يمكن اعتبار مارس 2016 من أكثر الأشهر دموية في السنوات الأخيرة، فقد سجّل العديد من العمليات الإرهابية التي امتدت من باكستان جنوب القارة الآسيوية، مُرورا ببروكسيل في قلب القارة الأوروبية، وصولا إلى بن قردان جنوب شرق تونس. وقد راح ضحية هذه العمليات -المختلفة الأهداف والأساليب- مئات الأبرياء من بني البشر، تُقدر أعدادهم حسب البيانات الرسمية بـ304 قتيل وحوالي 867 جريح.

لوّنت مشاهد الدم والأشلاء المتناثرة أكثر من مكان في العالم، وهو ما بات يطلق عليه المتابعون ”الإرهاب المُعولم“. وتعد هذه الظاهرة الأكثر تعقيدا، إذ تشتبك فيها الأهداف الخاصة للتنظيمات الإرهابية التي تقاتل باسم “الإسلام” مع السياقات الدولية والإقليمية المتحولة.

جغرافيا الإرهاب خارج السيطرة

12 عملية إرهابية توزّعت على ثلاث قارات، آسيا وأوروبا وأفريقيا، ورغم فظاعة ولا إنسانية الكثير منها فإن تفجيرات بروكسيل، التي جدت يوم 22 مارس 2016 وراح ضحيتها 34 قتيل و170 جريح حسب ما أعلنته السلطات البلجيكية، جذبت إليها اهتمام الرأي العام العالمي. ويُمكن أن يُفهَم هذا الانجذاب على ضوء هيمنة النزعة المركزية في الإعلام الغربي، علاوة على أن هذه العمليات تضرب سكينة الغرب في عقر داره من حين إلى آخر، نظرا إلى أنها تحدث خارج مناطق الاقتتال المعهودة في المنطقة العربية على غرار سوريا والعراق واليمن وإلى حد ما تونس.

هذه العملية تبنّاها تنظيم الدولة الإسلامية ”داعش“، وهي تعتبر ثالث العمليات التي تهز قلب أوروبا بعد عمليتي فرنسا، 7 جانفي و13 نوفمبر 2015. ورغم أن الغرب يُدرَج في فكر التنظيمات الجهادية ضمن ”دار الكفر الأصلي“ التي يجب فتحها بقوة السلاح، فإن تفجيرات بروكسيل تندرج في سياق أشمل، يتعلق أساسا بتحول جغرافيا الإرهاب الجهادي على ضوء الموازين الإقليمية الجديدة التي تشهدها المنطقة، والتي تتسم أساسا بانحسار نفوذ تنظيم الدولة ”داعش“، خصوصا في سوريا التي استعاد فيها نظام الأسد العديد من المناطق بمعاضدة حليفه الروسي. ويلوح هذا التحول الجغرافي خارج سيطرة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية التي اضطرت إلى تغيير استراتيجياتها الداعمة للتنظيمات المسلحة المتمركزة في سوريا منذ سنة 2011 خشية على مصالحها ومصالح حلفاءها التي أصبحت هدفا لقادة التوحش الذين سيطروا على مساحات شاسعة في العراق وسوريا مطلع سنة 2015.

وتشير العمليات الأخيرة إلى أن تركيا، التي كانت من أكبر الداعمين في المنطقة للجماعات الإرهابية من أجل إسقاط نظام الأسد، أصبحت من أكبر المتضررين حيث شهدت خلال شهر مارس 2016 تفجيرين متتاليين، جد الأول في منطقة كيزلاي التجارية وسط العاصمة التركية أنقرة يوم 13 مارس 2016 باستعمال سيارة مفخخة، وقد راح ضحيته 37 قتيل و125 جريح. أما العملية الإرهابية الثانية فقد وقعت في منطقة للتسوق والسياحة وسط اسطنبول، حيث عمد انتحاري إلى تفجير نفسه وسط شارع الإستقلال، وهو ما أسفر عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 36 بجروح، معظمهم من حاملي الجنسيات الأجنبية من بينهم إيرانيين وإسرائيليين. وقد كشفت وزارة الداخلية التركية عن وقوف تنظيم ”داعش“ وراء هذا التفجير.

