المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

justice-transitionnelle-ivd-tunisie

وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الإنسان ونشاطه ما بقي فيه عرق ينبض وروح تشعر. هيغل

لعل هذه الكلمات تختزل فكرة العدالة الانتقالية حين تبحث الضحية عن الحقيقة.
تعرف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة الآليات التي يتم استخدامها لتحقيق العدالة في فترة انتقالية بعد ثورة أو حرب يترتب عليها انتهاء حكم قمعي نحو تحول ديمقراطي وذلك للتعامل مع قضايا انتهاكات حقوق الإنسان.

تعتبر محاكمات نورمبرج للقيادات النازية في ألمانيا أول بوادر تطبيق العدالة الانتقالية إضافة إلى محاكمات حقوق الإنسان في اليونان في أواسط السبعينيات وبعدها في المتابعات للحكم العسكري في الأرجنتين وتشيلي من خلال لجنتي تقصي الحقائق في الأرجنتين 1983 وتشيلي 1990 لتشمل العديد من الدول اللاتينية ودول أوروبا الشرقية حين تم فتح ملفات الأمن الداخلي والتحقيق في عمليات التطهير في تشيكوسلوفاكيا في 1989.


ولم يقف تطبيق منظومة العدالة الانتقالية عند هذه البلدان بل تشكلت كذلك لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا في سنة 1995 للتعامل مع الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها السكان السود في جنوب إفريقيا في فترة التمييز العنصري كما شهدت المغرب تجربة مختلفة تمت من داخل النظام نفسه حين قام الملك الحسن الثاني بتسليم الحكم إلي المعارضة في عام 1995، وبإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة لتقصي الحقائق والتي قامت بدفع تعويضات للضحايا وعملت على إصلاح وتأهيل عدد من المؤسسات إلى حدود سنة 2005.

وقد كانت بداية مسار العدالة الانتقالية في تونس عسيرا بعد الثورة التي أدت لهروب الرئيس بن علي وسقوط النظام عسيرة منذ بدايتها إذ لم يتم المصادقة على إرساءها إلا بعد سنتين من انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في ظل سعي إلى تقويض آلياتها بجملة من مبادرات ومشاريع قوانين جديدة.

أولا : تركيز العدالة الانتقالية في تونس

صادق المجلس الوطني التأسيسي في ديسمبر 2013 على القانون الأساسي عدد 53/2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها وحددت بهذا القانون مهمة هيئة الحقيقة والكرامة زمنيا بأربع سنوات من أجل التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة بين سنتي 1955 و 2013 انطلاقا من الصلاحيات المخولة لها في عقد الجلسات المغلقة أو المفتوحة للعموم والاستماع للضحايا والتحقيق في القضايا على أساس الشهادات والشكاوي وجمع المعلومات وتوثيق الانتهاكات وتحديد مسؤوليات أجهزة الدولة وبقيّة الأطراف وتوضيح أسباب الانتهاكات واقتراح الحلول ووضع برنامج تعويضات شامل وتكوين أرشيف مفتوح للعموم وآخر خاصّ وطلب المساعدة من السلطات العمومية للقيام بالتحقيقات وتركيز عمليات بحث وحجز للوثائق و قد تم انتخاب الحقوقية سهام بن سدرين على رأس هذه الهيئة.

وقد جوبه تركيز العدالة الانتقالية في تونس بعديد الانتقادات التي طالت هيئة الحقيقة والكرامة وكذلك قانون العدالة الانتقالية.

الانتقادات الموجهة لهيئة الحقيقة والكرامة

بدأت الانتقادات الموجهة لهيئة الحقيقة والكرامة بعد الخلافات الداخلية التي انتشرت في وسطها وأدى ذلك إلى إعفاء عضو الهيئة زهير مخلوف من مهامه بعد المراسلة التي وجهها إلى رئيس مجلس نواب الشعب وسربتها وسائل الإعلام وفيها اتهامات لرئيسة الهيئة بفساد مالي وقد سبق ذلك استقالة ثلاثة من أعضاء الهيئة قبل بدء أعمالها.

