تحتاج السلطة السياسية أو الطبقة الاجتماعية المرتبطة بها إلى الماضي لإضفاء شرعية على ممارسات الحاضر، منتقية بذلك أفضل صوره ومرسلة بأجزاءه الأخرى إلى مقابر التاريخ. وعادة ما تدخل السلطة في معارك رمزية مع بقية الفاعلين من أجل السيطرة على معاني الماضي وفرض قراءتها الخاصة له.
في السياق التونسي يشكل التّحكّم في الماضي أداة هيمنة اجتماعية وسياسية واقتصادية من أجل تبرير المصالح والسياسات، ومن هذا المنطلق يجري تركيب جديد لصورة بن علي ونظامه في الخطاب السلطوي وفي المنظومة الإعلامية المهيمنة. فبعد أن أدانته الثورة ووضعت حدا لمرحلة 23 سنة من حكمه يعود بن علي مجددا إلى دوائر الفعل السياسي بأشكال مختلفة منها الجدّي والهزلي، وذلك بعد أن أعاد الكثير من رجالاته التموقع داخل حلبة الصراع على السلطة. هذه العودة تأخذ طابعا رمزيا يهدف إلى تصفية الذاكرة القريبة التي صاغتها الثورة، وذلك من خلال بناء معجم سياسي وإعلامي متواطئ مع الحقبة السابقة، وينهل فعاليته من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تمرّ بها البلاد.
بن علي: من دكتاتور إلى مُنقلب عليه
داخل المعجم الجديد تُسند صفات مغايرة لبن علي، إذ لم يعد اسمه مرتبطا بالدكتاتورية والاستبداد والظلم الاجتماعي مثلما ساد في الأشهر الأولى التي تلت الثورة، بل صار يُشار إليه في الآونة الأخيرة بوصفه ضحيّة لأجهزة استخبار خارجية على غرار ما يردده إعلامي النظام برهان بسيس. ويتواتر هذا النعت داخل نظريات الانقلاب التي تعتبر الثورة ”مؤامرة خارجية“ الغاية منها ضرب الاستقرار وقلب نظام الحكم، مختزلة بذلك كل مساراتها وأحداثها في ليلة 14 جانفي 2011، التي يجري تضخيمها من خلال منح بطولات زائفة لبعض رموز النظام السابق. وقد بلغ الأمر بالأمين العام السابق لحزب التجمع المنحل محمد الغرياني، حد التلويح بأن حزبه كان له الفضل في إنجاح الثورة، على اعتبار أنه لم يذهب في خيار مواجهة المد الثوري.
في أهون الأحوال التي يبلغ فيها نقد الحقبة السابقة مداه، يُشار إلى نظام بن علي بوصفه ”نظاما تسلطيا“، تتلخص كل مساوئه في الانغلاق السياسي والتضييق على الحريات العامة، ويبرّر البعض هذا الخيار بالهاجس الأمني الذي هيمن على الإدارة السابقة، وهو تخوف بإمكان الناس القبول به اليوم في ظل الوضع الأمني المتدهور. ولعل هذا النقد اللطيف –الذي بإمكان الجميع استمراءه- يشتغل على طمس الخاصّيات الأخرى للنظام السابق: اللّصوصية، الحيف الاجتماعي، وهيمنة العائلة الحاكمة على الثروة والسلطة. وقد شكلت هذه العناصر دوافع قوية لانتفاض الهوامش المحرومة من الثروة والسلطة، ولم تفلح الحكومات المتعاقبة بعد 14 جانفي في إزالة هذه الدوافع، بل أعادت إنتاجها بترتيبات جديدة.
تهميش الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للنظام السابق ينسجم مع خيارات منظومة الحكم الجديدة، الفاقدة لإجابات على حاجات الوضع الذي صنعته الثورة، إذ اكتفت هذه المنظومة بتكريس الهيمنة الاجتماعية السابقة، مُحاولة توظيف مراكز النفوذ القديمة لتعزيز بقاءها في السلطة. وتندرج مشاريع المصالحة -التي يُخطب من خلالها ود أعضاد الحكم القديم- في هذا السياق.
طمس الدور الشعبي
التقويض الرمزي لمنظومة الاستبداد من خلال الإطاحة بالرئيس بن علي تحت هتاف الجماهير الثائرة، التي افتكت الفضاء العام بعد مصادرته لعقود، ساهم في تشكيل معقولية جديدة ذات دلالات حالمة. ولكن مسار الانتكاس أسقط الكثير من الأحلام والبشائر في منتصف الطريق. وتجري اليوم دعاية منظمة تروّج لعدمية خيار الانتفاضة، بالاستناد إلى فشل منظومة ما بعد 14 جانفي في تغيير الأوضاع، ومن خلال إجراء مقارنات زائفة بين الوضع الحالي والرّفاهية المزعومة التي كانت سائدة أيام الدكتاتورية.
