قدّمت لنا وزارة التربية في نوفمبر الماضي مشروع قانون جديد لتعويض القانون التوجيهي لسنة 2002. ويكفي إلقاء نظرة سريعة على النصّين القديم والجديد للتفطن لبعض التحويرات التي أُدخِلت في المشروع بصورة ماكرة سواء بالإضافة أو بالحذف ولسنا ندري هل كان ذلك بأمر الوزير الناجي جلّول أم قامت به لوبيات مندسّة لا تعمل للمصلحة العامة دون تفطّن الوزير لذلك. وكان من المفروض أن تعمل لجان الإصلاح بصورة محايدة تنفع كل أبناء الشعب التونسي لا لمصلحة أقلية أنانية. ولا يمكن أن ينتج التعليم مواطنا صالحا وطنيّا ذا كفاءة دون بيداغوجيا ناجعة ودون تساوي الفرص بين التلاميذ.
ويكفي عرض نقطتين من القانون لإظهار نية اللوبيات لتطويع الإصلاح في بنيته وبرامجه ولغة التدريس فيه لخدمة أجندا أجنبية وأجندا داخلية لا تريد الخير للتعليم التونسي ولا تقبل لتونس باسترجاع سيادتها وتكريس نموها وتقوية اقتصادها وتطوير ثقافتها وتوحيد شعبها وتوفير نفس الفرص لأبنائها.
فالتحوير المُدخل على قانون 2002 لا يهدف فقط لتعويض اللغة العربية باللغة الفرنسية في التدريس في المرحلة الإعدادية ممّا يحدث ضررا كبيرا لأبناء الطبقات الشعبية وخاصة الريفية منها في دراستهم ويعطّل تحصيلهم للمعرفة ولا يعطيهم فرصا متساوية في المناظرات ، وإنما يهدف أيضا إلى تقسيم التعليم لثلاثة أصناف حسب الانتماء الاجتماعي للمتعلمين وهي أصناف تختلف في ميزانياتها وفي مدرّسيها وفي إطارها الإداري لتوفير حظوظ أوفر للبعض دون الآخر في مزاولة التعليم الإعدادي والتعليم الثانوي وفي التحضير لمناظرات التوجيه. وبالتالي يصبح التعليم المتدنّي المسْدى للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب عبارة عن طردٍ للملام على مخالفة فصلين من الدستور الفصل 39 والذي يخص وحدة التعليم وإجباريته ومجانيته وتعميم استخدام اللغة العربية فيه ، والفصل 21 الخاص بالمساواة في الحقوق والواجبات.
هل سيقع التراجع عن استعمال اللغة العربية في التدريس ؟
عند مقارنة نص القانون التوجيهي لسنة 2002 بمشروع 2017 نجد أن هناك فقرة قد اختفت وهي التي تقول: «تدرّس كل المواد الاجتماعية والعلمية والتقنية والفنية في مرحلتي التعليم الأساسي باللغة العربية» (الفصل 24 من القانون 80-2002 بتاريخ 23 جويلية 2002) فهل نفهم أن هدف السيد ناجي جلّول هو تعويض اللغة العربية باللغة الفرنسية في التدريس تحت ضغط السيد اوليفيي بوافر دارفور سفير فرنسا بتونس الذي يتهمه كثير من التونسيين بتجاوز دوره كسفير والتدخّل في الشؤون الداخلية لتونس.
