discours-mohamed-ghannouchi-14-janvier-2011-feat

بقلم غسّان بن خليفة،

حصلت نواة على تسريب لعدد هامّ من الشهادات التي أدلى بها مسؤولون سياسيون وأمنيون وإعلاميون في إطار التحقيقات التي باشرها القضاء العسكري1 قبل أربع سنوات حول أحداث الثورة. وتكشف هذه الشهادات جزءًا من خفايا ما حصل في كواليس السلطة يوم 14 جانفي بالأساس، وفي الأيّام القليلة التي سبقته ولحقته

يسمح ما بين أيدينا من وثائق تفسير جزء من الوقائع الملغزة التي كان الإعلام، تحديدًا التلفزي منه، مسرحها. كما يساعد على فهم أكبر لكيفيّة تعامل محرّكي الأحداث في السلطة مع، أو بالأحرى استعمالهم لوسائل الإعلام الحكومي والخاصّ، خلال تلك الأيّام الاستثنائيّة.

قصّة «الخطاب التاريخي الموجّه إلى الشعب التونسي»

discours-mohamed)-ghannouchi-14-janvier-2011

أعلنت عبارة «أتولّى بداية من الآن ممارسة سلطات رئيس الجمهوريّة»، بصوت محمّد الغنّوشي، عن بداية مرحلة جديدة. إلاّ أنّها كانت نتيجة مسار متشعّب من الأحداث التي عرفها يوم 14 جانفي.

وتفيد الوثائق المتوفّرة أن الأحداث بلغت ذروتها حوالي الساعة الرابعة من مساء ذلك اليوم، عندما علمَ سامي سيك سالم، العقيد بالأمن الرئاسي – الذي كان يشغل خطة رئيس إدارة فرعية للحماية–، بمغادرة بن علي وعلي السرياطي، المدير العام للأمن الرئاسي، القصر نحو المطار وبتجهيز الطائرة الرئاسية للإقلاع. تلا ذلك ما استمع إليه من اتصّالات على جهازه اللاسلكي تفيد توجّه الآلاف من المتظاهرين إلى القصر وتحليق طائرة مروحيّة عسكريّة حوله وتوجّه بارجة حربية إليه – وهذه الاتصالات ما تزال تمثّل أحد أهمّ ألغاز ذلك اليوم –، وما سجّله من انسحاب عدد من أعوان الأمن الرئاسي، وعلى رأسهم عدنان الحطّاب، مدير سامي سيك سالم المباشر، ونائب علي السرياطي الذي لم ينجح في الاتصال به، ولا بقائد أركان الجيش رشيد عمّار. كلّ هذه الأحداث المتلاحقة دفعت سيك سالم إلى مخاطبة الوزير الأوّل «حواليْ الساعة الخامسة مساء»، وطلب منه القدوم لقصر قرطاج وتسلمّ السلطة. وبعد أن شرح له محمّد الغنّوشي ما ينصّ عليه الدستور، استقدم سيك سالم فؤاد المبزّع، رئيس مجلس النوّاب، وعبد الله القلّال رئيس مجلس المستشارين، وفتحي عبد الناظر، رئيس المجلس الدستوري. وقد حضر جميعهم، باستثناء الأخير الذي اختفي كامل الليلة الفاصلة بين 14 و15 جانفي قبل أن يظهر لتزكية إزاحة بن علي.

وفي الأثناء، أشعَر إدريس بن يوسف، «المنسّق بين مؤسّستيْ رئاسة الجمهورية والتلفزة الوطنية»، شوقي العلوي الرئيس المدير العامّ لمؤسّسة التلفزة بأنّ «إطارًا من الأمن الرئاسي» يحاول الاتّصال به. وقد تلقّى العلوي فعلاً اتّصالاً من «أحد الأفراد التابعين للأمن الرئاسي» – يُرجّح أنّه العقيد سامي سيك سالم- ، طلب منه إرسال فريق تلفزي من أجل «تصوير بيان تاريخي وهامّ جدًا موجّه إلى الشعب التونسي». يقول العلوي، الذي عُيّن في منصبه بداية الثورة، أنّه استجاب لهذا الطلب اثر اتّفاقه على ذلك مع سمير العبيدي، وزير الاتّصال. ويضيف أنّهما اتّفقا كذلك على بثّ ذلك الإعلان الشهير: «بعد حين خطاب تاريخي للشعب التونسي.»

