dettes-tunisie

غسّان بن خليفة

تعتزم الكتلة البرلمانية للجبهة الشعبيّة التقدمّ مطلع السنة المقبلة إلى مجلس نوّاب الشعب بمشروع قانون، حصلت نواة على نسخة منه، يقضي بإحداث لجنة وطنيّة للتدقيق في ديون تونس الخارجية. ويخضع هذا المشروع حاليًا لمرحلة النقاش النهائي داخل الكتلة قبل تقديمه لكتابة المجلس.

وستكون مهمّة “لجنة الحقيقة حول المديونيّة”، كما يسمّيها مشروع القانون، إخضاع “جميع اتفاقيات القروض المبرمة من قبل الحكومة التونسية منذ جويلية 1986 [تاريخ انخراط تونس في برنامج الإصلاح الهيكلي الذي فرضه صندوق النقد الدولي] إلى عملية تدقيق لتحديد القسط من الديون الخارجية العموميّة الذي يمكن اعتباره غير شرعي أو غير قانوني أو كريه أو غير محتمل”، كما ورد في الفصل الأوّل.

وينصّ مشروع القانون، في فصله الخامس، على أن تعود رئاسة اللجنة إلى رئيس لجنة المالية بمجلس نوّاب الشعب، وأن يكون من أعضائها أربعة نوّاب آخرين من الكتل النيابية الأكثر تمثيليّة. كما يقترح تواجد اثنيْ عشر عضوًا آخر من الكفاءات الوطنية والدولية المختصّة في تدقيق الدّيْن العمومي، إضافة إلى ممثّلين عن حركات اجتماعية تنشط في نفس المجال.

⬇︎ PDF

حملة متعدّدة الأبعاد

وسيكون مشروع القانون تتويجًا للحملة الوطنيّة التي أطلقتها الكتلة النيابيّة للجبهة الشعبيّة يوم 17 ديسمبر الجاري، بمناسبة الذكرى الخامسة للثورة، وعنوانها “المديونيّة، نحن أولى بفلوسنا”. وتسعى الحملة إلى حشد الدعم الشعبي قصد حمل مجلس نوّاب الشعب على تبنّي المبادرة التشريعيّة للجبهة الشعبيّة القاضية بـ “مراجعة منظُومة المديُونيّة وذلك من خلال مُسائلتها وتوضيحها ومُحاسبتها بواسطة التّدقيق”. وستتواصل الحملة، التي تشارك في تنظيمها جمعيّة راد آتاك، إلى غاية 18 جانفي من العام المقبل.

وبادرت الحملة إلى تركيز عدد من اللافتات الاشهاريّة في شوارع العاصمة، احتوت على 20 صورة لمواطنين ومواطنات، من خلفيات اجتماعية متنوّعة، عبّر كلٌّ منهم عن رفضه للمديونيّة بكلماته الخاصّة. وقد اضطرّ فريق الحملة إلى حذف إحداها بعد أن أثارت جدلاً لتضمّنها خطابًا اعتبر البعض أنّ فيه “توظيف للدين في السياسة”.

كما أنشأ المشرفون على الحملة موقع واب، تضمّن نصوصًا تحليليّة واحصائيات وكذلك كتابًا حديثًا بعنوان “ضدّ ديكتاتورية المديونية”.

وينوي منظّمو الحملة التنقل بداية السنة المقبلة إلى عدد من الولايات الداخلية لمزيد تحسيس المواطنين والحصول على دعمهم. وستكون المرحلة الأولى في الكاف وسيدي بوزيد وسليانة وقفصة، من 8 الى 11 جانفي. ثمّ لاحقًا في ولايات نابل والقيروان وصفاقس من 15 إلى 17 جانفي، كما أوضح مختار بن حفصة، كاتب عامّ جمعية راد آتاك، في تصريح لنواة.

الجدال حول الأرقام والأولويات

يركّز أصحاب الحملة على فكرتين أساسيّتين: أنّ التداين الخارجي بلغ أرقامًا مفزعة وأنّ التونسيين غير مُلزمين بتسديد ديون بن علي ونظامه الاستبدادي. إذ أنّ حجم المديونية العموميّة الخارجية قفز من 25.6 مليار دينار سنة 2010 إلى 53 مليار دينار اليوم، حسب آخر أرقام البنك المركزي. كما أنّ نسبة التداين تمثّل 53% من الناتج الداخلي الخام، وهي نسبة يجمع الخبراء الاقتصاديون على اختلاف مشاربهم أنّها مرتفعة. كما تجدر الإشارة إلى أنّه تمّ رصد 5130 مليون دينار، أو ما يعادل 17% من ميزانية الدولة لسنة 2016، لخدمة الديْن العمومي. ويبيّن الشامخي بنبرة مستنكرة: ” اقترضت تونس في الخمس السنوات الأخيرة 36.5 مليار دينار (منها 18 مليار دينار من الخارج)، وهو ما يقترب من الـ 41 مليار دينار (منها 25 مليار دينار من الخارج) التي اقترضها بن علي، ومن سبقه، بين 1986 و2010. هذا علمًا وأنّنا دفعنا بعد الثورة 27 مليار دينار لتسديد ديون بن علي!”، مضيفًا أنّ “التونسيين أولى بهذه الأموال من الدائنين.”

dettes-tunisie-1996-2015

المصدر: فتحي الشامخي، ضدّ ديكتاتورية المديونية، ص 30.