وللتذكير فإن عديد التونسيين يشتكون حاليا من اختبار التلميذ التونسي في امتحان الرياضيات على إتقانه للّغة الفرنسية وليس على استيعابه للمفاهيم الرياضية ، ومعلوم أن أغلب حالات الانقطاع عن الدراسة في التعليم الثانوي تقع في السنة الأولى لكون عديد التلاميذ لا يفهمون نصوص امتحانات الرياضيات والعلوم ويعجزون جرّاء ذلك عن حلّ المشاكل التي كانوا قادرين على حلّها لو كانوا يدرسونها باللغة العربية. خاصة وأن المدرسة التونسية تكرّس في كل مستوياتها اعتبار الرياضيات وسيلة لانتقاء الممتازين. ويعتبر جلّ التونسيين أن تدريس الرياضيات في التعليم الثانوي باللغة الفرنسية هو مسّ من السيادة الوطنية ومخالف صراحة للفصل 39 من الدستور ويأتي نتيجة ضغط اللوبي المتفرنس الذي يسعى إلى جعل أبناءه يتفوقون على أبناء الطبقات الشعبية نظرا للفرق بينهما في التمكّن من اللغة الفرنسية دون أن يكونوا أحسن منهم في الرياضيات.
السيد ناجي جلّول لا يكفيه رفض النقاش في هذه المسألة داخل لجان تحضير الإصلاح التربوي بل تعدّى به الأمر اليوم في مشروع القانون الجديد إلى محاولة بائسة لإرجاع التعليم التونسي إلى فترة الاستعمار حين كان مفروضا علينا دراسة كل المواد باللغة الفرنسية في التعليم الأساسي.
سفير فرنسا يدافع عن بلاده ويريد فرض لغتها على التونسيين وهذا تصرّف مشروع لأن نتيجته تنفع بلاده هو ، وبالمقابل يكون من واجب كل المسؤولين السياسيين الوطنيين في تونس أن يدافعوا عن مصالح بلادنا وعن استعمال لغتها الوطنية داخل حدودها لتسهيل استيعاب العلوم والرياضيات. وهذا ما ننتظره من السيد ناجي جلّول.
هل سينقسم التعليم الأساسي إلى ثلاثة أنواع ؟
وضع المشروع قاعدة قانونية لم تكن موجودة لتتمكّن الوزارة فيما بعد من التفريق بين أنواع التعليم وذلك في الفصل 11 الذي يقول : «تضمن الدّولة حقّ الموهوبين وحق ذوي اضطرابات التعلّم في تعليم يتيح لهم التألّق والامتياز. تُضبط كيفيّة تطبيق مقتضيات الفصلين 10 و 11 بمقتضى أمر حكومي.» وإضافة الأمر الحكومي في هذا الفصل والذي لم يكن موجودا في قانون 2002 جاء لتفادي التصرّف الحالي للوزارة خارج القانون منذ سنة 2007 بإدخالها مسارات مختلفة في التعليم الأساسي الذي من المفروض أن يكون إجباريا وموحّدا حسب قانون 2002. وقد أضاف الفصل 11 «ذوي اضطرابات التعلّم» بجانب «الموهوبين» كسوّاغ يساعد على ابتلاع حربوشة الإعداديات النموذجية ، كما لا يُقصد بالموهبة موهبة رياضية أو موسيقية أو فنية وإنما ترتيب التلميذ في المناظرة ، وكلنا نعرف أن الترتيب بين الأوائل ليس موهبة.
ولضمان امتياز الموهوبين (الفصل 11) في تعليم خاص بهم أدخل المشروع الجديد مناظرتين لينتقي بفضلهما من يراه صالحا لمواصلة التعليم الإجباري ويوجّه من لا ينجح في المناظرة إلى مسار أقلّ كلفة في مرحلة أولى ثم إلى الشارع في مرحلة ثانية. لنبدأ بمناظرة «السيزيام» ونعرض نتائجها المختلفة حسب ما نراه مطبّقا حاليا :
- الذين يحصلون على معدّل 16 من عشرين لكون أهلهم من الطبقة التي تستعمل اللغة الفرنسية في ثقافتها وداخل عائلاتها أو لكون أهلهم أثرياء يدفعون أموالا طائلة للدروس الخصوصية لا يقدر عليها المواطن الزوالي حتى يحصل أبناؤه على ذلك المعدّل. هؤلاء يوجّهون إلى الإعداديات النموذجية التي تضمن لهم ظروف دراسة جيّدة وفائقة للنجاح في مناظرة الختمة (التاسعة أساسي) للدخول إلى المعاهد النموذجية مرتّبين قبل غيرهم من تلاميذ الإعداديات العادية التي لا تتمتّع بنفس الامتيازات ، وهم الذين سيدرسون تعليمهم العالي في الكليات النبيلة (طب ، طب أسنان ، صيدلة ، هندسة ،…) أو في الخارج وما أدراك ما الخارج ، ثم يشغلون عند تخرّجهم المناصب ذات الدخل المحترم.