وهو ما أدى إلى تحول النقاش في المنابر السياسية والإعلامية من الحديث عن نجاعة عمل الهيئة إلى الاختلافات حول أعضاءها وخلفياتهم السياسية والفكرية.

نقائص قانون العدالة الانتقالية

أشار العديد من خبراء القانون إلى نقائص في قانون العدالة الانتقالية خاصة فيما يتعلق بغياب المرجعية القانونية إذ لم يتضمن القانون أي إشارة للقوانين المتصلة بموضوعاته كمجلة الإجراءات الجزائية ومجلة حماية الطفل والمواثيق والمعاهدات الدولية.

كما نص هذا القانون على عدم المعارضة بمبدأ اتصال القضاء في فصله 42 لكنه لم يميز في ذلك بين الانتهاكات التي صدر بشأنها أحكام بعد الثورة وتلك التي سبقت الثورة كما أن هذا الفصل لا ينطبق إلا على الملفات التي ترى الهيئة لزوم إحالتها على النيابة العامة رغم أنه كان بالإمكان اعتماد الحل المنصوص عليه بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وهو إمكانية المحاكمة مجددا إذا ثبت عدم اتسام المحاكمة الأولى بالنزاهة والاستقلالية أو أن الهدف من إجراءات المحاكمة الأولى هو ضمان إفلات الشخص من مسؤولية جنائية ثابتة.

كما أن تكريس الطابع الذاتي للمصالحة يبدوا غير مجد فالمصالحة تبقى رهين إرادة الضحية وبموافقة الدولة في حالة الفساد المالي في الوقت التي تتعلق فيه المصالحة أساسا بالمصلحة العامة للمجتمع والدولة 1.

ثانيا : مبادرات جديدة منافسة أم مكملة ؟

لم يقف النقاش حول قانون العدالة الانتقالية وحول هيئة الحقيقة والكرامة عند حد المطالبة بتنقيح القانون الموجود بل وصل إلى حد تقديم مشاريع قوانين جديدة ومبادرة للمصالحة الشاملة.

مشروع المصالحة الاقتصادية

هذا المشروع هو مبادرة قدمها رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في 20 مارس 2015 وتبلورت في إطار مشروع قانون صادق عليه مجلس الوزراء وتم تمريره إلى مجلس نواب الشعب في 14 جويلية 2015 وقد ورد في شرح الأسباب المتعلق بمشروع القانون أنه يقضي بوقف التتبعات والمحاكمات وإسقاط العقوبات في حقّ الموظّفين العموميّين وأشباه الموظّفين، كالوزراء ورؤساء المؤسّسات العموميّة والمديرين العاميّن والقضاة والولاة في الجرائم المتعلّقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام في محاولة لدعم مناخ الاستثمار، عن طريق تحويل الأموال التّي يتم استرجاعها للتوظيف في البنية التحتيّة والمشاريع التنمويّة في المناطق الداخليّة، وهو ما من شأنه التخفيف من الأعباء التّي تواجهها الدولة بالنظر إلى حالة الانكماش الاقتصادي التّي تعيشها البلاد.

فمشروع القانون هذا قد أتى مخالفا لقانون العدالة الانتقالية الّذي يجعل من الاعتراف بالجرائم شرطاً للدخول في مرحلة المصالحة والذي من شأنه إعاقة آليات تقصي الجرائم الاقتصادية والفساد المالي باعتماده شرط استرجاع الأموال المنهوبة مقابل إسقاط التتبعات ما يعكس قانون المصالحة الاقتصاديّة تهميشاً كليّاً للمسؤوليّة السياسيّة والقانونيّة لمرتكبي هذه التجاوزات.

