portrait-tunisie-entrepreneur-echec

تزامنا مع الحراك الاجتماعي الأخير، نهض الإعلام المُهيمن ليضفي على الأحداث أبعادا جديدة، ينأى بها عن سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية من خلال تضخيم حالات الرعب والخوف والتخريب، وعبر تنشيط الخيال الإعلامي الذي أصبح يبث قصص نجاح وهمية، أبطالها شباب ينحدرون من مدن الهامش التي احتضنت احتجاجات المعطلين.

في هذا السياق استخدم الخطاب الإعلامي السائد حكاية بعض شباب الجامعات الذي يقاوم البطالة باللجوء إلى أعمال هامشية مثل رعاية الأغنام والعمل في حضائر البناء. وقد تناقلت العديد من القنوات حكاية الشابة زينة الكعبي المجازة في الرياضيات التي اضطرتها البطالة القسرية إلى أن تتحول إلى راعية أغنام لتضمن قوتها اليومي.

القصة في ذاتها تعد أنموذجا لمصائر الآلاف من أصحاب الشهادات الجامعية المعطلين عن العمل، الذين وجدوا أنفسهم خارج مخططات التشغيل الرسمية الخاضعة للمحاباة والمحسوبية، حيث كانت الوظائف تُمنَح في إطار شبكة المصالح والولاءات المرتبطة بمنظومة الحكم. ولكن الإعلام المهيمن أدار ظهره قصدا عن هذه الأسباب ليسلّط الدعاية على فكرة رئيسية مفادها أنه بإمكان المفقرين والمُهمشين التعايش مع واقع البطالة رغم مابذلوه من تحصيل علمي، وقد استرسل في نسج القصص التي تسرد نجاح العديد من شبان الدواخل في بعث المشاريع الخاصة دون تعويل يذكر على الدولة.

قصص النجاح الوهمية تخفي وراءها الكثير من الصعوبات والعوائق التي يصطدم بها أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل أثناء التفكير في بعث مشاريع خاصة، مسار إداري مُعقد تتخلله الكثير من الإجراءات والوثائق التي لا يتحملون نفقاتها، علاوة على عدم جدية المؤسسات المعنية بهذا الملف في الاقتراح وتوجيه الشباب الباحث عن الخلاص من الفقر والبطالة.

توفيق الزايدي وعمر العكرمي والصادق معيزة و وفاء اللومي أربعة من مئات الشباب التونسي الذي انخرط في آليات بعث المشاريع الخاصة التي وضعتها الحكومات المتعاقبة. سعى كل منهم إلى مقاومة البطالة من خلال التقدم بمشاريع إلى السلط المعنية بغية الحصول على دعم ومرافقة. ولكن الأمور تجري في الواقع عكس ما يصوره الإعلام المهيمن، وفيما يلي يسردون مسيرة محفوفة بالعراقيل والمتاعب…

توفيق الزايدي : الطريق من الأستاذية في الفيزياء إلى تربية المواشي

توفيق الزايدي، شاب أصيل منطقة حاجب العيون من ولاية القيروان يبلغ من العمر 29 سنة، مُعطَّل عن العمل منذ أن تحصل على الأستاذية في الفيزياء سنة 2010 بكلية العلوم بقابس.

بعد رحلة التحصيل الجامعي الشاقة اصطدم توفيق بواقع البطالة الذي يلتهم الآلاف من أصحاب الشهادات الجامعية. ورغم أنه كان مترددا طيلة سنوات البطالة الأولى في بعث مشروع خاص نظرا للتعقيدات الإدارية وتدهور الأوضاع الاقتصادية بالبلاد، فإنه اتصل العديد من المرات بمكتب التشغيل لمساعدته على الانخراط في مبادرة بعث المشاريع الخاصة، لكنه لم يظفر بمساعدة جدية.