- في المناطق «الداخلية» التي هي أبعد عن السلطة يوجّه الذين يحصلون على معدّل 14 من عشرين إلى الإعداديات النموذجية – من الصنف الأدنى – الموجودة في جهاتهم ليحضّروا نفس مناظرة الختمة للدخول إلى المعاهد النموذجية وليدرسوا بعد ذلك في كليات ومعاهد أقل نبلا من التي يذهب لها خريجي إعداديات 16 معدّل وليشغلوا عند تخرّجهم وظائف أقل دخلا وأقل سلطة من سابقيهم.
- الذين يحصلون على معدّل أقلّ من 14 على عشرين يتوجّهون إلى الإعداديات العادية وهم يعرفون أن لا مستقبل لهم في هذه البلاد وأن الدولة قد حسمت أمرها منهم وتخصّص لهم أساتذة وإداريين أقلّ كفاءة وتصْرف على كل واحد منهم ميزانية أقلّ بكثير ممّا تصرف على المنتمين إلى الإعداديات النموذجية ، ويعرفون أن أقدامهم لن تطأ كلية الطب أو الهندسة ، ويعرفون أنّهم سيزيدون من طول طوابير العاطلين عن العمل بشهادات جامعية أو بدونها لأن أغلبهم لن ينجحوا في الباكالوريا أو ربّما سيطردون قبل ذلك لضعفهم في اللغة الفرنسية التي على أساس امتلاكها يقع تقييمهم في الرياضيات والعلوم.
وخوفنا كبير أن يتّجه جزء منهم إلى البحث عن المساواة داخل الحقل الديني وفي العبادة والصلاة حيث يتساوى كل الناس عند اصطفافهم للصلاة في المسجد ، وفي الإسلام لا توجد مساجد نموذجية ومساجد عادية ، والتجاؤهم للدين بحثا عن تساوي الفرص سيفتح لهم طريقا معبّدة نحو التطرّف والحقد على الدولة التي يرونها تصرف أموال الضرائب بصورة غير عادلة لتميّز أبناء الأثرياء والحكّام على بقية أبناء الشعب في التعليم الإعدادي الذي من المفروض أن يكون موحّدا وإجباريا حسب دستور 2014.
ليتذكّر السيد ناجي جلّول أنه أقسم عند استلام مهامّه كوزير على احترام الدستور ، ولينتبه إلى أن إطاعة اللوبيات التي لا تعمل للصالح العام قد تؤدّي بالبلاد إلى ما لا تحمد عقباه ، وأن الإصلاح التربوي يجب أن لا يبجّل جهة من البلاد عن أخرى وأن يكون إصلاحا محايدا يهدف إلى تكوين جيل متجانس يحب الوطن ويحترم القانون ويثق في حياد الدولة.
هناك مسألتان هنا. فأمّا التراجع عن اللغة العربية، فالأمر فيها لا يقبل الجدال، وكلّ تراجع عن تعريب التعليم هو خطوة إلى الوراء وتراجع عن مكاسب ثمينة. ويجب أن يحارب بكل هوادة، من قبل المثقفين والأساتذة، ولا أفهم سكوت أساتذة العربية عن هذه التهديدات التي ستمسّهم بشكل أو بآخر فيما بعد.
