المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

bourguiba-eyes

عندما أشار الحبيب بورقيبة في خطاب شهير سنة 1972 بأنه ”ليس من السهل تعويضه برجل مثله“ كان ذلك تأكيدا على رمزية إرثه الشخصي كقائد كاريزماتي طبع مرحلة هامة من تاريخ تونس المعاصر و لكن كذلك، وهذا ما يهمنا هنا، تنصيصا على إستحالة تعويض سياساته الإقتصادية النيوكولونيالية التي حوّلت مناطق شاسعة من الجانب الغربي للبلاد التونسية إلى ”مناطق ظل“. على عكس مايروج له البورقيبيون القدم والجدد، فإن العزلة الثقافية والسياسية والإقتصادية التي فرضت على مناطق عدة كالشمال الغربي و الجنوب التونسي مثلا انما كانت نتاج فكرة نيوكولونيالية ممنهجة وإختيارية افضت إلى سياسات إقتصادية وسعت من هوة التباين بين شريط ساحلي ذو نفوذ سياسي لامحدود وشمال غربي مثلا أنزل به إلى درجة الحيوانية. مافعله بورقيبة في الشمال الغربي وكامل الشريط الغربي لتونس لم يكن نتيجة لضيق الموارد وغياب الإمكانيات، وإنما هو نابع من فهم وإرادة بوجوب الإبقاء على التخلف السياسي والإقتصادي لهذا المجال الجغرافي الشاسع. الأسوأ من هذا كله أن الغباء السياسي لبن علي وضيق الأفق الفكري للسبسي أفضيا إلى إستمرارية هذا الإرث البورقيبي السيء.

الشمال الغربي كعقدة رمزية

هل مشكلة بورقيبة مع الشمال الغربي تعود لكرهه لخلفيته الإجتماعية الفقيرة؟ فكما أكد فانون، ينزع أفراد الطبقة السياسية الجديدة المنتمين غالبا إلى الطبقات تحت الوسطى في فترة بناء دولة بعد الإستقلال إلى المماهاة بالطبقة البورجوازية التي سبقتها قبل الإستعمار. بورقيبة ذو الخلفية المتواضعة والذي تابع دراسته الجامعية في السوربون لم يستطع أن يتخلص تماما من الإرث الإستعماري الذي رأى في تخلف المناطق الداخلية الحامي الأهم للمصالح الفرنسية. بورقيبة كزعيم نيوكولونيالي لم يتخلى أيضا عن النظرة الدونية المستصغرة لحق أبناء الريف في التنمية والتطور الثقافي والإجتماعي وخاصة الإقتصادي.

هل يعود هذا النبذ إلى حذره الشديد من ثورة الداخل؟ فبورقيبةالسياسي المحنك، الذي سحب البساط من تحت الثعالبي أثناء سفر الأخير خارج البلاد ليتحول الحزب الدستوري الى ابناء الساحل في سنة 1934، كان يعرف جيدا أن ما شكله الشمال الغربي (وطبعا الوسط والجنوب التونسيين) من قوة مقاومة مركزية ضد المستعمر الفرنسي يمكن أن يتحول إلى منطقة جذب ونفوذ سياسية قد تؤدي إلى محاولة سحب البساط من تحت أقدامه.

هل يمكن إرجاع سبب تخليه عن تنمية الشمال الغربي إلى فترات سجنه المختلفة التي قضاها مكرها هناك؟ فقد نُفي بورقيبة إلى سجن تبرسق بعد أحداث 9 أفريل 1938، ثم تم نقله لاحقا من فرنسا إلى سجن طبرقة في جانفي 1952 ليتم بعدها نفيه مجددا خلال نفس السنة إلى جزيرة جالطة. العديد من العوارض، كتلازمية مابعد الحبس أو تلازمية المنفي، قد تفسر هذا المقت لما له علاقة بمكان السجن، بالداخل التونسي، بالفقر والحرمان.

هل هو نتاج تلبيته لمصالح البورجوازية الجديدة في فترة مابعد الإستقلال؟ فكما أشار فانون، فإن البورجوازيون الجدد الذين أداروا ظهرهم للريف و الداخل عامة تشابُها بالمستعمر، هم بحاجة إلى زعيم وطني قادر على توفير الحماية لمصالحهم الإقتصادية وضمان إستمرار نفوذهم السياسي و الإقتصادي1. هذا ما يفسر أن قنوات الاسثمار والتنمية الإقتصادية والإجتماعية تحت الحكم البورقيبي لم تختلف كثيرا عن تلك التي شهدتها فترة الإستعمار.

تبقى هذه الأسئلة عالقة وتظل محاولة طرحها أو الاجابة عنها شائكة مهما كانت ماهية التجربة أكاديمية كانت أو صحفية أو حتى ذاتية (كما في مقالنا هذا). ما أود التأكيد عليه هنا أنه لو نظرنا بعين مجردة مستقلة عن الحساسيات السياسية والثقافية و الاديولوجية التي يمكن أن تؤثر على نظرتي للأشياء أو تقييمك لأطروحتي، فإن لا أحد بإمكانه أن ينكر عنف و قباحة ومهانة التهميش الممنهج للجهات الداخلية خلال فترة بورقيبة، حيث أن تمركز الثقل الإقتصادي والسياسي في الساحل بشكل فجّ إنعدمت معه إمكانية تحقيق العدالة الإجتماعية ورسخت لما يمكن وصفه بالإستعمار الداخلي2.