من شهادة شوقي العلوي
من شهادة شوقي العلوي

في شهادته، يوضح الأسعد الداهش، الذي عُيّن “مديرًا للأخبار” في سبتمبر 2010، أنّ العلوي اتّصل به هاتفيًا وطلب منه نشر ذلك الخبر. وقد تولّى العامل بقاعة البثّ النهائي، «الذي لا يتذكّر هويّته بالتحديد» تدوين تلك الجملة التاريخيّة.

وفي قصر قرطاج، يروي سيك سالم في شهادته أنّ فؤاد المبزّع اعتذر عن تصوير خطاب يُعلن فيه تولّيه الرئاسة وملئ الفراغ الدستوري الذي أحدثه خروج بن علي من البلاد. ويضيف أنّ المبزّع اقترح أن يتكفّل عبد الله القلاّل بالأمر عوضًا عنه. وفي ما تبدو أنّها لحظة من تلك اللحظات الحاسمة في التاريخ، يروي سيك سالم أنّه انبرى معترضًا: «لا هذاكه لا! ».

من شهادة سامي سيك سالم
من شهادة سامي سيك سالم

ولا يبدو سيك سالم متأكّدًا من سبب اعتراضه على القلاّل، صاحب السجّل الأسود في مجال حقوق الانسان، إذ يذكُر أنّ «أحد الحاضرين همس في أذني: هذاكه لا، البلاد تزيد تشعل». وهنا تدخّل محمّد الغنّوشي، مستظهرًا بكتيّب الدستور، قائلاً: «يمكننا الاعتماد على الفصل 56.» وبعد أن حرّر الغنّوشي كلمته في إحدى قاعات الديوان الرئاسي (قال الأخير لاحقًا أنّه أعدّها قبل مغادرته مكتبه بساحة القصبة) ألقاها «دون بروفة».

ومن ثمّة كلّف سيك سالم محافظ شرطة أوّل يوسف ساسي بإيصال الشريط إلى مقرّ التلفزة. هناك، يقول شوقي العلوي أنّه تلقّى حوالي الساعة 20 اتّصالاً من قاعة البثّ التابعة لأستوديو الأخبار أُعلمِ فيه بوصول الشريط وطُلب منه الالتحاق بالأستوديو. وبوصوله وجد العلوي «مجموعة من الأعوان المرتدين لبدلة قتال سوداء اللون ماسكين أسلحتهم الفرديّة، ومعهم شخصًا آخر مرتديًا لبدلة مدنيّة» وأعطى الأخير – الأرجح أنّه الضابط يوسف ساسي- تعليمات تقضي ببثّ إعلان تولّى الغنوشي مقاليد السّلطة.

إلاّ أنّ هذا السرد المستند إلى شهادات الأشخاص المذكورين لا يلغي كلّ نقاط الاستفهام التي ما تزال عالقة إلى اليوم. وأهمّها: ما الذي دفع سمير العبيدي، وزير الاتّصال، للاتّفاق مع شوقي العلوي (والأرجح أنّه أمره بذلك) على وضع ذلك الإعلان؟ من أخبر العبيدي بفحوى خطاب الغنّوشي؟ ومن أقنعه بأن ينضمّ لخيار الحسم في بن علي، فيما كان الأخير مازال يحلّق في الجوّ ولا يُعرَف بعد هل أنّه غادر نهائيًا أم أنّه ينوي العودة؟

تصوير عمليّة القبض على عائلة ليلى الطرابلسي

arrestation-famille-trabelsi-aeroport-tunis-carthage-revolution-tunisie

مطار تونس قرطاج الدولي كان بدوره مسرحًا لأحداث استُعمل فيها الإعلام كأداة لحسم الموقف ذلك اليوم. هناك، اقتحم المقدّم سمير الطرهوني، وعدد من أعوان الفوج الوطني لمكافحة الارهاب، حوالي الساعة 14:50 القاعة الشرفية باحثين عن أفراد عائلة ليلى الطرابلسي. ويقول الطرهوني أنّه كان ينوي بثّ عملية إلقاء القبض عليهم مباشرة على التلفزيون، وأنّه كان ينوي «الدخول في مساومة مع … الرئيس السابق لمطالبته بالتنحّي عن السلطة تجنبًا لكلّ الخسائر البشريّة والماديّة».