أما عن التقسيم باعتماد تعليم مخصّص لذوي الاضطرابات أو أصحاب المواهب، فأعتقد أن الفكرة نفسها مهمّة وقيّمة، ولا أوافق على عدم قدرة الطبقة الفقيرة على تمكين أبنائها من التفوّق في هذه المناظرات، والأمر على كل حال يتوقف أيضا على جودة التعليم المقدّم في المرحلة الأولى، فإذا لم تكن مدارس هذه المرحلة قادرة على الاهتمام بالمتفوقين وابراز تفوقهم مهما كان مستواهم الاقتصاديّ، فالمدارس الثانوية أيضا لن تقدر على ذلك، حتى لو لم يكرّس برنامج خاصّ بالمتوفقين، وسينتهي بنا هذا إلى النتيجة نفسها.
فكرة تخصيص مدراس للمتفوقين، يمكن أن تكون مهمّة إذا تم التنقيص من عدد المدارس، والترفيع في حاجز الحصول على حق الدراسة فيها، بمعنى أن تكون مدارس تقبل فقط أصحاب النبوغ الخاصّ والذي يمكن منحهم دراسة خاصّة تتسم بنسق قويّ لا يتحمله الباقون، وذلك بهدف إنشاء مجموعة من النوابغ الذين تحتاج إليهم البلاد فيما بعد. طبعا نحن نعرف أنّ واقع الأشياء لن يتمّ بهذا الشكل، وأنّ معدل 16 لا يسمح بالتفريق بين النوابغ والجيّدين.
أعتقد أن فكرة إصلاح التعليم بهذا الشكل المتسرّع والاعتباطيّ، فكرة سيئة جدا، وسينتج عنها محاولة اصلاحية ترقيعية أخرى بعد عشر سنوات…
هذا المقال في مقدمته يحمل نزعة عدائية مجانية تجاه فرنسا و اللغة الفرنسية و سفير فرنسا
Olivier Poivre d’Arvor الذي يتهمه صاحب المقال بالتدخل في الشؤون الداخلية لتونس و محاولة فرض اللغة الفرنسية في تونس على حساب العربية
لكن الحقيقة مختلفة تماما للخيال الخارق للعادة الذي يريد ترويجه صاحب المقال. اذ ان النشاط الإعلامي للسفير الفرنسي في تونس مراده الترويج لصورة تونس و ثقافتها و سياحتها و فلاحتها و صناعتها التقليدية.. لدى مواطنيه في فرنسا و لدى الأوروبيين بصفة عامة. فالسفير الفرنسي لا يكاد يضيع فرصة واحدة للضهور باللباس التقليدي التونسي او لأكل منتوج تونسي معرف من زيت و عصيدة.. او للرقص على النغمة التونسية او للسفر الى ولايات تونسية معروفة بسياحتها او بثقافتها او بمنتوجاتها الفلاحية..
ثم ان السفير الفرنسي من اكبر مشجعي الثقافة التونسية بمنحه مساحات شاسعة في الفضائات الفرنكوفونية في تونس للكتاب و الفنانين و السينمائين.. التونسيين. و من المفروض ان نشكره على ذلك بكل لطف لانه يساهم في الترويج لصورة لامعة عن بلادنا تونس، عوض التهجم عليه و ترويج الأكاذيب تجاهه!
و ان كان السفير الفرنسي يشجع ثقافة بلاده و هذا شيئ طبيعي جدا عند دبلوماسي فهو يفعل ذلك لترويجها في بلادنا و ليس في محاولة فرضها علينا و على لغتنا كما يزعم صاحب المقال. و هذا لعمري شيء إيجابي جدا اذ يمكننا نحن التونسيون من الولوج الى ثقافة الاخر من خلال أدبه و فنه و عاداته. هذا من شيم كل مجتمع ديموقراطي متفتح على الاخر و متشبع لثقافات العالم في هاته القرية المعلومة التي نعيش فيها.
فكفانا مغالطات مجانية لا تهدف في الأخير الا لنشر الكراهية و العداوة بين الثقافات و نحن لسنا بحاجة لذلك بل نحتاج للتفاهم و التقارب و التلاقح و التسامح بين الثقافات