إثر محاولات عدة في الحصول على مقترحات من مكتب التشغيل، تقدمتُ سنة 2015 بدراسة مشروع تربية أغنام للمدير الجهوي للتشغيل والتكوين المهني بالقيروان، ولكن المدير أفادني أنهم لا يموّلون مشاريع فلاحية.

هكذا يصف توفيق الصعوبات الأولى التي اعترضته أثناء رحلة البحث عن مخرج من مأزق البطالة، مُشيرا إلى أن تربية الأغنام كان المشروع الوحيد الذي بالإمكان إنجازه في المنطقة الفلاحية التي يقطن بها.

إجابات المدير لم تقنع أستاذ الفيزياء فَعاود الاتصال بالإدارة الجهوية للتشغيل بالولاية مرات عديدة، الأمر الذي جعل المدير يتراجع عن موقفه الأوّل ويتصل برئيس خلية البنك التونسي للتضامن بالقيروان لمساعدة توفيق في انجاز مشروعه.

بعد الظفر بموافقة الإدارة اصطدم توفيق بالمسار الإداري المُعقّد، الذي ينطوي على الكثير من الإجراءات والوثائق. واشترط عليه البنك التونسي للتضامن أن يُلحِق ملف المشروع بشهادة تكوين في اختصاص تربية الماشية. وللحصول على هذه الشهادة يصف توفيق رحلة البحث عن مركز للتكوين الفلاحي قائلا:

عندما طُلِبت مني هذه الشهادة عاودت الاتصال بالمدير لمساعدتي على القيام بتكوين مستعجل بأحد المراكز الفلاحية فأجابني بأنه لا يعرف أي منها، حينها قررت رحلة البحث منفردا وجُبت معظم المراكز الموجودة بالبلاد، في مدنين وسبيطلة وسيدي بوزيد ومركز الفلاحة بالقصرين والوسلاتية وسيدي بورويس، دون جدوى، وكانت الحجة التي يرددها القائمون على هذه المراكز أنه لا يوجد العدد الكافي من طالبي التكوين.

استقرت رحلة البحث في المركز الفلاحي بالوسلاتية بالقيروان إثر اتصال أجراه الوالي بمدير المركز، وبعد الحصول على شهادة تكوين في تربية المواشي تقدم توفيق بملف للبنك التونسي للتضامن، ومازال إلى حد الآن ينتظر إشعارا بالموافقة على الملف لينطلق في إنجاز المشروع.

عمر العكرمي : فكرة بلا أجنحة

عمر العكرمي، شاب أصيل ولاية قفصة يبلغ من العمر 28 سنة، درس الجيولوجيا والبيولوجيا في كلية العلوم بقابس سنة 2007 ثم اختار تغيير الوجهة ليدرس الإلكترو ميكانيك بالمعهد العالي للمنظومات الصناعية بقابس. ولكن عمر لم يواصل دراسته الجامعية وقرر الالتحاق سنة 2010 بأحد مراكز التكوين المهني حيث سجل بالمركز القطاعي للتكوين في الميكاترونيك ببرج السدرية.

بعد سنتين تحصّل عمر على شهادة في الآلية والإعلامية الصناعية واشتغل في عدة شركات. لكنه سريعا ما سئم أن يكون موظفا، فسعى إلى بناء مشروع مقهى مشترك للعمل، وهو فضاء يقدم خدمات للحرفاء الباحثين عن أمكنة هادئة للعمل والراحة ويوفر لهم المستلزمات الأساسية مثل أدوات الطباعة والحواسيب. وقد بدأ في تنفيذ مشروعه من خلال اقتناء جزء من التجهيزات وتأجير فضاء في تونس العاصمة.

وجدت صعوبات مالية أثناء تهيئة الفضاء ولم أستطع استكمال بقية التجهيزات اللاّزمة، فتقدمت سنة 2015 بمطلب  للبنك التونسي للتضامن وبنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة بغية تمكيني من قرض، ولكن لم يتم إلى حد الآن دراسة الملف الذي تقدمت به، فاضطررت إلى غلق الفضاء والعودة إلى قفصة لأنني لم أعد قادرا على تأمين معلوم الكراء.

