تقوم السياسة على مبدأ التضليل وصرف الانظار عن التفاصيل، ولمعرفة المراد اخفائه في زحمة مشهد «تضليلي» عليك الابتعاد قليلا عن الصورة الرئيسية المسوقة، التي تعرضها اليوم المقالات والتقارير الاعلامية ، تلك التي تقدم الاحداث على انها صراع ثنائي بين راشد الغنوشي رئيس الحركة وعبد الحميد الجلاصي نائبه. لكن المشهد باكتمال تفاصيله يعري خدعة الصراع الثنائي. اول تفاصيل المشهد تُستهل بمعرفة موقع راشد الغنوشي في حركته وواقع الصراع الداخلي صلبها. ليس كما الصورة من قريب، فهي تضلل وتقدم الغنوشي على انه زعيم أوحد ووحيد، وعلى أنه صاحب الأمر والنهي في الحركة التي كان من مؤسسيها، لكن واقع الحركة منذ التسعينات مختلف عن الصورة التي تسوقها، حتى وإن كان الواقع يقر للرجل بحسن إمساكه بملفات شائكة لغاية اليوم رغم المد والجزر.
محاولات سحب البساط من تحت أقدام راشد الغنوشي انطلقت من المهجر باحتشام شديد في مؤتمر 2007 حيث طرحت مسألة محاسبة الغنوشي ونقل القيادة إلى الداخل، وتحديدا إلى حمادي الجبالي وعلي العريض ووجوه ذلك الجيل، لكن بفشلها سقطت المناورة لتعود في الأيام الأولى لرجوع «الشيخ» من منفاه بلندن إلى تونس في فيفري 2011، حيث رتب النهضاويون أنفسهم لمرحلة « ما بعد راشد ». مرة أخرى يخير اخوة الجماعة ان يؤجل الحسم إلى مؤتمر جويلية 2012 الذي بدوره أرجأ الملف إلى مؤتمر استثنائي رسمت بعض ملامحه: راشد الغنوشي خارج دائرة القرار في الحركة. ففي المؤتمر التاسع الذي حدد ابرز محاور المؤتمر العاشر، وهي فتح ملف المحاسبة والتقييم واختيار رئيس جديد للحركة عوضا عن راشد الغنوشي، أجبرت التطورات الداخلية والاقليمية النهضاويين على مراجعة هذه الخيارات مرة اخرى وتجنب قسم ظهر الحركة بابعاد «الشيخ» فتغييرت اهداف المؤتمر العاشر من تعويض راشد الغنوشي إلى التمديد له بفترة جديدة في رئاسة الحركة. التمديد الذي بات محل اجماع من الكل، حتى اعتى خصوم الرجل في الحركة، تختلف قرائته من «أخ» إلى آخر، وقد عكست نقاشات اشغال مجلس الشورى في دورته 41 بتاريخ 13 و14 فيفري 2016. هذا البون في قراءة التمديد بين شقوق وتيارات متحركة غير ثابتة على ارضية واحدة، فمواقعها تحددها القضايا والرهانات المطروحة. أحد هذه الرهانات مسألة إحداث توازن بين الهياكل القيادية للحركة يضمن توزيع الصلاحيات بينها: مجلس الشورى، الرئاسة والمكتب التنفيذي. وهنا اصل الخلاف الذي يتخذ اشكالا عدة، فما لا يعلنه قادة من النهضة صراحة، فالخلاف بين تصورات متناقضة للخط السياسي وجد انعكاسه في تصور للشكل التنظيمي والهيكلي للحزب، ومن ذلك البحث عن التقليص من صلاحيات الرئيس الذي لاتزال صلاحياته والجهة التي تنتخبه محلّ نقاشات داخلية. هذه النقشات التي تناولت مسألة من ينتخب الرئيس، مجلس الشورى ام المؤتمر، تناولت أيضا تعيين اعضاء المكتب التنفيذي وطرح نزع هذه الصلاحية عن راشد الغنوشي وجعلها مسألة تحسم بالانتخاب من قبل مجلس الشورى. وفي ذلك اضفاء شرعية الانتخاب على المكتب التنفيذي وجعل عملية التسيير تتم بقيادة جماعية يكون الرئيس فيها عضوا. ويقف خلف هذا التوجه جزء هام من «جيل السجون» وهو جيل وجد حلفاءا في صفوف من يرفضون ان تصبح الحركة حزبا، وهم الدعاة والائمة، حيث غازلهم برفض التخلى عن المرجعية الاسلامية. ومن اجل تحقيق ذلك قرر المحافظون ـ وهم جيل السجون والدعاة ورجال التنظيم ـ ان يخوضوا معركة تموقع داخل التنظيم من أجل ضمان المسك بمقاليده حتى وان كان ذلك يعني الانقلاب على رئيسها راشد الغنوشي. هذا الانقلاب الذي ينفيه الكل تكشفه مقترحاتهم بتطوير الجهاز التنظيمي للنهضة. والانقلاب او الانتفاض على المرشد ومنظر الحركة الاوحد، ليس نزعة شخصية او بحثا عن مواقع بشكل صرف، وان كانت لهذه العناصر اهمية في الفعل السياسي، وانما تمظهر