الحنين إلى النظام السابق ما فتأ يكسب النقطة تلو الأخرى. مدعوما بترسانة اعلاميّة مسكونة بهاجس أمنيّ أعمى، تنتشر الظاهرة دون حياء مع كلّ عملية ارهابيّة. اليوم، يتمّ تصوير زمرة بن عليّ على أنّهم مجموعة من “الصحفيّين الجهابذة” الذّين ترتّب عن غيابهم “خسارة فادحة” للساحة الاعلاميّة. وصلت الأمور إلى حدّ تمجيد عبد الوهاب عبد الله. كلّ هذا يتمّ على أساس شبكة من العلاقات والمحسوبيّة التي تسعى لإعادة تموقع اللوبي البنفسجي.
“عندما كان بن علي في المنفى، فرّج الله كربه…”، هذه الجملة الصادرة عن الناطق الرسمي للحكومة خالد شوكات، أثارت موجة كبيرة من الاحتجاجات على مواقع التواصل الاجتماعي. يضيف هذا الأخير في البرنامج الإذاعي “ميدي كالي” على إذاعة إي أف أم، يوم 14 مارس الفارط، وبعد أسبوع من هجوم بن قردان الإرهابي؛ “أنا لا أحترم الأمّة التي تنفي قادتها، ورؤساءها السابقين.” بهذه الكلمات، كانت حملة التعاطف مع بن علي ورموز حكمه، قد بلغت أعلى مستوياتها، في تناقض صارخ مع مقدّمة الدستور التونسي الجديد. لكنّ هذه الظاهرة كانت قد بدأت منذ فترة طويلة من منابر الحوارات التلفزيونيّة.
الثناء على انقلابيّ بن علي
خلال استضافته في برنامج “كلام النّاس” على قناة الحوار التونسي يوم الأربعاء 9 مارس 2016، استغلّ الضيف القّار في برنامج اليوم الثامن، محمد بوغلاّب، الفرصة ليشيد بجمال كرماوي، بعد يومين فقط من هجوم بن قردان. هذا الرجل الذّي لا يعرفه الكثيرون، لم يكن سوى الرئيس الغير شرعي للنقابة الوطنية للصحافيّين التونسيّين بين أوت 2009 وجانفي 2011.
قبل سنوات قليلة من الثورة التّي كنسته، تم تعيين هذا الرجل من قبل زمرة بن عليّ على رأس النقابة الوطنية للصحافيين التونسيّين، خلال مؤتمر استثنائي سنة 2008، للإطاحة بالصحافي المتمرّد ناجي البغوري والذّي كان يترأس النقابة حينها. هذا الانقلاب الذّي دبّره قبل النظام كان هدفه كسر هذه المنظمة التي قاومت القبضة الحديديّة للسلطة على وسائل الإعلام.
“الصحافة التونسيّة لم تخسرني، بل خسرت جمال كرماوي. عار أن يكون صحافي بمثل قيمته على هامش الساحة الاعلاميّة. أمّا الذّين هم في الصدارة اليوم، فهم ليسوا أكثر ثوريّة منه.” كان هذا تعقيبا من بوغلاّب على زميله لطفي العماري، أحد منشّطي الحصّة، والذّي أبدى أسفه لعدم قراءة مقالات لمحاوره في الصحافة المكتوبة. العماري بدوره لم يفوّت الفرصة قائلا، “نحيّي صديقنا”، ليستطرد ؛ “انت تعرف ما الذّي قمت به لإعادة كرماوي للصحافة المكتوبة.” ثم يأخذ هذا الأخير الأمر بأكثر جديّة ويضيف؛ “لقد استقدمته إلى الحقائق، قلمه ممتاز. شيء مؤسف أن يتم تهميش العديد من الطاقات نتيجة هذه الرياح الثورية الزائفة فتحرم منهم البلاد. أنا متأكّد أنّ جمال وغيره سيعودون للكتابة وسيدهشون قرّاءهم. فنحن بأمسّ الحاجّة اليوم إلى أقلام جمال وغيره.”
في هذا المقطع بالذات من الحصّة (بين الدقيقة 41 والدقيقة 42)، بات جليّا أنّ الزمالة والصداقة سُخّرت حتّى لتبرير موقف معاد للثورة.