هكذا يلخص عمر العكرمي عجزه عن استكمال ما بدأه بسبب انعدام الإسناد والإمكانيات. مشيرا في نفس الوقت إلى أنه حاول الاستنجاد بالجمعيات المانحة للقروض الصغرى ولكنه لم يلمس تجاوبا من قبلها.

اختنق عمر تحت ركام الإجراءات والوثائق الإدارية المُعقدة، واضطر في بعض الأحيان إلى دفع رشاوى طائلة للموظفين بلغت قيمتها 1600 د. وفي هذا السياق يذكر عمر الابتزاز الذي تعرض إليه خلال شهر رمضان الفارط من قبل رئيس النيابة الخصوصية بحي الخضراء بالعاصمة، حيث طلب منه هذا الأخير مبلغا قيمته 50 د مقابل تسوية عقد كراء قانوني للمحل الذي أجّره. وقد أضاف عمر بابتسامة ساخرة “استقبلني رئيس النيابة الخصوصية في مكتبه وطلب مني المبلغ المذكور، ومن الصدف أنه كان بحوزتي 40 د فقط، ولكنه أصر على نيلها مني رغم أنه كان يدرك أنني معطلا عن العمل”. وفي فترة لاحقة طلب منه أحد أعوان القباضة المالية 30 د رشوة مقابل تسوية إجراء مالي. وتعددت المحطات التي تعايش فيها مع متطلبات الموظفين المجحفة، إذ يشير في هذا السياق:

لم أكن راض على الرضوخ لابتزازات الموظفين لأنني أدرك أنها ممارسات غير قانونية، ولكنني أُجبِرت على القيام بها لأنها محددة في تسهيل المشروع، وأصبحت مقتنعا بعدها أن النجاح في تونس استثناء وطريقه يمر عبر النفوذ والرشوة.

الصادق معيزة : العمر المسروق

واجهت الكثير من العوائق لأنني لم أكن رجل أعمال ثري.

هكذا يلخص رجل الخامسة والأربعين مسيرة السنوات العشر التي قضاها بين المكاتب الإدارية والبنوك العمومية والخاصة. كان الصادق معيزة شاب ثلاثنيّ ، عندما فكّر في بعث مشروع مصنع لتعليب زيت الزيتون ذو جودة عالية. وقد خطرت له الفكرة بعد تجربة خاضها في ميدان تسويق الأغذية الزراعية بتونس، وتفطّن أثناءها إلى أن الاستثمار في هذا المجال يقع خارج اهتمامات رجال الأعمال، وكانت تونس أيضا تصدر 1 % من إنتاج زيت الزيتون سنة 2007.

كل هذه العوامل جعلت الصادق يتحمس للمضي في إنجاز مشروعه الخاص الذي علق عليه آمالا كثيرة، ولكن طريقه كان محفوفا بالمصاعب. يواصل قائلا:

كانت الدولة تدّعي مساعدتها للشباب الراغبين في انجاز مشاريع خاصة من خلال تسهيل حصولهم على قروض عبر توجيههم إلى بنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة، ولكن في الحقيقة كان هذا البنك يشترط علينا تقديم ضمانات مُجحفة والتمتع بقروض من بنوك أخرى.

بعدها تم توجيه الصادق إلى بنك الإسكان للحصول على قرض تكميلي يمكّنه من فتح مصنع تعليب زيت الزيتون، و في البنك المذكور اصطدم الصادق بتعدد الإجراءات والوثائق الإدارية التي استغرق استكمالها أكثر من سنتين، أُهدِر فيها الكثير من الوقت وانقضت مواسم صابة الزيتون والرجل مازال ينتظر على عتبات المسؤولين.

