delegation-tunisie

نظّم الأمر العلي المؤرخ في 21 جوان 1956 المتعلّق بالتنظيم الإداري التونسي طريقة ممارسة السلط العمومية لصلاحياتها من خلال بيان الدوائر والوحدات الإدارية التي يرتكز عليها على الصعيد الجهوي والمحلي. وعرف في هذا الإطار الهيكل الإداري المسمى المعتمدية بأنها الوحدات الإدارية التي تكوّن كلّ ولاية ويطلق عليها اسم مركزها.

ويشرف على تلك الوحدات مسؤولون يصنفون حسب نفس النصّ من الإطارات العليا للإدارة الجهوية ويسمّون معتمدون. أما في خصوص المشمولات فان المعتمدون يساعدون الوالي في مباشرة مهامه بالمعتمديات الترابيّة الراجعة لهم بالنظر ويقومون تحت سلطته بإدارة شؤون منطقتهم ويضطلعون حسب الفصل 25 من نفس النصّ بتنشيط وتنسيق ومراقبة المصالح المحلية للإدارات المدنية التابعة للدولة الراجعة لهم بالنظر.

ويبرز ممّا سبق تعمّد المشرع في ذلك الوقت عند الحديث عن مشمولات المعتمد استعمال عبارات فضفاضة بصياغة مطلقة وغير مدققة على غرار التنشيط والتنسيق والمراقبة وذلك قصد منحه مشروعية التدخل في جميع المجالات دون قيود. و قد يعود ذلك الى ماقتضته الظرفية التاريخية لتلك الفترة والتي تستوجب فرض وجود الدولة في كل ربوع البلاد خاصة في السنوات الأولى للاستقلال وذلك لتنفيذ السياسة التنموية ومختلف البرامج الوطنية وكذلك للتصدي لكلّ المحاولات التي يمكن أن تمس بوحدة دولة الاستقلال والتي يمكن أن تنبني على الانتماء القبلي أو ما يعرف بالعروشة.

ومن الملاحظ وانه رغم أهمية الدور الموكول للمعتمد فان النصوص التي تؤسس لذلك بقيت محدودة جدا رغبة من المشرع في إطلاق يده.

كما استمدّ المعتمد هذا الدور المحوري من كونه مساعدا للوالي في حدود منطقته الترابية والذي ينتفع بدوره بصلاحيات كبيرة، حيث بيّن الفصل 8 من الأمر العلي لـ 21 جوان 1956 أنّ الوالي هو المؤتمن على سلطة الدولة وممثل الحكومة بدائرة ولايته، كما أنه مسؤول على تنفيذ السياسة القومية للتنمية على الصعيد الجهوي. من جهة أخرى فإنّ الوالي بوصفه ممثل الحكومة له سلطة على موظفي وأعوان المصالح الحكومية المباشرين بدائرة ولايته وهو ما عظم من شانه واكسبه سلطات هامة.

وتكريسا لذلك اضطلع المعتمد مند تلك الفترة بمهام واسعة ولم تكن لها حدود وغير مقيدة بنص وكانت له سلطة على مختلف المصالح اللامحورية منها وحتى اللامركزية المتواجدة في دائرته رغم خضوع هذه الأخيرة بالقانون صراحة إلى لرقابة الوالي وفقا للقانون الأساسي للبلديات المؤرخ في 14 ماي1975. فعلى سبيل المثال كان العرف الجاري العمل به في تعيين النيابات الخصوصية في تلك الفترة عند حل المجلس البلدي أن يقوم المعتمد برئاسة تلك النيابات إلى حين تنظيم انتخابات بلدية.
وقد مارس المعتمد هذه الصلاحيات في كل القطاعات الأمنية والثقافية والسياسية والرياضية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية وغيرها.

وقد ساهم هذا الوضع نسبيا في تنفيذ البرامج الوطنية على مستوى هذه الوحدات الإدارية خاصة مع زيادة صلاحيات السادة الولاة بعد النصوص الصادرة في سنة 1989 من خلال حصولهم على تفويض صلاحيات من عدد من الوزارات في مختلف المجالات تدعيما للإدارة اللامحورية. من جهة أخرى اعتمدت السياسة التنموية التونسية على المعتمدية كوحدة تنموية، حيث بنيت العديد من السياسات العمومية في مجالات الاستثمار والتنمية والتشغيل على مؤشرات التنمية حسب المعتمديات وقد تم تكريس ذلك مثلا من خلال مجلة تشجيع الاستثمارات الصادرة في سنة 1993 والتي ضبطت طبيعة وحجم التحفيزات والتشجيعات التي تسندها الدولة لاستحثاث التنمية والتشغيل حسب مستوى التنمية في المعتمديات. فتمّ إيجاد معتمديات تنمية ومعتمديات ذات أولوية في التنمية. كما تدعم هذا التوجه من خلال صياغة الإحصائيات التي يعدّها المعهد الوطني للإحصاء والمؤسسات الحكومية الأخرى على مستوى كلّ معتمدية على غرار نسب الفقر والبطالة والمؤشرات التأليفية للتنمية.

و كان الدور الأمني للمعتمد وخاصة منه الإرشاد من خلال متابعة العمل الجمعياتي وأحزاب المعارضة طاغيا في فترات من تاريخ تونس الحديث، حيث تغلّب في مرّات على البعد التنموي المرتكز على التنسيق بين المصالح الخارجية للدولة على الصعيد المحلي والذي يلعبه رؤساء البلديات في التشريعات المقارنة. ولتكريس مهام التنسيق خاصة في البعد التنموي تمّ إحداث المجلس المحلي بمقتضى القانون عدد 87 لسنـة 1994 المؤرخ في 26 جويلية 1994 وهو مجلس استشاري يضمّ كلّ العناصر الفاعلة في المعتمدية ويهدف بالأساس إلى تقديم مقترحات المواطنين والمساهمة في إعداد المخطط الجهوي للتنمية ويعمل هذا المجلس بصفة قطاعية من خلال 4 لجان قارّة تهمّ :

  1. التجهيز والتهيئة الترابية
  2. الصحة والنظافة والمحافظة على البيئة
  3. التشغيل والشؤون الاجتماعية الاجتماعية
  4. التخطيط والاستثمار

قد تختلف التقييمات لدور المعتمد ومساهمته في التنمية المحلية بين من يعتقد أن المعتمد قام بدور ايجابي في المسار التنموي من خلال قدرته على التنسيق بين مختلف مصالح الدولة (مؤسسات عمومية إدارية، بلديات، أمن …) وفضّ الإشكاليات التي تعطل عملية تنفيذ المشاريع العمومية خاصة المتعلقة بالبنية الأساسية ومختلف المرافق الأخرى أو حتى من خلال تبليغ تطلعات مواطني المعتمدية ومعرفة حاجياتهم في مختلف المجالات الى السلط المركزية.

ويرى البعض الأخر أن مؤسسة المعتمد ليس لها دور كبير في التنمية كما أن عدم ضبط مشمولاتها بصورة دقيقة ساهم في بروز وضعيات تعسف في استعمال السلطة خصوصا مع غلبة الطابع السياسي عليها، حيث اتسمت التعيينات في هذه المناصب بالولاء إلى الأحزاب الحاكمة ولم يعطي عنصر الكفاءة الإدارية وقدرات التسيير المكانة التي يستحقها.

وبعد إصدار الدستور التونسي في سنة 2014 وخاصة الباب السابع منه والمتعلّق بالسلطة المحلية يتساءل كثيرون عن دور المعتمدين في ظلّ هذه التحولات التي سيعرفها التنظيم الإداري التونسي في الفترة القادمة. خاصة أن الفصل 128 من دستور 27 جانفي 2014 نصّ على «تقوم السلطة المحلية على اللامركزية» وهو بذلك رسم ملامح التوجه المستقبلي للبلاد التونسية في التنظيم الإداري والذي يخالف التوجه الذي اتبعته البلاد إبان الاستقلال بتركيز السلط مركزيا واعتماد الهياكل اللامحورية كممثلة للسلطة على الصعيدين الجهوي والمحلي. وتدير هذه الجماعات مهامها في تسيير الشؤون المحلية وفق مبدأ التدبير الحرّ وليست خاضعة إلا للرقابة القضائية اللاحقة وهي ستكون بالضرورة الهيكل المنسق بين مختلف المصالح الخارجية للدولة.

قد يبدو للعيان أنّه في خضم هذه التوجهات قد لا يكون هناك مكان لمؤسسة المعتمد في المشهد الإداري التونسي مستقبلا باعتبار الدور المهم الذي ستلعبه البلدية على الصعيد المحلي خاصة من خلال الصلاحيات التي ستنقل لها تدريجيا، غير أنّ التجارب العالمية في هذا السياق بينت أن مسار تركيز اللامركزية هو من الإصلاحات المؤسساتية المعقدة و التي تتطلب جهدا ووقتا طويلا يمتد على سنوات وقد لا يقلّ عن 15 إلى 20 سنة مع احتمال وقوع انتكاسات أثناء مشوار الإصلاح.

وخلال هذه الفترة الانتقالية سيكون دور المعتمد أساسيا خاصة في المناطق التي كانت غير بلدية وسيشملها التعميم الحضري تبعا للخبرة التي تتمتع بها المعتمدية في تلك الربوع، كما سيظلّ دور المعتمد هاما في المجالات التي ليست من مشمولات البلدية حاليا على غرار التنوير الكهربائي وإنتاج وتوزيع الماء الصالح للشراب والاستثمار والتشغيل وغيرها والتي يصعب على البلديات في الوقت الراهن وبالإمكانيات البشرية الحالية وخاصة نسبة التأطير الضعيفة الاضطلاع بها حتى إن وجدت رغبة من الدولة في التخلي عنها لفائدتها. ويمكن أن تكون الفترة الانتقالية فرصة للمعتمد للاضطلاع بالدور التنموي الذي خلق من أجله على أن يطوّر من وسائل عمله وأدواته بأن يصبح ميسّرا للعمل التنموي في مستوى مرجعه الترابي وأن يكون دوره خلق ثقافة الحوار والتواصل بين مختلف المصالح الإدارية والمواطنين بغية تحسين ظروف عيشهم والنهوض بالتشغيل وخلق بيئة ملائمة للإستثمار. وهو ما يتطلّب أن تخضع التعيينات في المرحلة المقبلة إلى شروط الكفاءة والإلمام بالإجراءات الإدارية والقدرة على التواصل وخلق بيئة حوار باعتبارها من المهارات المهمة في تيسير التنمية المحلية.