لصراع صلب حركة لا تزال تعيش على وقع «صراع الهوية». لكن «صراع الهوية» أصبح هذه المرة صراعا داخليا. فالنهضة التي تبحث عن فصل السياسي عن الدعوي في مؤتمرها القادم تخوض نقاشا محتدما بين توجهين، الاول يمثله راشد الغنوشي والمحطين به والثاني يمثله جيل التنظيم/الجهاز/ التجربة السجنية، والخلاف بينهما يختزل في كلماتين « موقع الدين ». فبين تصور يريد اصحابه ان يقع التخلي فيه عن جلباب الدين والجماعة وان يكون المؤتمر العاشر مؤتمر تأسيس لحزب جديد اكثر منه تعديلا للخط العام للحركة. ويتقدم أصحاب هذا الطرح راشد الغنوشي الذي يبحث عن ان يكون منظر “الإصلاحيين الجدد” ورائد التجديد الذي يطرح اليوم في النهضة من باب الفصل بين السياسي والدَّعوي نهائيا، أي ان تراجع الحركة مقولاتها جذريا وبالأساس تلك المتعلقة بالمرجعية الإسلامية، وهنا أحد أوجه الخلاف بين شق إصلاحي وشق محافظ. وهذا الخلاف عبّر عن جوهره أحميدة النيفر، في مقال نشره في موقع “ليدرز” بين فيه استحالة المزج بين المرجيعة الاسلامية والعمل السياسي بقوله أن:
سمة المرجعية تُنشئ علمًا ورأيا متجددين يُعيدان بناء المعرفة الدينية المعاصرة وذلك ما لا يستطيعه حزب سياسي أو سلطة حاكمة ولا تُطيقه جماعات الدعوة أيًّا كانت.حزب النهـضة في زمن ”ناقل الريشة“ ، د.أحميدة النيفر
ثم قدّم تصوره المتمثل في انتقال النهضة إلى حزب مدني ”علماني“ يترك الدين لاهله ولا يتناوله حتى كمرجعية. هذا الرأي الذي عبر عنه أحد مؤسسي تيار الإسلاميين التقديميين المنشق عن النهضة في بداية الثمانينات تاريخ اصدار التيار لمجلة 15\21 له امتداده في الحركة اليوم التي ينادي الإصلاحيون فيها بضرورة ان تصبح حزبا يقدم نفسه للمواطنين ببرامج وليس بهوية او مرجعية، وان خياراته السياسية تقاس بآليات المصلحة والنفع وليس بالحلال والحرام وما بينهما. هذا الخلاف في التصورات ولّد صراعا داخليا على التموقع هدفه ترجيح تصور على آخر.
فالمتمسكون بالمرجعية الاسلامية وهم بالاساس ”جيل السجون“ يدركون ان الخلاف بينهم وبين الاصلاحين لا يتعلق بفهم الدين او قراءته وانما بالتموقع السياسي للحركة، وهذا أصل الخلاف في النهضة. فمن خلال الصدام مع راشد الغنوشي والبحث عن تقليص صلاحياته ومحاصرته بمكتب تنفيذي، يراهن ”جيل السجون“ ان يشكل الاغلبية فيه. والهدف هو تعديل ما يعتبره هذا الشق الخط السياسي المنحرف للحركة. فالمحافظون غير راضون عن الخط السياسي الحالي للحركة ولا عن تخليها عن هويتها من اجل الاندماج الكلي في المشهد التونسي. فهم وعلى عكس الاصلاحيين ـ الجيل الثالث، الخط السياسي واغلب المهجريين ـ يرفضون ان يكون ثمن اندماجهم في المشهد ”مهادنة“ المنظومة القديمة للحكم والتخلي عن ثوابت اسست عليها الحركة في بدايتها واقرتها في مؤتمر 1986 وهي اقامة المجتمع الاسلامي والدعوي. ففتحي العيادي وعبد الحميد الجلاصي وعبد اللطيف المكي وعبد الكريم الهاروني و غيرهم يقفون منذ 2013 في الصف المقابل لراشد الغنوشي ويدركون ان منع تثبيت سياسة المهادنة\التوافق يمر عبر تحجيم دور الغنوشي وابعاد الاصلاحيين عن دفة التسير في المؤتمر القادم، كخطوة ضرورية لإعادة تعديل السياسة العامة وفض الارتباط بحركة نداء تونس وكل المنظومة القديمة قبل الانتخابات البلدية لتجنب فرض خيار التحالف معها. مقابل ذلك يصطف الاصلاحيون، كما كانوا في فيفري 2011 خلف تصور يقوم على الاندماج تدريجا في المشهد والانتقال من حزب ديني يميني إلى حزب وسطي محافظ والتحالف مع المنظومة القديمة من اجل ضمان استقرار عملية الاندماج، ويجدون في نجاح التحالف بينهم وبين نداء تونس أنه حقق ثلاث مكاسب للحركة، وهي الإعتراف الداخلي والدولي بـ”التونسة“، وبأن الحركة عنصر اساسي في المشهد السياسي، والمشاركة في الحكم وغلق ملف فترة الترويكا.