من شهادة سمير الطرهوني
من شهادة سمير الطرهوني

وقد اتّصل الطرهوني بالرئيس المدير العامّ للتلفزة بعد أن لم يجد لدى محافظ المطار كاميرَا، وهو ما تمّ بين الساعة 17 و18، كما يذكر شوقي العلوي. إذ يقول في شهادته أنّ «شخصًا لا يستحضر اسمه» أخبره أنّ الجيش ألقى القبض على عائلة بن علي وهي تحاول مغادرة البلاد، طالبًا منه إرسال فريق تلفزي للمطار لتصوير الحدث. ويضيف العلوي أنّه اتصّل في الحين بعادل التويري، المدير العام للأمن الوطني، الذي «استشرته في الموضوع» و «قد وافق» و«لم ير مانعًا».

تعثّرت عمليّة تصوير احتجاز الطرابلسيّة بسبب تأخّر وصول المصوّر عبد الباسط التليلي. وبتوجيه من سمير الطرهوني، أو أحد معاونيه، صوّر فريق التلفزة، بقيادة الصحفيّة عارم الرجايبي، مشهد توجّه الطرابلسية من القاعة الشرفية إلى الحافلة العسكريّة وهم محاطين بأفراد القوّات الخاصّة.

إلاّ أنّ أشرطة التسجيلات لم تُوجّه إلى مقرّ التلفزة الوطنيّة كما كان مقّررًا. إذ افتُكّت من الصحفيين بأمر من محافظ أمن المطار زهير البيّاتي. وقد حوّل الأخير وجهة الأشرطة إلى وزارة الداخلية بناءً على تعليمات رشيد بن عبيد، مدير المصالح المختّصة. ولم تظهر تلك التسجيلات إلاّ يوم 27 جانفي عندما بثّتها التلفزة الوطنية، بعد إلحاح كتابة المؤسّسة، حسب شهادة الصحفيّة عارم الرجايبي.

من شهادة زهير البيّاتي
من شهادة زهير البيّاتي

من النقاط التي تلفت الانتباه أنّ الصحفيين الذين تنقّلوا لتصوير احتجاز الطرابلسيّة لم يكونوا على علم، حسب شهادتهم، بتفاصيل مهمّتهم. وأنّهم لم يعرفوا بفحوى الموضوع إلاّ لدى وصولهم إلى مطار قرطاج. وذلك على عكس المسؤولين الإداريين للتلفزة الوطنية. كذلك ما قاله الأسعد الداهش للصحفيين الذين اتّصلوا به ليعلموه بمحاولة محافظ المطار افتكاك الأشرطة منهم. إذ قال، حسب شهادته، للمصوّر عبد الباسط التليلي : «أعطيهم الكاسات». وهو الأمر الذي يؤكّد الانطباع السائد عن حالة التبعيّة والخضوع التي كان يعيشها صحفيو الإعلام الحكومي.

كذلك، يثير تبرير شوقي العلوي قراره إرسال فريق تلفزي للمطار بعض الاستغراب. إذ علّله الموظّف السابق بوزارة الداخلية ووكالة الاتصال الخارجي بأنّ هنالك «فرقٌ كبير بين تصوير الحدث وتغطيته وبين بثّه»، وكأنّنا بصدد مؤسّسة إعلامية اعتادت أن تغطّي الأحداث باستقلالية. مسألة أخرى تثير التساؤل حول مدى صدق أقوال مسؤول العلاقات الخارجية بوكالة تونس افريقيا للأنباء حاليًا: بعد أن صرّح العلوي بأنّه أخذ موافقة عادل التويري، مدير الأمن الوطني (الذي لم يتحدّث عن ذلك في شهادته) على تغطية عمليّة المطار، أضاف في نفس الشهادة ما يلي: «أفيدكم من أنّني لم أستشر أيّ كان في تلك العملية».

من شهادة شوقي العلوي
من شهادة شوقي العلوي

هوامش

1. قضية: التآمر على أمن الدولة الداخلي وارتكاب الإعتداء المقصود منه حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي