commission-venise-ivd-reconciliation-justice-tunisie

بقلم غسّان بن خليفة،

كشف تقرير، أصدرته لجنة البندقيّة  أوّل أمس، أنّ مشروع قانون المصالحة الإقتصادية لا ينسجم مع الفصل 148 من الدستور، ولا يضمن كشف الحقيقة ولا إصلاح المؤسّسات في مجال قضايا الفساد والرشوة.

ويمسّ هذا “الرأي المؤقت” نسبيًا بمصداقيّة رئاسة الجمهورية، التي أكّدت مطلع هذا الأسبوع أنّ اللجنة أقّرت دستورية مشروع القانون، دون الإشارة إلى ما تضمنّه التقرير من انتقادات جوهريّة. ويبدو أنّ رئاسة الجمهورية تعمّدت نشر بلاغها قبل صدور التقرير، الأمر الذي ساعد على تبنّي جلّ وسائل الإعلام لتأويلها المجتزأ.

دستوري من حيث المبدأ ولا دستوري في المضمون

وقد أجابت اللجنة في ما عنونته بـ”الرأي المؤقت للجوانب المؤسسّاتية في مشروع القانون حول الإجراءات الخاصّة المتعلّقة بالمصالحة في المجالين الاقتصادي والمالي” على خمسة أسئلة تقدّمت بهم إليها هيئة الحقيقة والكرامة في أواخر جويلية الماضي.

أوّل هذه الأسئلة يتعلّق بمدى انسجام بعث جهاز إضافي للعدالة الانتقالية مع أهداف هذا المسار ومع الدستور. وقد رأت اللجنة أنّ “الدستور التونسي لا يفرض شكلاً أو جهازًا محدّدًا لتحقيق العدالة الانتقالية” ولا كذلك القانون الأساسي عدد 53-2013 المتعلّق بالعدالة الانتقالية، لتستنتج من ذلك أنّه يمكن “من حيث المبدأ” تعديل القانون الأخير بقانون أساسي آخر. وأضافت أنّه لا مانع كذلك من بعث لجنة متخصّصة في القضايا المالية بهدف تسريع الإجراءات، لكن في ظلّ احترام “الآجال الزمنية المنصوص عليها في التشريع ذي العلاقة”. (الفقرة 54).

إلاّ أنّ اللجنة أقرّت ما سبق بتحفّظ واضح. إذ يشرح التقرير أنّ منظومة العدالة الانتقالية “بمساريْن”، كما سيفضي إليها تبنّي مشروع قانون المصالحة، “لا يمكن أن تكون منسجمة مع الفصل 148 من الدستور إلاّ إذا كان هذين المساريْن متعادليْن، وبالتالي متشابهيْن إلى حدّ كبير، وأن يستطيع كليْهما بلوغ أهداف العدالة الانتقالية المنصوص عليها في النظام القانوني التونسي”.

وأوضحت اللجنة في تحليلها لنفس السؤال أنّ الفصل 148 من الدستور (البند 9)، “يفرض على الدولة التونسية تطبيق العدالة الانتقالية “في كلّ مجالاتها””، لتخلص إلى أنّ “مشروع القانون يجب أن يضمن أهداف وشروط العدالة الانتقالية، المنبثقة من القانون الأساسي لسنة 2013، كذلك في مجال الجرائم المتّصلة بالرشوة واختلاس المال العامّ” (الفقرة 36).

كما رأى الخبراء الأوروبيون أنّ “لجنة المصالحة لا تقدمّ ضمانات استقلالية كافية تسمح بتأكيد أنّ إجراءات العدالة الانتقالية التي ستنظر فيها “معادلة” لتلك التي ستنظر فيها هيئة الحقيقة والكرامة”. ثمّ استنتجوا بوضوح أنّ “نقل الصلاحيات من هيئة الحقيقة والكرامة إلى لجنة المصالحة لا يبدو إذًا متوافقًا مع الفصل 148 من الدستور”. (الفقرة 41).

وفصّلت اللجنة في إجاباتها على الأسئلة الموالية “شروط العدالة الانتقاليّة” الغائبة عن مشروع قانون المصالحة.

