أصدر السّيد عبد المجيد شاكر1 في الثّلاثيّة الثّانية من سنة 2011 كتابا بعنوان : ”منذ خمسين سنة…عشت معركة بنزرت“2.
اهتممنا بهذا الكتاب خلال ندوة ثقافية احتضنتها ”ودادية قدماء معاهد بنزرت“3 بُعَيْدَ صدوره لكنّ مجرى ما لا نزال نعيشه من أحداث على مستوى كتابة الذّاكرة التّاريخيّة يطرح على الملمّ بملف المعركة، ولو إلماما جزئيّا أو نسبيّا، خاصّة إن كان ممّن عايشوا أحداثها كلّ ذلك يطرح عليه في هذه الذّكرى الخامسة والخمسين لاندلاع المعركة (19 جويلية 1961) تعريف عموم التونسيين ممن لم يعيشوا معركة الجلاء بما في هذا الكتاب الذي ألَّفَهُ صاحبه بعد خمسين سنة من المعركة ليقدم، حسب قوله : ”شروحا وافية لوقائع تاريخية ومعلومات يقينية أفضت إلى إصدار أحكام التزمتُ فيها شخصيا الدقة والموضوعية“4.
إعلان مثل هذا يبعث السرور في القارئ التونسي والجزائري والمغاربي والعربي بصفة عامة وحتى في الباحث الأجنبي مهما كانت جنسيته لأن زمنا أتى شحت فيه البحوث والمعلومات ”الدقيقة والموضوعية“ حول هذه المعركة. ويتضاعف السرور عندما يَعِدُ المؤلف قُرَّاءَهُ بـ ”كشف الحقيقة كاملة“5 مما يعني في نظره أن الحقيقة قبله كانت مغمورة كليا أو جزئيا أو محرّفة.
السبب في ذلك واضح والرهان مشروع تماما : إن المؤلف كما يصرح بذلك في تواضع ”أحد القياديين الذين عاصروا تلك الأحداث ولا يزالون على قيد الحياة“.
إن ما يعنيه بالقياديين أنه كان – كما هو معروف – مديرا ”للحزب الحرّ الدستوري“ منذ أوت 1956، أي بُعَيْدَ الاستقلال (مارس 1956) وخلال المعركة (1961 وبعدها).
ومن المعلوم لدى الجميع أن ”الحزب الحر الدستوري الجديد“ كان حاضرا في كل أطوار المعركة وتولى أمرها إعدادا وتعبئة لأنه حزب رئيس الجمهورية الفتية (جويلية 1957)، قُرْبُ المؤلف من مصدر القرار والإنجاز والتنفيذ والدعاية6 يجعل كتابه مرتقبا ووعده منتظرا.
جاء كتابه في جزأين كبيرين، الأول استعرض فيه أهم المواقف والأحداث التي مهدت للحرب في بنزرت والصحراء7 وخص الثاني بالحديث عن ”أطوار الحرب في بنزرت وفي المناطق الصحراوية أيام 19 و20 و21 و22 جويلية 1961“8 وختم الكتاب بملحق ضَمَّ نصّ رسالة بورقيبة إلى دي غول.
أَوْجُهُ قراءة هذا الكتاب تاريخيا وسياسيا ودبلوماسيا يمكن أن تكون متعددة حسب زوايا النظر. إننا اخترنا بهذه المناسبة بعد قراءة الكتاب قراءة مقارنة أن نسائله السؤال التالي :
- هل يمكن للقراء التونسيين وغيرهم من الشباب والباحثين أن يطمئنوا لما جاء في هذا الكتاب من معلومات تاريخية أراد لها السيد عبد المجيد شاكر أن تكون ”حق اليقين“؟
- ما هي المعلومات التي قدمها لنا المؤلف وكانت، كما يقول، ”ثمرة جهد وتمحيص“9.
وهل تضَمَّنَ الكتاب وثائق ومعلومات جديدة تتقدم بنا أكثر نحو معرفة معركة لفّ تاريخها كثيرٌ مما يشبه الإهمال والصمت الثقيل؟ وشاب بعضَ أطوارِها غُمُوضٌ قليل أو كثير؟
قد لا نجانب الحقيقة إن قلنا إن الكتاب برمته، رغم صدوره بعد 50 سنة من المعركة لا يختلف في شيء عن أدبيات ”الحزب الحر الدستوري الجديد“ السابقة المنشورة حول المعركة، أسبابها، وقائعها، انعكاساتها : تمجيد مطلق لموقف الزعيم ومفاخرة بما تم إنجازه. هذه الخصيصة بالذات تجعل منه وثيقة خاما لدراسة موقف الحزب من هذه المعركة وهو أمر يفيد الدارسين من وجهة نظر ما.