هذا هو جوهر الخلاف والتجاذب، لكن لشغل الرأي عنه صدر الصراع الثنائي بين راشد الغنوشي رمز الاصلاحيين وعبد الحميد الجلاصي رمز المحافظيين وقدم على انه صراع يتعلق بمكانة الاسلام في العقل السياسي للحركة. فبنقل الخلافات الداخلية للفضاء العام يهدف الناقل إلى الضغط على الآخر، فالمحاظون يريدون الإستعانة بالقواعد واثارة هاجس الهوية لتعزيز موقعهم في المؤتمر. والاصلاحيون يقدمون الخلاف على أنه حتمية التطور. لكن لا يغفل كلاهما على ان ترجيح كفة تصور على آخر ليس مرهونا فقط بالمؤتمر العاشر وانما بنتائج الإنتخابات البلدية القادمة، حيث سينظر اليها اما على انها تقبلا لما باتت عليه الحركة أو رفض لها.
El khériji, ce gourou monstre élu à vie.
– Ce démon et ses adeptes préparent un nouveau chalumeau pour ressouder ce criminel El Khériji à son siège, à la tête de cette secte mafieuse lors du prochain congrès. Il y sera certainement à vie.
Le temps nous le reconfirmera …
في دولة مثل تونس ، ما دور المرجعيات الفكرية للأحزاب ؟
جميل… على اعتبار أن السياسة لدى السياسيين، هي إبعاد الناس عما يهمهم ، و هذا ما نعايشه عبر المشاهد ، الإعلامي ، السياسي ، النقابي في تونس منذ الثورة . السؤال الذي يطرح، هو تونس إلى أين بعد 5 سنوات من هروب الدكتاتور ؟ حالة التقارب بين النداء و النهضة خدمة مصلحة السياسي الذي لا يعتبر أن السياسية هي بالأولى خدمة أهداف اجتماعية و اقتصادية تمكن المواطن من أكثر عدالة اجتماعية ؟
الكل (الأحزاب في الحكم و في المعارضة ) يتكنبن على الشعب و يوحي له (للشعب ) بأن الإرهاب هو سبب التفقير الممنهج للمواطن . و أن الحلول الكبرى ليس وقتها و لا بد لها من وقت طويل حتى توضع المخططات الكبرى …
شاهدنا خلال الخمس سنوات هروب كل الأحزاب من المعارك الحقيقية (الاجتماعية، و الاقتصادية). و ملجأ الأحزاب التي حكمت و أحزاب المعارضة إلى معركة واحدة ، هي كيف التموقع على الساحة ؟ أما بالنسبة للحكومات منذ الثورة ، حكومة محمد الغنوشي الأولى و الثانية، حكومة السبسي، حكومة حمادي الجبالي، علي العريض، مهدي جمعة ، حكومة الصيد الأولى ثم الحالية فهي على نفس درجة الهروب من خوض المعارك الحقيقية، وهذا (الهروب ) إذا أردنا أن نكون صريحين مع بعضنا و دون مجاملة ، فهو أمر واضح . w لطمس غياب الرؤية لتلك الحكومات كان و لا يزال الالتجاء إلى خيار المديونية هو الضامن الوحيد أو يكاد لصرف شهرية الموظفين في الدولة . أما على مستوى السوق وتوفر المعاش ، لعب الاقتصاد الموازي دور كبير حتى ليضمن هو أيضا موقع لا ينازع في المشهد السياسي و الاقتصادي و حتى في مشاهد الضغط على الحكومة و كأنه شريك قانوني و شرعي في الحكم .
اختلاف المرجعيات الحاكمة خلال الخمس سنوات لم تضع بدايات ملموسة لمسار تحقيق أهداف الثورة الاجتماعية منها خاصة . أما السياسية ، فالحريات لا تزال مهددة ، و ضعف الدولة لا يزال حاضر على الواقع (الأدلة على ذلك كثير : العمليات الإرهابية داخل المدن ، استمرار الاقتصاد الموازي على قدم وساق، أجهزة الدولة نفسها يمكن لها ضرب المؤسسات كلما أرادت في كل حين وكل وقت ، استمرار و استفحال الفساد في دائرة الإداريين العموميين دليل غير مجهول لأحد، الاحتجاجات الأخيرة لنقابات الأمن خير دليل أيضا .
لما تصبح مؤسسات الدولة (دولة الثورة ، دولة الديمقراطية اليوم في تونس ) مهددة من طرف أجهزاتها ، إهتمام السياسي بما يبعد المواطن عن السياسة عن تعمد ، عن أي مرجعيات نتكلم ؟ ما هي مرجعية نداء تونس ؟ حزب أفاق ؟ الوطني الحر ؟ ما وقع المرجعيات على حياة المواطن الفرد و المجموعة ؟ المرجعيات تكون دينية أو فكرية من إنتاج إنساني ، لما لا تؤسس لفكر دولة الاهتمام بالمعارك الحقيقية الاجتماعية و الاقتصادية و غير حاملة لمشروع ثقافي يوحي بأن السياسي فهم أحلام الشعب و أماله في العيش الكريم و الانعتاق من قبضة المهيمن الشرير المحلي و الدولي و أنه (السياسي الحاكم والذي في المعارضة ) لا يتعمد إبعاد المواطن عن الاهتمام بالسياسة ، فئنه كلها تستوي ، و مع الأسف أن نقول هذا. لما المرجعيات لا تؤسس لافكار إقتصاد سياسي جديد ، يكون بمثابة المنقذ من الحلول عبر المديونية و لتأسيس منوال تنمية جديد متواصل مع الذكاء الوطني و العبقريات الوطنية و يمكن له توظيفها … لما يغيب كل هذا عن المرجعيات ، عن أي مرجعيات دينية أو ملحدة نتكلم ؟
لما يكون الدين (بمعنى النص المقدس الذي لا يعصى) هو مرجعية رجل السياسة ، فالدكتاتورية مضمونة ، و العنصرية مضمونة ، و الحروب المتعددة الجنسية أو التسميات مضمونة و لو أن ذلك الدين لم يأمر بها . الحقيقة المطلقة التي تبنى على أساس الدين و تكون المحرك الأساسي المعلن لرجل الدولة تنتج و بدون عناء ثيوقراطية .
لما يكون العداء للدين هو الذي ينتج المرجعية (الحقيقة الحاكمة) نقع كذلك على دكتاتورية تقتل الانسان في ذاته و كرامته، و تجعل منه الجندي و المقاتل في كل مكان.
و التاريخ الإنساني مليء بالأمثلة …
لست أدري هل الشعب اليوم يهمه أمر المرجعيات الحزبية . لكن الأكيد الذي يمكن أن نرقى له و يكون كله إيجابية هو كيف يمكن إبعاد السياسي الذي يعمد على إبعاد المواطن عن السياسة ؟ حتى تكون المعارك الحقيقية هي المعارك الاجتماعية من أجل عدالة اجتماعية و كرامة وطنية. وهكذا يمكن أن نحمي وطننا و المواطن من شرور المرجعيات الدينية و الغير الدينية .
يمكن أن نقول أن الأكيد أننا في حاجة إلى رزنامة قيم جديدة خلاقة يمكن أن نصارع بها كل المرجعيات الحاضرة على الساحة السياسية و التي تعمل مجتمعة رغم تناقضاتها عن إقصاء المواطن من الفعل و المشاركة في إنتاج المستقبل الأكثر أمن ، الأكثر عدل .
في الأخير ، مع الأسف أن الأستاذ النيفر لم يكمل مشواره في التفكير و الفلسفة حتى يذهب إلى أبعد مما وصل إليه في التأسيس لفكر إنساني جديد و مشروع أو بدايات مشروع حضاري جديد… لكن ربما كان السبب شر من شرور إحدى المرجعيات الغير دينية أو المزدوجة أخضعه لواقع (عش يومك و فكر في روحك و لا يهمك الآخر)، من يدري ؟ المرجعيات التي تشيطن التفكير ، الإبداع، الخلق الجديد تقدر على أكثر من ذلك.
تصحيح :
مقال جميل …