التشكيك الممنهج في جدوى الانتفاضة –بوصفها الخيار الحاسم الذي اختارته الجماهير للإطاحة بمنظومة الحكم- يهدف في نهاية المطاف إلى التشكيك في قدرة الجماهير الخاصة على قلب الأوضاع، وهكذا يسهل استدراجها إلى التسليم بأفضلية وضعها السابق. ولبلوغ هذه الغايات يُشحن الوعي العام بتمثلات جديدة لصورة الحاكم السابق وعلاقته بمحكوميه، فكثيرا ما تتردد جمل دعائية من قبيل: ”بن علي لم يسطو على قفة الزوالي“ وذلك في إطار الجدل حول غلاء المعيشة، وتؤدي هذه الجملة إلى تحييد الشعب عن الصراع، وبالمقابل يُختزل التناقض القديم في مجرد صراع فوقي بين بن علي وخصومه السياسيين.
ولئن كانت مواقف الفاعلين السياسيين من النظام السابق تختلف بحسب مواقعهم القديمة، فبينهم من كان جزءا من النظام ومن كان معارضا ومقموعا، وبعضهم كان يتمتع بامتيازات والبعض الآخر يعيش على هامش الحياة السياسية، فإن تطور الأحداث وتغير المواقع وهيمنة الصراع المحموم على السلطة زاد من تعويم الخارطة السياسية إلى درجة أصبح بالإمكان فيها حشر جميع الفاعلين السياسيين في نفس السلة. ولعل السقوط الأخلاقي والسياسي لجزء كبير من النخبة السياسية فاقم الشعور بانعدام الثقة لدى الجماهير الباحثة عن الخلاص، وهو ما فسح المجال أمام خطابات إحياء القديم لتمارس فعلها السيكولوجي والسياسي، من خلال نحت كاريزما جديدة لقادة الماضي، تتلون بحسب الحاجات الآنية، فعلى سبيل الذكر لا الحصر: كلما تدهورت الأوضاع الأمنية إلا وتتم الإشادة بالقدرات الأمنية للنظام السابق، وبالتوازي مع ذلك يفسح المجال لرجالات النظام السابق لإعادة التموقع داخل المنظومة الأمنية.
يقول المؤرخ الفرنسي بول فاين ”إن الناس لا يعثرون على الحقيقة بل ينجزونها مثلما ينجزون تاريخهم“. ولئن تطابقت الحقيقة عند بول فاين بالفعل التاريخي، فإن السياق التونسي يشي بمصادرة كبرى للحقيقة والتاريخ معا. فطالما أن التوجه المهيمن يهدف إلى الحد من الفعالية التاريخية للشعب، بوصفه معطى قادر على التغيير، فإنه يُحكم في نفس الوقت سيطرته على الحقيقة ويُقصي الجماهير من إمكانية المسك بزمامها، ومن هذا المنطلق تُستخدم كل آليات تزييف الحقيقة التي تؤدي في نهاية الأمر إلى إعادة كتابة التاريخ من منظور سلطوي.
جميل ما كتبته .. تلك هي الحقيقة .. لقد قتلت الشرعية الانتخابية مراتان بعد الثورة ، مرة بالحوار الوطني ، و هي تقتل اليوم بإسم حكومة الوحدة الوطنية … في كلا العمليتين كان الباجي قائد السبسي الركيزة المركز والأساسية … نعم أيام التأسيسي ، قلنا نذهب إلى الحوار الوطني … و اليوم ؟ قلنا تونس لا تحكم إلا بالتوافق … لكن كلما كانت الحياة السياسية هادئة إلا و زاد تموقع رجال الماضي و أعوانهم الجدد .. كما كلما ضرب الارهاب وقع الاستنجاد برجال المخلوع .. من جهة حامية و من جهة تحرق كما يقول المثال العامي .. إعادة دولة السلطوية .. تقزيم الديمقراطية .. دفن الثورة .. طموحات الشعب في العدالة و الحرية تصور للناس بأنها جريمة تاريخية ، و خلق رأي عام داخلي و خارجي يقبل بهذا الرجوع إلا الوراء ، و هذا دندن السبسي الأب ، و قوى الردة في الداخل و الخارج .
برجال الماضي لا يمكن أن نصنع ديمقراطية و عدالة إجتماعية و منوال تبموي جديد … برجال النظام البائد لا يمكن تحقيق أهداف الثورة و إستكمال مستحقاتها .. التحالف مع رجال النظام البائد لا يمكن من صنع تونس جديدة تحمي المواطن تأسس للتعددية السياسية و الثقافية و لآليات عيش مشترك أساسه المساهمة الإيجابية و إحترام الآخر .