لا ضمانات للاستقلالية ولكشف الحقيقة

قارن تقرير اللجنة بين ضمانات استقلالية الهيئة ولجنة المصالحة. فالثانية لا تتمتّع، على عكس الأولى، بـ”الشخصية القانونيّة ولا بالاستقلالية الماليّة والإدارية”. كما أشار إلى أنّ أعضاء لجنة المصالحة لا يتمتّعون، على عكس أعضاء الهيئة، بضمانات الاستقلالية الشخصيّة مثل “المناعة الوظيفيّة”، كما أنّهم “ليسوا ملزمين بالسرّ المهني وواجب التحفّظ” وأضاف أنّ “لجنة المصالحة ليست مُلزمة رسميًا بممارسة مهامها في كنف الحياد والاستقلاليّة”.

وخلصت لجنة البندقية إلى أنّ لجنة المصالحة “لا تتمتّع بضمانات كافية لاستقلاليتها تسمح باعتبار آلية العدالة الانتقالية المعمول بها في مجال الفساد المالي واختلاس الأموال العموميّة معادلة للآليات المعمول بها في بقيّة المجالات”. (الفقرة 56).

وواصلت اللجنة في نفس الاتّجاه في أجوبتها اللاحقة. إذ رأت في ردّها على السؤال الثالث  أنّ

رفع دعوى أمام لجنة المصالحة لا يمثّل ضمانات كافية لكشف الحقائق وإعلانها. إذ ترى أنّ “قصر أمد الدعوى أمام لجنة المصالحة لا يضمن شرحًا معمّقًا للوقائع. إلى ذلك، لا يتمّ إعلام الجمهور بقرارات المصالحة”. (فقرة 44).

لا يضمن إصلاح المؤسّسات

كذلك قارن التقرير بين صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة وصلاحيات لجنة المصالحة. ففيما تشمل الأولى «تنقية مؤسّسات الدولة من الأعوان المدانين في قضايا فساد أو انتهاكات»، ليس لقانون المصالحة أيّة انعكاسات على «المسيرة المهنيّة للموظّف (مهما كانت رتبته) الذي يعترف بالمشاركة في أعمال فساد مالي أو اختلاس المال العامّ»
وبالتالي استنتجت اللجنة أنّ مشروع القانون “لا يسمح بتحقيق أحد أهداف العدالة الانتقاليّة، وهو إصلاح المؤسّسات».

شروط تعديل القانون الأساسي للعدالة الانتقالية

أقرّ التقرير بسلامة أحد الانتقادات الموجّهة للهيئة والمتعلّق بـ”مجال عملها الواسع جدًا وبصلاحياتها التي تكاد تكون فريدة في دولة قانون”. ونوّه بشكل إيجابي إلى فرضية إحداث لجنة متخصّصة في الجرائم الاقتصادية والمالية.

وبناءً عليه، لا تعارض لجنة البندقيّة فرضية قيام المشرّع التونسي بمراجعة القانون الأساسي لسنة 2013 في حال تمّ اعتباره “غير كافٍ لتحقيق الأهداف الاقتصادية والمالية”. إلاّ أنّها تنبّه إلى إمكانية “حدوث تنازع صلاحيات لا يمكن تجاوزه بين لجنة المصالحة والهيئة” بسبب إلغاء الفصل 12 من مشروع القانون “بشكل عامّ لكلّ الإجراءات المتعلّقة بالفساد المالي واختلاس المال العامّ”، التي يفترض أنّها من صلاحيات الهيئة في الأصل. وتضيف اللجنة أنّ هذا التنازع في الصلاحيات “لن يساعد على تسريع مسار العدالة الانتقاليّة ولا جعله أكثر نجاعة”.

وختم التقرير بالتشديد على أنّ أيّ مبادرة لمراجعة القوانين يجب أن تحترم مبدأ تدرّج القواعد القانونية وأن تكون بـ”التعاون مع المجتمع المدني والمؤسّسات ذات الاختصاص، تحديدًا هيئة الحقيقة والكرامة”.

جدير بالذكر أنّ لجنة البندقيّة (واسمها الكامل اللجنة الأوروبية من أجل الديمقراطية عبر القانون) هي هيئة استشارية تابعة لمجلس أوروبا، وهو إحدى المؤسّسات المرتبطة بالاتّحاد الأوروبي. وتُعنى اللجنة بتقديم الرأي والدعم القانوني في مجال تدعيم أركان النظام الديمقراطي، حسب المعايير الأوروبية، عبر الاصلاح المؤسّساتي للدول التي تطلب منها ذلك.

⬇︎ PDF