وقد تضمن هذا المشروع مخالفات دستورية عديدة من بينها إحداث لجنة إدارية ذات اختصاص قضائي وهو ما يعد إخلال بمبدأ الفصل بين السلط وإخلالا بمقتضيات المحاكمة العادلة وإدراجا للمصالحة في إطار تسوية سياسية واقتصادية والتخلّي عن أهم آليات العدالة الانتقالية في كشف الحقيقة والمساءلة و التحكيم و المصالحة وإصلاح المؤسسات لضمان عدم التكرار، كما أنّه يضمن الإفلات من العقاب لمرتكبي أفعال تتعلّق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام 2.

وقد قدمت لجنة البندقية3 إجابتها عن أسئلة تقدمت بها هيئة الحقيقة والكرامة في جويلية 2015 في رأيها المعنون تحت ”الرأي المؤقت للجوانب المؤسسّاتية في مشروع القانون حول الإجراءات الخاصّة المتعلّقة بالمصالحة في المجالين الاقتصادي والمالي“ رأت فيها أنّه يمكن تعديل قانون العدالة الانتقالية بقانون أساسي آخر ولا مانع كذلك من بعث لجنة متخصّصة في القضايا المالية بهدف تسريع الإجراءات مع ضرورة احترام الآجال الزمنية المنصوص عليها في التشريع ذي العلاقة من أجل بلوغ أهداف العدالة الانتقالية وفي هذا الإطار فقد اعتبرت أن نقل الصلاحيات من هيئة الحقيقة والكرامة إلى لجنة المصالحة لا يبدو متوافقًا مع الفصل 148 من الدستور خاصة وأن ضمانات الاستقلالية المالية والإدارية متوفرة في الهيئة أكثر من هيئة المصالحة تبعا لأن أعضاء لجنة المصالحة لا يتمتّعون على عكس أعضاء الهيئة، بضمانات الاستقلالية وبالتالي فإن رفع الدعوى لديها لا يمثّل ضمانات كافية لكشف الحقائق وإعلانها لقصر أمدها ولعدم التنصيص على إعلام العموم بها.

كما أقرت لجنة البندقية فرضية قيام المشرّع التونسي بمراجعة القانون الأساسي لسنة 2013 إذا تمّ اعتباره غير كافٍ لتحقيق الأهداف الاقتصادية والمالية وختمت تقريرها بالتأكيد على أنّ أيّ مبادرة لمراجعة القوانين يجب أن تحترم مبدأ تدرّج القواعد القانونية وأن تكون بـ ”التعاون مع المجتمع المدني وهيئة الحقيقة والكرامة“.

في نفس الإطار اعتبرت أغلب مكونات المجتمع المدني مشروع قانون المصالحة الاقتصادية التفافا على مسار العدالة الانتقالية والتفافا على الثورة في حد ذاتها وطالبوا مجلس نواب الشعب بعدم المصادقة على مشروع القانون الأساسي الخاص بالمصالحة الوطنية في المجال الاقتصادي والمالي وكانت حملة ”مانيش مسامح“ من أهم التحركات التي ناهضت هذا القانون من أجل تحسيس الرأي العام بخطورته واستيلاءه على صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة باعتباره يمثل مدخلا لتشجيع الفساد مستقبلا بمروره مباشرة إلى المصالحة قبل المحاسبة.

إلا أن المجتمع المدني هو كذلك غير متفق تماما فقد اعتبر شق آخر مشروع المصالحة الاقتصادية معبرا عن توافق وطني يهدف إلى تقريب وجهات النظر المختلفة وهو ما يبين أن المجتمع المدني منقسم في التفاعل مع هذا المشروع بقدر الانقسام الحاصل بين القوى السياسية الحاكمة والمعارضة.

