رغم الظلام أشع من نفسي وأشرق كالصباح منور صمادح
ينسى الشاعر ويدخل طي النسيان لأمرين : الأول يتمثل في وجود شاعر آخر يستحوذ على كل الإهتمام ويجلب الأنظار فيحجب بذلك الضوء عن البقية. أما السبب الثاني فهو التجرأ على السلطة وتكريس القلم للنقد اللاذع. والحقيقة أن منور صمادح قد عانى من الأمرين معا، فهو من جهة ضحية شهرة أبو القاسم الشابي ( رغم أن هذا الأخير توفي في سن مبكرة – 25 سنة – ولم يعاصره ) التي غطت على إبداعاته. ومن جهة أخرى، كان صمادح مستهدفا من طرف النظام البورقيبي الذي عمق الهوة بين هذا الشاعر والعامة من خلال منع دواوينه ومصادرة شعره والتضييق عليه. لذلك فإن دراسة أثر هذا الشاعر وتاريخه النضالي يبدو ضروريا للوقوف على مراحل مهمة من تاريخ البلاد التونسية قبل الإستقلال و بعده. فالتطورات التي شهدتها حياة الشاعر، لا تعدو أن تكون سوى مرآة عاكسة لمختلف التقلبات التي هزت البلاد.
عن الشعر والمقاومة
“إبتسم يا شعب” هي أولى الكلمات التي كتبها منور صمادح – المولود في 17/09/1931 بمدينة نفطة – سنة 1948 والتي ستبقى كوصية للأجيال المتعاقبة وكدعوة للفرح والإقبال على الحياة. لقد توجه هذا الشاعر بخطابه إلى أبناء شعبه تماما كما صرخ فرحات حشاد صرخة من الأعماق معبرا عما يختلج في صدره “أحبك يا شعب”. ولأن صمادح من طينة الشخصيات الكبار فقد بث حبه للشعب وغيرته على الوطن عبر قصائده. فكانت أشعاره متميزة بالقوة والحماسة وسهولة التأثير في المتلقي خاصة تلك المنشورة في جريدة “الحرية” اللسان الرسمي للحزب الحر الدستوري وجريدة “تونس” التي باشر العمل بها سنة 1950.
ولعل القدرة على الإرتجال وتطويع اللغة للتعبيرعن الواقع الإجتماعي المزري كانت نتيجة لإختلاط صمادح – منذ نعومة أضافره – بعامة الشعب فقد قضى شبابه في التنقل بين عدة مهن. فمن 1944 إلى 1946 أشرف على مخبزة خاله عبد الناصر الخشاني بالقيروان لينتقل بعد ذلك سنة 1948 إلى مدينة الكاف أين سيتأثر بمحاورات خاله عن الأدب والفن والسياسة. وقد مكنه هذا الاحتكاك بالطبقة الكادحة في سن مبكرة من الإيمان بضرورة تكريس شعره لخدمة قضية آمن بها ودافع عنها إذ لم يتوانى في مهاجمة المستعمر في مرحلة أولى ثم نظام بورقيبة بعد الإستقلال رغم أن هذا الأخير كان أول من شجعه وأشاد بشعره في زيارته لمدينة مكثر سنة 1949.
لقد كان صاحب ديوان “فجر الحياة” ( 1954 ) شاعرا عصاميا حطم كل القيود وأقبل على الأدب بشغف فنبع شعره من واقع إستبطنه وأناس عايش معاناتهم وفهم مواضيعهم البسيطة بكل تفاصيلها. فجمع صمادح بين بساطة العامي وعمق الشاعر، حتى أن زبائنه – كما وصفهم في سيرته الذاتية التي كتبها بنفسه سنة 1955 وعمره آنذاك 23 سنة والتي تغطي الثلث الأول من حياته – “كان إبتهاجهم عظيما عندما تفاجئهم الصحافة اليومية والأسبوعية … فتراهم لا يصدقون انهم يقرأون في المساء أدب من إشتروا منه الفطائر في الصباح ”
عرف صمادح بشعره الملتزم بقضية الإستقلال ووضع نفسه على خط النار من خلال العديد من القصائد التي كانت تشهر بتجاوزات المستعمر وتحث الشباب على الصبر ومواصلة الكفاح. وهو ما أدى إلى إعتقاله في 24 مارس 1954، حادثة سيخلدها في قصيدة بعنوان “الثورة” وقصيدة “شهداء الزيتونة” التي نظمها في السجن.
كما عانى مؤلف قصيدة “الفردوس المغتصب” – منذ بداية الخمسينات – من الملاحقة البوليسية ولكنها فترة عرفت انتاجا شعريا غزيرا فقد حول كلماته إلى رصاص حاول المستعمر مصادرتها دون جدوى. ورغم منع الحكومة الإستعمارية لديوان “فجر الحياة” في 8 مارس 1955، فإن القصائد كانت توزع بطريقة سرية بين أعضاء شبكة المقاومة الوطنية.
مع حصول تونس على الإستقلال، بدأت مرحلة جديدة من حياة صمادح الذي إنتشى بالإنجاز العظيم وحدث الإستقلال الجلل و نظم مجموعة من القصائد التي مدح فيها بورقيبة. كان ذلك على إمتداد الأربع سنوات الأولى من الإستقلال، قبل أن يكتشف أن الزعيم حاد عن مبادئه لينطلق في نقد النظام وخيارات الرئيس مبتعدا بذلك عن جوقة المهللين الذين يشاركون في “العكاضيات” التي أصبحت عادة في الجمهورية الفتية. فبرز صمادح كمهاجم شرس للنظام وهو ما أدى إلى توتر العلاقة لتبلغ الأزمة ذروتها مع نشره لقصيدة “الملاك العائد” المشهرة بالظلم والاستبداد سنة 1960.