إلاّ أنّ عزّ الدين سعيدان، الخبير الاقتصادي ذي الخلفية الليبرالية، يرى أنّ مشروع الجبهة يمثّل “نقطة انزلاق خطيرة […] يمكن أن تؤدّي بتونس إلى أوضاع رهيبة”. فالدولة ملزمة برأيه بتسديد ما اقترضه بن علي و”أنّنا نتحمّل مسؤولية قراراته”، بغضّ النظر عن الأوضاع السياسية قبل الثورة. ويضيف سعيدان أنّنا اليوم بحاجة إلى “نسبة نموّ من 7 إلى 8% من أجل خلق مواطن شغل، وهذه التنمية تحتاج إلى تمويلات خارجية في ظلّ تراجع الادخار الوطني إلى 12% من الناتج الداخلي الخام بعد أن كان قبل الثورة في حدود 23%”. ويعيب سعيدان على حكومة الترويكا السابقة أنّها صرفت ما اقترضته بالأساس على الاستهلاك “عبر الانتدابات ورفع الأجور في القطاع العامّ عوض تحسين ظروف الاستثمار الخاصّ الكفيل بخلق الثروة”. ويضيف أنّ “ترفيع الأجور، خاصّة في ظلّ اقتصاد غير منتج لا يؤدّي سوى إلى زيادة التضخّم في الأسعار.”

ولئن يوافقه الشامخي جزئيًا في انتقاده لسياسة التداين الخارجي التي اتبّعتها الترويكا، فإنّه يعترض على الموقف السلبي لسعيدان من إنفاق الدولة على ترفيع الأجور. إذ يرى أنّ ذلك يحسّن المقدرة الشرائية للمواطنين، وأنّ الاستهلاك الداخلي هو ما يساعد على تنشيط السوق، مستشهدًا بسياسات كينز “التي أنقذت الغرب في منتصف القرن الماضي من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كان يمرّ بها”. ويضيف الشامخي أنّ التجارب المقارنة تثبت أنّ الدول الناجحة اقتصاديًا تعتمد بالأساس على سوقها الداخليّة. ويذكر الشامخي في هذا الصدد تصريحًا للشاذلي العياري، محافظ البنك المركزي، اعترف فيه أنّ نسبة النموّ الضعيفة (1.7%) التي سجّلها الاقتصاد التونسي تعود بالأساس إلى السوق الداخلية.

“تدقيق دون تعليق”

ويشدّد سعيدان على أنّ تونس لم تتأخّر طيلة تاريخها الحديث عن تسديد ديونها، وأنّها مازالت بفضل ذلك “تحافظ على سمعة طيّبة في الأسواق المالية، تسمح لها بمواصلة الاقتراض”. ويضيف: “ما تطالب به الجبهة الشعبية من تعليق لسداد الديون في انتظار التدقيق فيها سيمسّ بهذه السمعة الطيّبة”. إلاّ أنّ الشامخي وصف هذا الكلام بالمغالطة، مؤكّدًا أن لا وجود لأيّ حديث عن “تعليق تسديد الديون” في مقترح الكتلة النيابية للجبهة الشعبية، الذي يقتصر على مسألة التدقيق.

ويستطرد الشامخي في ردّه على سعيدان، بافتراض ذهاب تونس في خيار تعليق تسديد الديون. إذ يؤكّد أنّ الأرجنتين ربحت 8 مليارات دولار من قرارها التوقّف عن تسديد ديونها طيلة خمس سنوات “استجابة للضغط الشعبي”. ونفس الشيء بالنسبة للاكوادور، التي بعث رئيسها رافاييل كوريرا سنة 2007 لجنة دقّقت في ديون البلاد بين 1976 و2006. وقد قرّر بناءً على نتائج تقرير اللجنة عدم تسديد “الديون غير الشرعيّة”. وهو ما ساعده في الضغط على الدائنين الخارجيين وإقناعهم بالتخلّي عن 70 بالمائة من قيمة قروضهم لبلاده. وقد حوّل كوريرا ما وفّره إلى نفقات اجتماعيّة استفادت منها الفئات الضعيفة.