عندما شرعت في قراءة رواية “مَكِينَة السّعادة” لكمال الزّغباني، لم أستطع أن أمحو من ذهني صورة الفلسوف و أفكاره. فمؤلّف “أخلاط في البهيموقراطيّة و الثورة” فيلسوف و أديب في الآن ننفسه. فعلى القارئ ء و منذ البداية و فى كلّ صفحة أن يحاول إستيعاب التأمّلات الفلسفيّة من جهة و كذلك فهم الرسائل المضمّنة في طيّات هذه الرّواية.
لقد جاءت بنية الرواية مركّبة، فالقارئ يجد نفسه قبالة منحيين في السّرد أي قصتين مختلفتين تجتمعان لتكوين المشهد و إيضاح ملامح الأحداث. يضع الزّغباني في مرحلة أولى بطله الكاتب و الروائي ليكشف عن جوانب من شخصيّته و مشروعه التمتثّل في كتابة رواية عن حياة صديق له : “محمّد” و عائلته ( زوجته و إبنتها ) ثمّ يواصل الزغباني تتبّع هذه الشّخصية فيكون لقائها مع أستاذ جامعي مهاجر فرصة سانحة روايته. أمّا المنحى الثاني في البنية السرديّة فتتمثّل في نقل و إهتمام لشخصيّة البطل نفسه، فبإختياره لكتابة السيناريو تنفتح مجالات جديدة و مناطق أخرى في السّرد يستغلها مؤلّف ” في إنتظار الحياة ” لينتقل بالقارئ من مكان إلى آخر و من شخصية إلى أخرى.
و تفرض هذه الرواية نسقها على القارئ و تجعله يقف مشدوها أمام هذا “العرض المشهديّ” للأحداث، ذلك أنّ كمال الزغباني تعمّد عرض الفصول بطريقة سينمائيّة يمكن أن نلاحظها من خلال الوصف الدّقيق و تعدّد الشخصيات و كثرة الفصول. إذ يتوزّع السرد بين حياة البطل ( الروائي ) و حياة صديقه ( محمّد )، كلّ شخصيّة/حياة بنسيجها العلائقيّ و أحداثها الخاصّة بها لكن ما يحسب للزغباني هو بناء محكم في السّرد و ”تداخل ممتع” في الأحداث يجعلنا في حركة دائمة و تفاعل متواصل مع النصّ بمختلف شخصياته و جوانبه. لقد كان كمال الزغباني دقيقا جدّا في تصوير العلاقات الإجتماعيّة بأدقّ تفاصيلها فبجمعه للأضداد ( مختلف الطبقات و الشّرائح ) تمكّن من نقل “فسيفساء إجتماعية” كانت مرآة حقيقيّة للمجتمع، فالجميع مثلاً بإختلاف توجّهاتهم، مواقعهم و تأثيرهم في أحداث الرواية نجدهم مجتمعين في مبغى “النهد الذهبي” لصاحبه “شعيب الأعرج”.
وأنت تطالع هذه الرواية، تلاحظ أنّ هناك صورا قديمة ( مزيّفة ) تتهاوى و أخرى ( حقيقيّة من صلب الواقع ) تنبعث من جديد، إذ يضعنا الزغباني أمام حقيقة لا جدال فيها : التّونسي – مهما كانت الطبقة التي ينتمي لها هو دائما ينشد اللّذة و الإنتشاء أي أنه في رحلة بحث دائم عن “مكينة السعادة”. لقد تفطّن الكاتب إلى أهميّة هذه النقطة و محوريّتها في حياة الإنسان بصفة عامّة و التونسي بصفة خاصّة فعمد إلى تحليل فلسفي لمفهوم السعادة و كنهها و أوجهها المختلفة و أسبابها. ههنا يظهر الزغباني الفيلسوف لينتزع القارئ من أرضيّة السرد و يجذبه – و لو لمدة قصيرة – إلى عالم المفاهيم والتأمّلات الفلسفيّة.
إنّ هذه رواية تنطق بحقيقة لا يمكن أن ننكرها، فوجود السعادة بمختلف تمظهراتها لا ينفي غيابها أو إستحالة بلوغها في أغلب الأحيان ف”مدينة السعادة” كما وعد بها الباعث العقاري في الرواية لا تعدو أن تكون مجرّد كذبة/وهم يبيعه للمخدوعين، تماما كما يفعل رجال السياسة مع شعوبهم. ” ظهر علينا أخيراً باعث عقاري معلناً أنه سيمنح التونسيين كل ما يحلمون به من رفاه “
لقد عرض كمال الزغباني مفهوم السعادة و تعدّد تمظهراتها لكي يحذّر من الركض خلف الأوهام، و هو بطريقة أو بأخرى يوجّه سهام نقده إلى مجتمع رأسمالي متوحّش ينعم فيه أصحاب السلطة و الأثرياء بالرفاه و يبيعون أوهاما و وعودا للمواطن البسيط، ذلك المواطن الذي يفني حياته طامعا في “مكينة السعادة”.
العنوان : مكينة السعادة
عدد الصّفحات : 350
تاريخ الصّدور : 2016
دار النّشر : دار التنوير/ بيروت – القاهرة – تونس
iThere are no comments
Add yours