من مواجهة الأنظمة إلى استهداف المدنيين

لئن أظهر تنظيم ”داعش“ قدرات قتالية فائقة في مواجهة النظامين السوري والعراقي خصوصا من خلال الدعم اللوجيستي والعسكري الذي تلقاه من الغرب وبعض دول الخليج وتركيا، فإن تحول موازين القوى إثر التدخل الروسي العسكري لترجيح الكفة لصالح نظام الأسد جعل هذا التنظيم يراجع أساليبه وأهدافه بعد الخسائر التي تكبدها في المواجهات المسلحة المباشرة. ويلوح من خلال قراءة الحصيلة الإرهابية لشهر مارس 2016 أن ”داعش“ ركز أهدافه على النقاط التي يحتشد فيها المدنيين على غرار الأسواق التجارية والسياحية والمطارات وملاعب كرة القدم ونقاط التفتيش الأمنية التي تصطف فيها سيارات المدنيين، على غرار العملية التي جدت بمدين الحلة العراقية في 6 مارس 2016 حيث استهدفت شاحنة مفخخة نقطة تفتيش أمنية وأسفرت عن مقتل 47 من بينهم 27 مدنيا، وإصابة 72 آخرين بجروح.

ولعل تحول الأهداف رافقه تحول في الأسلوب حيث جرت مختلف العمليات التي استهدفت المدنيين باستعمال الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، وعادة ما يضفي التنظيم على هذه العمليات صبغة طائفية على غرار التفجير الانتحاري الذي استهدف ملعبا لكرة القدم بإحدى القرى بمدينة بابل العراقية يوم الجمعة 26 مارس 2016، وقد خلفت العملية 26 قتيل و60 جريح من بينهم أطفال، وقد تبنى تنظيم  ”داعش“ هذا الهجوم معلنا أن ”العملية استهدفت تجمعا للحشد الشيعي“.

طالبان والقاعدة ومعركة إثبات الوجود

إن حالة الانحسار التي يمر بها هذا التنظيم، خصوصا في مناطق نفوذه الممتدة بين جزء من العراق وسوريا، جعلت التنظيمات الجهادية الكلاسيكية على غرار حركة طالبان والقاعدة تسعى إلى الاستفادة من هذا الضعف لإثبات استمرارها الفعلي على الخارطة الجهادية العالمية، خصوصا في مناطق نفوذها التاريخية على غرار باكستان وبعض الدول الأفريقية والجزائر.

في هذا السياق شن إرهابيون تابعون لما يعرف بـ”تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي“ في 14 مارس 2016 هجوما مسلّحا على ثلاث فنادق بالمنتجع السياحي ”غراند بسام“ بالعاصمة الإيفوارية أبيدجان، وقد راح ضحيته 16 شخص من بينهم 14 مدنيا واثنين من عناصر القوات الخاصة حسب ما أعلنته مصادر محلية. وفي نفس الفضاء الأفريقي شهدت مدينة دونتزا المالية يوم الاثنين الفارط تفجيرا بلغم أرضي استهدف سيارة عسكرية أدى إلى مقتل عنصرين من الجيش المالي وجرح اثنين آخرين، وقد رجحت مصادر إعلامية أن يكون تنظيم القاعدة والمجموعات الإرهابية المقربة منه مسؤولة عن العملية.

من جهتها أعلنت ”جماعة الأحرار“، إحدى فصائل حركة طالبان مسؤوليتها عن التفجير الذي استهدفت منتزه عائلي بمنطقة لاهور الباكستانية الأحد الفارط، وراح ضحيته 70 شخصا من بينهم 29 طفلا وجُرح حوالي 300 آخرين، وقد قال متحدث باسمها أن ”المسيحيون كانوا الهدف“، وقد تزامن هذا التفجير مع احتفال المسيحيين في باكستان بعيد القيامة.

ويبدو أن الجماعات الإرهابية المتمركزة غرب إفريقيا تسعى هي الأخرى رغم مبايعتها لتنظيم ”داعش“ إلى إثبات قدراتها القتالية في مناطق نفوذها على غرار تنظيم ”بوكو حرام“ الذي أعلنت السلطات النيجيرية أنه وراء تفجير انتحاري نفذته سيدتان تنكرتا في زي رجالي بمسجد مايدوجوري شمال شرق نيجيريا، وقد راح ضحيته 22 قتيل و35 جريح كلهم من المدنيين، وقد تم استهداف هذا المسجد لأنه يقع منطقة ”أوماراي“، مركز القيادة العسكرية النيجيرية.