مشروع المصالحة الشاملة

تواصلت المبادرات المتعلقة بمسار العدالة الانتقالية فبعد المبادرة المتعلقة بالمصالحة الاقتصادية والتي تبلورت في إطار القانون 49 لسنة 2015 المعروض إلى حد الآن على لجنة المالية والتخطيط والتنمية ولم يتم بعد إحالته على المجلس من أجل المصادقة عليه، هذا و قد دعا رئيس حركة النهضة خلال افتتاح المؤتمر العاشر للحركة لمصالحة وطنية شاملة تتركز أساسا على رد الاعتبار واسترداد الحقوق المدنية والسياسية والتعويض وجبر الضرر لمن شملهم العفو التشريعي العام وتدعيم المبادرة الرئاسية بشأن المصالحة الاقتصادية من أجل التسريع في مسار العدالة الانتقالية.

ولم تتضح بعد تفاصيل هذه المبادرة إذ لم يقع طرحها إلى حد اللحظة صلب الائتلاف الحكومي حتى أن الهيئة السياسية لنداء تونس قد عبرت عن تزكيتها لهذه المبادرة في حين أن كتلتها النيابية عبرت عن رفضها المبدئي لهذه المبادرة إلى أن تتضح معالمها في المقابل عبرت المعارضة عن رفضها لهذه المبادرة من البداية.

ويثير المشروع الجديد جملة من التساؤلات بشأن طبيعة المصالحة المقترحة، باعتبارها تضم فئتين من المستفيدين منها، هما رجال أعمال متورطون في قضايا فساد وسياسيون وأمنيون متهمون بالضلوع في قضايا تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان.

ختاما يمكن القول أن المبادرات المتتالية المتعلقة بمسار العدالة الانتقالية أدخلت ارتباكا على هذا المسار في الوقت الذي تواصل فيه هيئة الحقيقة والكرامة عملها عن طريق اللجان التي تكونها والمراكز الجهوية التي يبلغ عددها 9 مراكز والتي استقبلت أكثر من 50 ألف ملف خاصة في اليوم الأخير لقبول الملفات وهو يوم 15 جوان 2016 وقامت بأكثر من 5000 جلسة استماع.

في حين يعتبر عديد المتابعين أن مسار العدالة الانتقالية سيتم وأده في ظل التحالفات الحكومية التي تكرس وجود المصالحة بالنظر إلى الحلف القائم بين حركة النهضة التي ينتمي إليها عدد كبير من المتضررين في قضايا انتهاك حقوق الإنسان وحركة نداء تونس التي تضم غالبية رجال الأعمال ممن وردت أسماؤهم ضمن المستفيدين من المصالحة الاقتصادية، وهو ما يعني أن قانون المصالحة الشاملة أو قانون المصالحة الاقتصادية متى صدر أحدهما لن يكون سوى وسيلة لإضفاء الشرعية المطلوبة على الخطوات السابقة التي أنجزها الحليفان في الحكم.

خاصة أن الكتابة العامة لمجلس نواب الشعب أرسلت إرسالية قصيرة إلى أعضاء لجنة التشريع العام، تعلمهم أنه سيتم النظر في مشروع قانون المصالحة الاقتصادية داخل اللجنة أيام الخميس 23 والجمعة 24 جوان 2016.وبعد الاستفسار من الكتابة العامة، تبين أن اللجنة لم تضبط بعد أولوياتها بين القانون المذكور وقانون المخدرات.

الهوامش

1 – مقال ”ملاحظات أولية على قانون العدالة الانتقالية“، الأستاذ محمود داوود يعقوب.

2 – بيان هيئة الحقيقة والكرامة بتاريخ 20 جويلية 2015.

3 – اللجنة الأوروبية من أجل الديمقراطية عبر القانون هي هيئة استشارية تابعة لمجلس أوروبا، وهي إحدى المؤسّسات المرتبطة بالاتّحاد الأوروبي وتُعنى اللجنة بتقديم الرأي والدعم القانوني في مجال تدعيم أركان النظام الديمقراطي، حسب المعايير الأوروبية، عبر الإصلاح المؤسّساتي للدول التي تطلب منها ذلك.