شبح نيوكولونيالية بورقيبة و المرددون التابعون

تمعش كل من بن علي والسبسي من مخلفات بورقيبة ”المجاهد الأكبر“ هو السبيل الوحيد لكليهما للحصول على شبه شعبية سياسية وجماهيرية. ففضل الزعيم السابق على الدكتاتور اللاحق خوّل لبن علي العسكري المنزوي لكي يترقى درجات العمل السياسي لينصّب فيما بعد كوزيرا للداخلية ثم رئيس وزراء ليطيح بعدها بالرئيس المومياء ويحل مكانه. قبل ذلك، لم يسمع أحد ببن علي و لم يتوقع إمكانيةا خروجه من مكتبه كضابط عسكري بسيط. لا يختلف إثنان أن في انعدام الممارسة السياسية والقدرة على التحليل والتفكير خارج نطاق ما تمليه عليه الأوامر من الداخل والخارج، فإن الدكتاتور النوفمبري لم يُمثل حلا آخر غير الإستمرار في المنظومة السياسية والإقتصادية والثقافية المهمشة للداخل التي أسس بورقيبة قواعدها طوال عقود طويلة بعد الإستقلال. حتى في أزهى فترات الإنتعاش الإقتصادي التي شهدتها تونس تحت حكم بن علي في أوائل التسعينات من القرن الماضي، كان ذلك النمو الإقتصادي حُكرا على ولايات تونس الكبرى والساحل عن طريق التركيز على تنمية قطاعات السياحة والخدمات والصحة. لم يستطع بن علي ولم يرغب في التخلي عن الإرث البورقيبي السيئ الذي رأى في الشمال الغربي أرضا شاسعة بلا معنى وبلا خيار غير تطعيم البطون الجائعة في العاصمة و الساحل.

لا أحد ينتظر شيئا من السبسي طبعا. فقد ارتكزت حملته الإنتخابية في مجملها على الترويج لإرثه البورقيبي وقدرته على درء الخطر النهضاوي ضد المساس بإنجازات المجاهد الأكبر كمجلة الأحوال الشخصية و… و… لاغير. فكر و كاريزمة السبسي (إن وجدتا) ليسا سوى اجتراء لفكر و كاريزمة بورقيبة. لا أحد يعتقد (حتى من مناصريه المخلصين، إن وجدوا) أن السبسي قادر على طرح فكر سياسي أو إقتصادي يقطع مع مخلفات الارث ناليوكولونيالي للزعيم الوطني السابق. فالرجل غير قادر على الحوار أو المجادلة (المقابلات التلفزية كالتي شهدناها مؤخرا لا تعتبر ”حوارا“) وإن أراد الظهور بمظهر الرئيس الديمقراطي المثقف فسيستعين طبعا بصحافية فرنسية ليكتب كتابا بالفرنسية يسوّق له بالفرنسية داخل قنوات بن علية بإمتياز3. ما أريد أن أشير إليه هنا بأنه، إذا كان كل اناء بما فيه يرشح، فإن ضيق الأفق الفكري للسبسي يحيله للإعتماد المطلق على سياسات بورقيبة الاقتصادية والتنموية. على سبيل المثال، فالمتأمل في الرسم التبياني لنواة 4يتأكد من إستمرار تهميش الجهات الداخلية كالشمال الغربي وغيرها بدعوى إن الكثافة السكانية لولايات الشريط الساحلي تفرض تركيز المشاريع الإستثمارية هناك. هذا التفسير المردود عليه لا يتطرق للأسباب الخفية التي أدت إلى تركز الموارد البشرية و الإقتصادية هناك.

الإرث النيوكولونيالي لبورقيبة جعل من الداخل التونسي وخاصة الشمال الغربي منطقة مهمشة خارج الحضارة. هذا الإرث السيء مازال بيننا، يؤثر في السياسات الإقتصادية العامة خلال الحكومات المتعاقبة التي تلته والتي أدت إلى انعدام فرص التنمية و التشغيل. الحزين في هذا كله أن ثورتنا التي قامت على مطلب إعادة خلط أوراق الإقتصاد والتنمية أتت بشيخين نافذين سياسيا (بقدرة قادر) ولكن غير قادرين عن الخروج من جلباب المجاهد الأكبر.

هوامش

  1. فرانز فانون، معذبو الارض.
  2. انصح هنا بمطالعة كتاب مهم للصغير الصالحي بعنوان ”الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة، منظومة «التهميش» في تونس نموذجا“ الذي يتطرق خاصة إلى تمشي رسم حدود ثنائية التنمية والتخلّف خلال فترة بورقيبة.
  3. الندوة الدولية للإستثمار تونس 2020: الأرقام الأخرى