هل يمكن أن يُنْتَظَرَ من مدير حزب قاد المعركة تحت إمرةِ بورقيبة أن يقدّم رواية مخالفة كليا أو جزئيا وهل يمكن أن يراجع بعين فاحصة جديدة بعض ما اتخذ من مواقف على ضوء وثائق مستجدة ربّما لا يستحيل عليه الظّفر بها.
طغى السرد ”الحكائي“ التمجيدي على أغلب جوانب الكتاب وكاد يتطابق محتواه تمام المطابقة مع عنوان السلسلة التي ينتمي إليها ولعله باكورتها ”سيرة وحكايات“ وكاد يكون ”حكاية“ أو ”خْرَافَة“ عن المعركة بما للكلمة من معنى في اللهجة الدارجة التونسية.
وعلى ما في هذه الطريقة التي سعى إليها المؤلف، اختيارا أو اضطرارا من بُعْدٍ عن الدقة والموضوعية أحيانا كثيرة (أنظر ص 150-151 وص 153)، يستطيع القارئ العادي أن يستفيد خاصة في القسم الأول المتعلق بتتبع سير المطالبة بالجلاء منذ تصريح الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة يوم 22 مارس 1956 وفي علاقة بالثورة الجزائرية حتى قمة رمبوياي وبعدها : هي ”ثقافة“ تاريخية بالمعنى المتداول حول المعركة.
أما في القسم الثاني فيتيح لنا المؤلف الوقوف على معطيات أكثر تفصيلا عن تركيبة المتطوعين خاصة من مدينة بنزرت. هي معطيات قابلة للفحص لكنها تُطْرَحُ من زاوية غير مألوفة.
لكن ما وقفنا عليه من نقائص وددنا الإشارة إليها يمكن إبراز بعضها في النقاط التالية على سبيل المثال
خلط في زمن الأحداث
”وجاء اليوم الموعود، يوم الأربعاء 19 جويلية 1961. في ذلك اليوم، ومنذ الصباح الباكر…انطلق المتطوعون من الشباب الدستوري في حفر فنادق على طول السياج الخارجي للمطار العسكري بسيدي أحمد يهدف منع الجيش الفرنسي من استئناف الأشغال الخاصة بتمديد مهبط الطائرات“10.
والمعروف أن بداية حفر الخنادق حول المطار العسكري انطلق فيها المتطوعون والمدنيون والجيش الوطني منذ بداية جويلية.
ومن غير المنطقي كذلك أن تبدأ يوم نشوب المعركة بالذات.
التعميم وغياب الدقة
ربما كانت هذه من السمات الطاغية على ذكر الأحداث إذا ابتعد المؤلف عن تضمين شهادات غيره11 أو لم يستنجد ببعض الجرائد الصادرة في السنوات الأخيرة12.
من الأدلة على ذلك ذكر وقوع أحداث على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة لكنه لا يدلي بأية قرينة من مصدر شفوي أو مكتوب، خاص أو عمومي منشور أو غير منشور مما يفقده المصداقية القائمة عليها المعلومة التاريخية وما أحوجنا إلى ذلك!؟
- جاء في هذا السياق حديثه عن ”قصف مسجد بالنابالم“ قوله : ”إضافة لعمليات الاغتيال والإرهاب نسجل على سبيل الذكر لا الحصر قصف مسجد بمدينة بنزرت العتيقة بقنابل النابالم وتدميره واستشهاد عدد من الشبان الدستوريين من مختلف الولايات“13. فعلى خطورة السلاح المفترض استعماله من طرف المستعمر ”النابالم“ ورغم توجيهه نحو هدف مدني (مكان العبادة) ورغم استشهاد عدد من ”الشبان الدستوريين“ أي أبناء الحزب الذي هو مديره، رغم كل ذلك لا يذكر اسم المسجد ولا أين يقع في ”المدينة العتيقة“ ولا أسماء الشهداء المحتملين. هو يسوق على سبيل ”الذكر لا الحصر“ حسب قوله، فكيف كان يكون الحصر؟!
- أكثر ”عمومية“ وعدم دقة من هذا، ذكره : ”العثور بعد سنوات من الجلاء على مقبرة جماعية داخل فضاء القاعدة احتضنت عددا هاما من الشهداء في صفوف المتطوعين بلغ عددهم 300 شهيدا كانوا موثوقي الأيدي وراء ظهورهم وأعدموا رميا بالرصاص“14. لا يورد المؤلف شيئا يوضح الخبر حتى لا نقول يشفي غليل الحقيقة التاريخية فنميل إلى القول بأنه إلى التعميم والتعتيم أقرب منه إلى عزمه عن ”كشف الحقيقة كاملة“15. لا يذكر حتى مصدر هذا الخبر الهام.
- ما هو أكثر إلحاقا للضرر بالمعلومات الرسمية المؤقتة والنسبية التي في حوزتنا الآن ما جاء في حديث المؤلف عبد المجيد شاكر عن الشهداء من المدنيين لذا أردنا التنبيه إلى ما وقع فيه زلل.
في حوصلته عدد شهداء المعركة من المدنيين يخطئ في إحصاء عدد شهداء بعض الولايات16 ويسقط بعضها، كما فعل مع شهداء ولاية سيدي بوزيد17 وهي ليست منظوية تحت ولاية أخرى في ذلك التاريخ مثل ولاية تونس أو ولاية سوسة، فلزمت الإشارة.
وإن كنا لا نريد، بهذه المناسبة، الخوض في موضوع الشهداء وعددهم من المدنيين والعسكريين ولا أن نجتر قضايا خلافية حول أحداث تاريخية فنحن مدعوون في تقديم هذا الكتاب لعموم التونسيين أن نتساءل : هل يليق بالمؤلف السياسي والدبلوماسي والمفترض أنه قائم بأمور المعركة من الألف إلى الياء أن يقارن، في سياق احتجاجه لقلة عدد الضحايا أن يقارن عدد شهداء معركة بنزرت من كل الولايات بعدد ضحايا المرور في تونس18.
نعم!
لا نناقش المؤلف موقفه ولا ندخل في موضوع تقييم المعركة. هل من دواعي أخلاقيات المنهج التاريخي والمسؤولية السياسية أن تتم هذه المقارنة، هل يعقدها المؤرخون في تقدير عدد الضحايا؟
جاء في خلاصة عبد المجيد شاكر ما يلي :
وهكذا تكون تونس قد ظفرت بتحرير قاعدة عسكرية يتصرف في مكوناتها جيش احتلال من أعتى جيوش في العالم بعدما خاضت حربا حامية الوطيس وقد تكبدت خسائر في الأرواح أقل من عدد ضحايا حوادث المرور على مَدَارَ السنة الواحدة19.
- توصل المؤلف – بطريقته – إلى اعتبار عدد شهداء المعركة 1301 شهيدا.20
- ما سكت عنه المؤلف وخلا منه الكتاب ونحن الآن في حاجة إلى جواب عنه سؤال عن المفقودين. أرجع التقرير الأممي عددهم إلى الألف.
- لماذا سكت عن المفقودين والحال أنه، من الأحياء القلائل الذين أشرفوا على عملية دعوتهم وتعبئتهم وتجنيدهم في مقاومة شعبية؟ هل تم تسجيل الأسماء؟ من سجل؟ أين؟ متى؟
- المؤرّخ وغيره في حاجة ماسة إلى جواب أو إلى طريق يفضي إليه لكن تخلى هذا الكتاب عن تحمل مسؤوليته.
الهوامش
1. السيد عبد المجيد شاكر – سياسي ودبلوماسي تونسي معروف : من الرعيل الأول. من مواليد 1927. عُيِّنَ في أوت 1956 مديرا للحزب الحر الدستوري الجديد واستمر في منصبه هذا إلى أواخر 1964. تقلد مسؤوليات متعددة في الحقل الدبلوماسي، خاصة حتى سنة 1988. (غلاف الكتاب).
2. عبد المجيد شاكر، ”منذ 50 سنة…عشت معركة بنزرت“، دار محمد علي للنشر، صفاقس، ط1، 2011، سلسلة سيرة وحكايات (21×13)، 264 صفحة.
3. عنوان مداخلتي : ”المتطوعون في معركة بنزرت“، قدمت في نوفمبر 2013.
4. ”منذ 50 سنة…“ ص 7.
5. صفحة 6.
6. أوفده الرئيس الحبيب بورقيبة رفقة الطيب المهيري إلى آلاف الشبان الدستوريين المتطوعين المقيمين في إحدى ثكنات المدينة للتعبئة. انظر “منذ 50 سنة…” ص128.
7. من الصفحة 22 إلى الصفحة 128.
8. من الصفحة 131 إلى ص 253.
9. ”منذ 50 سنة…“ ص 73.
10. ”منذ 50 سنة…“ ص 132.
11. كما فعل في اعتماده نقل عمر الخليفي للمواجهات ”المصبغة الشعبية“. أنظر شاكر صفحة 155 نقلا مصرحا به – عن عمر الخليفي.
12. بيان مجموعة من الضباط حول حرب بنزرت – جريدة ”الشروق“ التونسية بتاريخ 25/10/2010.
13. ”منذ 50 سنة…“ ص 150-151.
14. ”منذ 50 سنة…“ ص 170.
15. نفسه، ص 6.
16. نفسه، ص 169-170.
17. مدينة سيدي بوزيد موجودة في السجل القومي لشهداء الوطن بشهدائها الثلاثة (الطاهر عكرمي – الأمين عكرمي – محمد الحبيب عكرمي) صفحة 146، العمود الثالث.
18. ”منذ 50 سنة…“ ص 175.
19. نفسه ص 173.
20. نفسه، ص 175.
iThere are no comments
Add yours