تلاميذ عبد الوهّاب عبد الله وفخورون بذلك
على الرغم من تواجد مريدي وأنصار الطاغية في مختلف المراكز والمنابر الاعلاميّة، إلاّ أنّ الاتجاه السائد حتّى سنة 2014، كان يقضي باقصاء رجال بن عليّ وصنّاع دعايته. معطى الإرهاب، منح لهؤلاء الثغرة التي استغلّوها للعودة من جديد إلى الشاشات وكسر العزلة المفروضة عليهم. أحد أبرز الأمثلة عن الانقلاب الجذريّ في التعاطي مع هؤلاء هو برهان بسيّس. بوق دعاية بن علي، ومخبر جهاز أمنه، ومستشار سليم الرياحي، تحوّل اليوم إلى منشّط تلفزيّ على قناة نسمة.
خلال استضافته في برنامج “لاباس” على قناة الحوار التونسي في 03 أكتوبر 2015، عبّر هذا الأخير عن فخره بصداقته مع علي السرياطي، مدير الأمن الرئاسي السابق بين سنوات 2001 و2011، ومدير الأمن الوطني منذ سنة 1991، والتّي شهدت انطلاق حملات القمع الكبرى ضدّ المعارضة. ليقول حرفيا في المقطع بين الدقيقة 38 والدقيقة 40؛ “لقد كنت أنصت اليه باهتمام خلال لقاءات مميّزة جمعتني وإياه”. بعد ذلك جاء دور آخر صقور بن علي؛ عبد الوهّاب عبد الله الذّي أحكم طيلة سنوات قبضة النظام على الإعلام وكان المسؤول الأوّل عن حملات التضليل، والذّي تقلّد حتّى آخر أيّام بن عليّ منصب مستشار الرئيس للشؤون السياسيّة.
يضيف برهان بسيس متحدّثا عن أستاذه «أنا أحترمه. وأكنّ له الكثير من التقدير”، مضيّفه نوفل الورتاني الذي لم يفوّت الفرصة ليسأله قائلا:” أنت دائم الاتصال به؟ هل ما زلت تقابله؟” فيجيب بسيّس؛ “بالطبع، أكثر من ذي قبل”، هذا التلميذ المزهوّ بعلاقته مع سيده. دخل بعدها في خطبة عصماء للدفاع عنه ودغدغة مشاعر المشاهدين قائلا: “انّه يتألّم، فبعد أن خدم البلاد لمدة 50 سنة. بعد سقوطه، يجد اليوم نفسه ضمن قائمة ممن صودرت أملاكهم، ومع أسماء عقدت الصفقات الضخمة وربحت المليارات. بينما لم يخرج هو من هذا العالم إلاّ ببيت وقطعة أرض في المنستير، والتي يتم مصادرتها هي الأخرى اليوم. انّه من الظلم أنّ يتم الزجّ بأسماء أربعة من وزراء بن علي كانوا مجرّد موّظفين في القطاع العامّ في قائمة من الذّين تمّت مصادرة ممتلكاتهم وأصولهم”. ليتابع برهان بسيّس قائلا: “فليكن الله في عونه في هذه المحنة التي يجتازها اليوم”.
إذن لم تنقطع العلاقات بين عبد الوهاب عبد الله وتلاميذه، ومن بينهم سمير الوافي. هذا الأخير الذّي كان ضيف برنامج “ميدي كالي” على إذاعة إي أف أم، يوم 17 سبتمبر 2015، أجاب دون تحرّج حين سأله منشّط الحصّة معز التومي عن أوّل من اتصّل به بعد خروجه من السجن؛ قائلا: “أنا لا أريد أن أزعجه. انه عبد الوهاب عبد الله، فشكرا له “.
نفس الذين قللّوا من ظاهرة التطرف وعتّموا على الهجمات الإرهابية في عهد بن علي يعودون الآن إلى استدعاء عصره كمثال للأمان. مستفيدين من حملات التضليل، يتجاهل هؤلاء الهجمات الارهابيّة المسجلة في ظل النظام القديم. والتي اسفرت عن عشرات الضحايا على غرار تمغزة في فيفري 1995 وهجوم جزيرة جربة في أفريل 2002 وسليمان في جانفي عام 2006.
نحن أمام ماكينة لها كل القدرات الأدبية و المالية و الفنية … و خاصة لها من يسمح لها أن تكون على البلاتوات التلفزية و الاذاعية … إرادة الرجوع إلى الوراء موجودة … ثم الارهاب يسمح لها موضوعيا أن تكون في المقدمة … و كل هذا نتيجة عجز الحاكم “الجديد ” على تقديم الحلول المناسبة لمشاكل البطالة و التنمية عامة … على الشعب عبر مجتمعه المدني أن يلعب دور المقاوم في التصدي لعودة تونس إلى أيام الظلام و التعتيم و القهر … نشر ثقافة الديمقراطية هو مهمة كل الأحرار …