ليختم أنّ الشعب الفلسطينيّ سيظلّ في حاجة إلى دعم الشعوب العربيّة وخصوصا الشباب منهم الذّي برهن في أكثر من مناسبة ورغم الحصار الحكومات والمشاكل الداخليّة أنّ قضيّة الشعب الفلسطيني تتصدّر سلّم أولوياتهم وهمومهم. ليذكّر أخيرا انّ المبدأ واحد لا يتغيّر بتغيّر الظروف والمعطيات، فبوصلة لا تشير إلى القدس هي بوصلة مشبوهة.
رااااااااااااااااااااااااااااااااائع بكل معنى الكلمة