إنّ الجهود للقضاء على معضلة التهريب، عبر التعاطي الأمني البحت، أثبتت عقمها نظرا لتواصل نشاطات المهرّبين عبر الحدود والذّين يستفيدون من الواقع الاقتصاديّ المتدهور للمناطق الحدوديّة والتي وإن أثبتت موقفها الحاسم ضدّ الإرهاب، إلاّ أنّها لم تجد بديلا عن مزاولة هذا النشاط من أجل لقمة عيش لم تتمكّن الدولة من توفيرها. ولكنّ التهريب ليس سوى جزء من منظومة اقتصاديّة متكاملة نمت طيلة سنوات في الظلّ. وما التركيز على هذا النشاط دون غيره سوى محاولة لحجب مشاكل أعمق وأخطر على الاقتصاد الوطني لا على الحدود فحسب، بل في قلب المدن والمناطق الصناعيّة.

ملياري دينار خارج رقابة الدولة

لم يكن التهريب وليد الثورة، حيث غزت المنتجات المهرّبة على غرار الوقود والإطارات والألعاب والمنتجات الغذائيّة وغيرها من السلع الاستهلاكيّة الأسواق التونسيّة قبل جانفي 2011 بسنوات. إذ عمد النظام إلى غضّ الطرف عن نشاطات المهرّبين ما دامت لم تتجاوز الخطوط الحمراء (كالسلاح) وخاضعة لإشرافه. كما مثّلت هذه النشاطات متنفّسا لأهالي المناطق الحدوديّة على الصعيد الاقتصاديّ وبديلا عن الاقتصاد الرسميّ الذّي عجز عن استيعابهم.

لكنّ هذه الظاهرة تفاقمت بعد 14 جانفي 2011، نظرا للعديد من العوامل الأمنيّة والسياسيّة ليشمل التهريب السلاح والأفراد ولتتحوّل المسألة من مجرّد متنفّس لتخفيف وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة لأهالي المناطق الحدوديّة إلى اقتصاد متكامل تحت الظلّ.

في هذا السياق، كشفت دراسة صادرة عن البنك الدولي في ديسمبر 2013، عن حجم هذا النشاط وارتداداته على الاقتصاد الرسميّ. حيث يعمل على سبيل المثال أكثر من خمس سكّان بن قرادان النشيطين والبالغ عددهم 19 000 نسمة، في مجال التهريب. وهو ما يعكس حجم انخراط مواطني المناطق الحدوديّة في هذه النشاطات.

وتشير الدراسة المذكورة أنّ عمليات التهريب تستعمل بالأساس أسطولا يتجاوز 1500 سيّارة نقل خفيفة ومتوسّطة، تنقل ما يقارب المليون طنّا من السلع المهرّبة سنويا بين تونس وجارتيها الجزائر بأرباح جملية تناهز الملياري دينار سنويا. وفي المقابل، تتكبّد الدولة سنويّا خسائر جمركيّة ضخمة بلغت حسب التقرير الصادر عن البنك الدولي سنة 2013 قرابة 500 مليون دينار.

الملاحظة الأهمّ التي أوردها التقرير وأكّدتها الدراسة الصادرة عن مؤسسة جسور للسياسات العامة، هي التفاوت الهائل بين نشاطات التهريب على الحدود الجزائرية ونظيرتها على الحدود مع ليبيا. فالنزيف الأكبر من عمليات التهريب يتم بحسب الدراستين عبر الحدود الجزائريّة، حيث يتم من هناك تمرير أكثر من 80% من المحروقات والتبغ إلى الداخل التونسيّ. وتعتبر هذه السلع الأكثر تداولا في عمليات التهريب، حيث تمثّل مرابيحها نصف العائدات الجمليّة للمهرّبين والمقدّرة بملياري دينار سنويّا.

اقتصاد الظلّ

التجارة الموازية، أو الأسواق الموازية وغيرها من النشاطات المرتبطة بالتهريب، وإن حرمت الدولة من عائدات مهمّة خصوصا على صعيد الآداءات الجمركيّة، إلاّ أنّ مشاكل الاقتصاد التونسيّ لا تتوقّف فقط عند هذه المعضلة. إذ كشف تقرير صادر عن مركز جسور للسياسات العامّة في شهر فيفري 2016، أنّ التهريب جزء من منظومة اقتصاديّة ضخمة تنشط في الظلّ وتشمل في جزء منها ما يعرف بالاقتصاد المهيكل، وفي أغلبها ضمن ما يُسمّى بالقطاع غير المهيكل.

وتقسّم هذه الدراسة النشاط الاقتصادي والتجاريّ إلى صنفين؛ الأنشطة المشروعة والتي تشمل القطاع المهيكل الذّي يضّم المؤسسات الاقتصاديّة المعلنة والمهن الصغرى المسجّلة، والقطاع غير المهيكل الذّي يضمّ المؤسّسات الاقتصاديّة غير المسجّلة أو الأعمال الحرّة والمهن الصغرى غير المسجّلة. أمّا النشاطات الغير مشروعة فهي التي تشمل التهريب وتجارة المخدّرات والأسلحة والدعارة.

تبدأ أولى الاخلالات الاقتصاديّة ضمن ما يعرف بالقطاع المهيكل، حيث يشير مركز جسور أنّ المخالفات الاقتصاديّة الأبرز ضمن هذا القطاع تتمثّل في التهرّب الضريبيّ وحرمان العاملين من حقوقهم الاجتماعيّة ومخالفة الحدّ الأدنى للأجور، دون وجود رقابة حقيقيّة لحماية هؤلاء، وتذهب الدراسة على حدّ نعت هذه النشاطات “بالاقتصاد الخفيّ” (Activités dissimulées).

ولا يمكن تقدير الحجم الحقيقي للمعاملات داخل القطاع المهيكل نظرا لغياب التصريح الدقيق عن حجم الأرباح.

القطاع غير المهيكل بحسب الدراسة المذكورة يعتبر الأهم من حيث حجم المعاملة والمساهمة في الناتج المحليّ الخام. وتضمّ هذه الفئة المؤسّسات الصغرى غير المسجّلة، والمشاريع ذات الطاقة التشغيليّة المتدنيّة التي لا تتجاوز 6 افراد، إضافة إلى أعمال البناء والحضائر والمشاريع الصغرى الناشطة دون أصل تجاري. حيث يبلغ عدد الناشطين في هذا القطاع غير المهيكل حوالي 1766384 موطن شغل سنة 2012، وهو ما يمثّل تقريبا أكثر نصف العاملين في القطاع الخّاص.

هذا وتكشف الاحصائيّات المنجزة لسنة 2012 حول وضعيّة التجارة الداخليّة، أنّه ورغم تفوّق القطاع المهيكل على نظيره غير المهيكل في على مستوى قيمة الاستثمارات بنسبة 80% والقيمة المضافة بنسبة 58% تقريبا، إلاّ انّ هذا الأخير تميّز بمردوديته التشغيليّة الكبيرة، حيث استطاع خلال تلك السنة توفير 309320 موطن شغل مقابل 93180 وظيفة في القطاع المهيكل. ويتسبّب القطاع غير المهيكل في الأنشطة التجاريّة بخسائر سنويّة للدولة تقدّر ب220 مليون دينار من الضرائب على القيمة المضافة غير المستخلصة.

وفي المقابل، فإنّ تأثير القطاع غير المهيكل، يبدو محدودا بالنسبة لمجال الصناعات التحويليّة. حيث لا تتجاوز قيمة الاستثمارات ضمن هذا القطاع 2%، كما لم يسهم سوى ب21% من مواطن الشغل المحدثة من جملة 602 ألف موطن شغل في هذا المجال.

ولكنّ ثقل القطاع غير المهيكل إجمالا يبرز من خلال متابعة تطوّر مساهمته في الناتج المحليّ الخّام. حيث يوضّح التقرير الصادر عن مركز جسور أنّ اجمالي مساهمة الأنشطة الاقتصاديّة غير المهيكلة في الناتج المحليّ الخام تجاوزت 35% سنة 2012. كما أنّ نموّ نصيب هذا القطاع من الناتج المحليّ يتمّ بنسق أسرع وأكثر ثباتا مقارنة بالقطاع المهيكل. وهو ما استخلص منه التقرير الدور الاستثنائيّ الذّي يلعبه “اقتصاد الظلّ” في التخفيف من آثار الأزمات الاقتصاديّة وتجنّب حدوث حالة من الاختناق والاحتقان الاجتماعيّ خلال فترة تدهور الاقتصاد المهيكل، على غرار ما حدث سنة 2011، حين استطاعت الأنشطة الاقتصاديّة غير المهيكلة الحفاظ على حدّ أدنى من النموّ ب2% في حين انهار القطاع المهيكل إلى ما دون 1.9-%.

يمكن أن نستخلص أنّ نمو الاقتصاد غير المهيكل يرجع إلى خيارات اقتصادية متخلفة وسياسات اجتماعية تعسفيّة على حساب الطبقات الضعيفة، إضافة إلى نقص الأطر المؤسسية وغياب استراتيجيات واضحية للتنمية العادلة بين جميع القطاعات والجهات. ورغم الارتدادات السلبيّة ل”اقتصاد الظلّ”، وأهمّها حرمان الدولة من إيرادات الضرائب والآداءات، إلا أنّ محاصرة هذه الأنشطة الاقتصاديّة على المدى القريب يبدو صعبا للغاية نظرا لعجز الدولة عن تقديم البدائل واستفادتها ظرفيا من المتنفّس الذّي يمنحه هذا القطاع على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. غير أنّ الخطر يكمن في تحوّل هذه النشاطات من دورها التنفيسي إلى دور تخريبيّ كما كشفته مخازن السلاح التي تم العثور عليها بعد العملية الإرهابية في بن قردان.