رغم أن الدراسة كانت دقيقة وحظيت بالموافقة من طرف البنك فقد أُجبِرت على الاستثمار في منطقة نائية، معتمدية الكندار (التي تقع على الطريق الرابطة بين النفيضة والقيروان)، لأن الاستثمار في هذه المناطق يندرج في إطار تلبية الشروط التي يفرضها البنك الدولي على الدولة التونسية. وتمتعت أيضا بالقرض في شكل أقساط الأمر الذي لم يسمح بتكوين رأسمال لتطوير نشاط المصنع.

هكذا يصف الصادق البداية المتعثرة التي فُرِضت عليه مشيرا إلى أن المدير الجهوي لبنك الإسكان قال له ذات مرة «أنا من يتحكم في مصير مشروعك» وذلك لإجباره على دفع الرشوة مقابل الحصول على قرض كامل دون أقساط. وفي نهاية المطاف وجد الصادق نفسه في مواجهة مصير إغلاق المصنع لأنه أصبح يدور في فلك تسديد الديون وتلبية مستلزمات المصنع دون تحقيق أرباح.

وفاء اللومي: النجاح المستحيل

بعد حادث مرور خطير، وجدت فتاة الثانية والعشرين ربيعا نفسها مُقعدة، فاضطرت إلى التخلي عن دراستها الجامعية في اختصاص هندسة الإلكتروميكانيك. وعندما طالت بها سنوات العَطَالة قررت وفاء اللومي، أصيلة ولاية صفاقس والبالغة من العمر 34 سنة، الخروج من هذه الحالة والتفكير في إنجاز مشروع خاص يتماشى مع مؤهلاتها الصحية.

كان التطريز الإلكتروني الأقرب إلى ميولاتها فتقدمت بمطلب للحصول على قرض من البنك التونسي للتضامن تبلغ قيمته 18 ألف دينار، وبعد أن حظيت بالموافقة الأولية أدركت في الأشهر القليلة التالية أن الإجراءات المعقدة التي تضعها الدولة لا تشجع فعلا على بعث مشاريع صغرى. هذه الحقيقة تسردها وفاء قائلة:

عندما فكرت في التطريز الالكتروني التحقت بمركز التأهيل المهني للقاصرين عن الحركة العضوية والمصابين بحوادث الحياة بقصر السعيد، كان من المفروض أن أحصل بمقتضى شهادة التكوين المهني على عدة امتيازات من بينها مساعدة مالية للمشروع من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية بنسبة 10 بالمائة وقرض من البنك التونسي للتضامن ومنحة شهرية تبلغ قيمتها 200د، ولكن لم أظفر بشيء من هذه الامتيازات التي يتم الترويج لها من طرف مسؤولين في الدولة.

لكن بالمقابل وجدت نفسها مطالبة بدفع مبالغ متفاوتة للبنك، 1093 د تمويل ذاتي و 440 د معاليم لدراسة المشروع و 224د مساهمة للبنك لانتشاله من الإفلاس، علاوة على أن إدارة البنك عمدت إلى رهن مرتب والدها المعلم المتقاعد كضمانة لتسديد دين القرض. ومع كل إجراء تزداد الأمور تعقيدا لأنها وجدت نفسها في كل مرة مضطرة لتسديد الأداءات التي لا تنضب.

علاوة على هذا تعرضت وفاء اللومي إلى التمييز الرسمي نظرا لإعاقتها، وللدلالة على هذه الممارسة تروي حادثة تعرضت إليها شهر جويلية الفارط.

الإدارة الجهوية للشؤون الاجتماعية بصفاقس حرمتني من منحة 200 د يتمتع بها باعثي المشاريع الصغرى الذي يشاركون في دورات تكوينة، وقد تم اتخاذ هذا القرار من طرف الموظفين لأن حصص التكوين كانت تنتظم في الطابق الأول لإحدى البنايات، لذلك تم شطب اسمي من القائمة لأنني لا أستطيع صعود المدرج بحكم الاعتقاد، ولم يكلف أنفسهم عناء البحث عن حل أو إعلامي بهذا الإجراء مسبقا.