“..وأكول بطر قد أتخمته السرقات
ويد تجني ولكن منحوها السلطات ”
كذلك في قصيدة “يوم الفصل” من ديوان “مولد التحرير”
“فإن الحزب تقوى وفي شعب مصائبه جسام
وليس مطية لبلوغ قصد حرام أن تدنسه حرام”
حملت الستينات رياح أيام الجمر وعودة الملاحقات وتضييق الخناق على مؤلف قصيدة “الجمهورية” فقد إشتدت الأزمة بينه وبين بورقيبة وولى الشاعر – الذي لم يتجاوز سنه الثلاثين سنة – وجهه صوب قضايا التحرر في العالم ( الجزائر والقضية الفلسطينية ). ولكن الواقع الجاثم على صدره والمكبل لكيانه حال دون تجاهل الواقع فبات بين مطرقة أزمة وجودية وسنديان مضايقات النظام البورقيبي الذي بدأت ملامح الإستبداد تترسخ فيه تدريجيا. هذه الوضعية ستؤدي بصمادح إلى أزمة نفسية حادة تفاقمت وتطورت مع مرور الزمن لتتحول إلى انهيارات عصبية متتالية. وفي سنة 1972، التي تعتبر سنة فاصلة في حياته، إستفحلت حالته الصحية فطبع العديد من من دواوينه دفعة واحدة وأنهى تأليف كتابه “ليبيا في الأدب الليبي” قبل أن ينقطع عن الكتابة إلى حين وفاته سنة 1998.
لقد كانت حياة منور صمادح حافلة بالأحداث والسفر والشعر الذي وثق كل هذه المحطات لا على المستوى الذاتي ولكن للذاكرة الجماعية أيضا. وقد أكد عبد الرحيم صمادح – في تقديمه للأعمال الكاملة لمنور صمادح الصادرة عن بيت الحكمة سنة 1995 – أن ” الخمسينات والستينات سنوات الإلهام والإبداع والسبعينات والثمانينات سنوات الجحود فالنسيان”
شعر صمادح رسالة كونية
تقوم التجربة الشعرية لمنور صمادح على إرتباطها العضوي بمسيرة الشاعر فهي ملازمة لحياته، معبرة عن تقلبات كيانه تارة ومؤرخة لأحداث تاريخية مفصلية تارة أخرى. لكن شعر مؤلف قصيدة “الحق أقوى” يستمد حداثته من كسره لحواجز الزمن وعدم الإعتراف بالظرفية الزمنية والسياق التاريخي الذي كتب فيه.
ولئن كانت جل قصائد صمادح حاملة لإرث قديم ومعالجة لقضايا قد تبدو للقارئ ذات بعد ماضوي، فإن فرادتها تكمن في تحطيم ثنائية الماضي والحاضر وتجاوزها ليتحول النص إلى قالب شعري خاص يعالج قضايا عصره وكل العصور متجاوزا سجن المكان ضاربا بالزمنية عرض الحائط. ولعل خير دليل على ذلك قصيدة “كلمات” التي لحنها اعضاء فرقة “الحمائم البيض” وتحولت إلى أغنية ترمز للثورة والحرية المناضلين في الثمانينات.
ثم أعادها محمد علي بن جمعة إلى دائرة الضوء بعد 14 جانفى2011 على إيقاع موسيقي الرّاب
تتالى الرؤى الفلسفية في شعر صمادح فتخلق عالما شعريا حاول من خلاله الشاعر أن يطرح وجهات نظره في الحب، الحرية والحياة. إذ نستشف من خلال العديد من القصائد حرصه وتأكيده على المقاومة كفعل وممارسة حياتية وعلى الحرية كمذهب إنساني. ولعل تلقائية الخلق الشعري عند صمادح هي من مقومات الحداثة في أعماله ذلك أن تجربته الشعرية – بمختلف مراحلها – كانت تطل على الوجود من نافذة الوطن. والدارس لشعره يلاحظ هذا الإلتحام والترابط الأزلي بين الوطن من جهة والثورة والحب من جهة أخرى.
يتميز شعر منور صمادح بطابعه الكوني. فمن خلال مخاطبة الشاعر لأبناء وطنه فكأنما خاطب البشرية جمعاء. لذلك يمكن أن نتقصى مختلف الإشارات والدلائل التي تحتوي عليها النصوص والتي تتغير بتعاقب الأجيال وإختلاف القراءات والرؤى.
ولعل إحياء ذكراه وإعادة التعريف بأعماله عبر إدراجها في البرامج التعليمية – الأمر الذي حالت الديكتاتورية على مدار أكثر من خمسين سنة دون تنفيذه – قد يمنح الأجيال الشابة فرصة للتعرف على جانب آخر من تاريخ تونس تكون حياة وشعر منور صمادح البوابة التي يلجونها لتحقيق ذلك.
اطّلعتُ على المقال الذي كتبه “ضياء بوسالمي”، بعنوان “منور صمادح: شاعر حاضر رغم التغييب”، وأودّ إبداء ملاحظة بشأن قصيدة “كلمات”، فقد كان الراحل حمادي العجيمي (توفي سنة 1995) أول من لَحّنها، قبل الحمائم البيض وغيرهم، وأدّاها مُنفردًا، دون بقية عناصر مجموعة “إيمازيغن”…