المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لو كان أفلاطون حيا الآن لأجاد بأنه ”إذا أردت أن تتعرف على أخلاق الشعوب تطلع الفايسبوك الذي تزوره“. فهذا الموقع التواصلي أصبح المُعبر الأهم عن الزايتجايست التونسية. خلف الواجهة الأمامية و خلف حائط التواصل المتعارف عليه، هناك فايسبوك آخر يستعمل أدوات جمالية، أفكار إجتماعية، وتوجهات سياسية لها قوانين و ملزمات لا تطفوا إلى السطح إلى نادرا. هذا الفايسبوك العميق هو المُعبر الوحيد عن تونس التي لا نريد أن نراها. ما الذي يخفيه الفايسبوك السفلي التونسي؟

فايسبوك و الزايتجايست التونسية

أصبح فايسبوك بعد الثورة التونسية أكثر من مجرد موقع إتصال ليعد سوق عكاظ حديث حيث يتعاكظ أغلب التونسيين يوميا في هذا الفضاء الإفتراضي فأصبح بشكل أو بآخر المقصد الأبرز لمن يريد متابعة الأخبار السياسية والإجتماعية أو إستقصاء الأخبار العاجلة أو حتى الترفيه عن النفس. الأهمية الكبرى والمتزايدة لفايسبوك لدى التونسيين و التونسيات أدت إلى تحول هام في أدوات الإعلام السياسي حيث أصبحت أغلب القرارات السياسية أو حتى التدخلات الإعلامية لرئيس الدولة الحالي تنشر أولا على صفحات الفايسبوك قبل أن يعلن عنها على المواقع الرسمية والمخصصة لتلك المهام. ففي حادثة سخيفة قرر السبسي نفي خبر بيع سيارة المرسديس عن طريق نشر فيديو بدائي باهت على صفحة ”هنا قرطاج“.1 بالنسبة لأكثر من ستة ملايين تونسي و تونسية من مستعملي الفايسبوك (بمعدل 55 بالمئة من مجموع السكان) يظل هذا الموقع الأكثر رواجا مقارنة بنظيره تويتر أو إنستجرام (بنسبة 8 بالمئة) أو حتى لينكد إن (نسبة ضئيلة جدا).2 هذا الإقبال الكبير على إستعمال الفايسبوك هو دليل على إقتران إهتمامات الفرد التونسي العادي بما يقع يتداوله يوميا على هذا الموقع. في مكانته المتجددة كموقع ناقل للحدث السياسي والإجتماعي والثقافي، أصبح فايسبوك المُعبر الأهم عن روح العصر التونسية.

ما هو الفايسبوك السفلي؟

استعملت هنا عبارة ”الفايسبوك السفلي“ كناية باصطلاح ”الشبكة العنكبوتية العميقة“ (Deep Web) الذي يشير إلى الكم الهائل من المعلومات التي تكون أكثر من 96% مما يوجد على الأنترنات في حين لا تشكل المواقع المعروفة كجوجل أو ويكيبيديا وغيرهما سوى 4% من مجموع مايتداول داخل ذلك العالم الإفتراضي.3 قياسا بمصطلح الإنترنت الخفي، والذي يشير خاصة إلى الجانب المعرفي المعلوماتي وليس الجانب التقني (والذي يرمز له بمصطلح ”النات العميق“ Deep Net)، فإن الفايسبوك العميق هو الجانب الأخر للفايسبوك المتعارف عليه في تونس كموقع إخباري وترفيهي. رغم أنه ليس بمستوى سرية و غموض ال- Deep Web، فإن الفايسبوك السفلي التونسي يشترك مع الإنترنت الخفي في خصائص كثيرة.

جماليات الفايسبوك السفلي

كما يستخدم مستعملي الديب ويب عملة الكترونية خاصة ”بِتكوين“ فإن للفايسبوك السفلي أدوات جمالية و حسية مختلفة تماما عن ما يقع تداوله عادة على الصفحات و المتنديات المعروفة و المتداولة. ببساطة، ليس هناك قيود أخلاقية أو ايتقية تفرض على ما يقع تداوله ونشره هناك. مثلا إذا كنت تبحث عن الترفيه عن رغبة سادية أو نكيروفلية فستجد المئات من الصفحات التي تروج لصور جثة إرهابي مقطوعة الرأس بعد أحداث جبل الشعانبي الإرهابية أو مشاهدة مقطع فيديو لعملية إغتصاب ما أو حتى مشاهد النتكيل بحيوان معين. هناك نوع من البدائية الهجينة في تبليغ المعلومة أو الخبر بشكل تصبح الصورة أمرا ثانويا والسفسطة الجمالية شيئا مستهجنا فلا تناسق في الألوان و لا توازن في الأشكال و لا معايير لذة فاضلة. على العكس تغلب على جماليات صفات الهجن والعنف و الفظاظة والخشونة.

هذه الفجاجة و الإبتذال الجمالي يكتسي أهمية بالغة كأدوات تعبيرية عن العنف المعنوي التي تروج له. إن الفايسبوك السفلي هو المُعبر الأوضح عن غياب أي ثورة ثقافية في تونس. فهذا العالم الإفتراضي الخفي هو الكاشف عن رواج أفكار ظلامية تشكل الخطر الأساسي ضد أي مشروع حداثي. هل تتساءلون كيف للمجتمع التونسي أن ينتج أكثر من خمسة ألف إرهابي داعشي؟ هل تستنكرون كيف مازال العنف والتحرش الجنسي واقعا تونسيا؟ هل ترفضون أن تنعم شخصيات دكتاتورية و دموية كهتلر بشعبية بالغة لدى المراهقين وغيرهم؟ الإجابة هي العنف المعنوي المنتشر داخل الفايسبوك العميق و الذي يغذي النزعات الرجعية والإسبتدادية.

أي فكر إجتماعي يغذيه هذا الفايسبوك الخفي؟

يحتوي الفايسبوك التونسي الخفي على مزيج مدهش من التناقضات؛ فعلى شاكلة الإنترنت الخفي، يختلط الحابل بالنابل فإلى جانب رواج الصفحات المروجة للفكر الجهادي الوهابي تكثر المنتديات التي تقدم نصائح و خدمات جنسية والناشرة بشكل مكثف لآخر مقاطع البورنو محلية المحتوى بأسلوب دعائي مباشر وصريح كذلك تكثر صفحات ذات الفكر المحافظ المبتذل من نوع ”حملة #لا_للتبرج“. طبعا هذا الفكر الإجتماعي الرجعي هو قديم قدم التاريخ وليس مقترنا بإنتشار وسائل الإتصال الإجتماعي كفايسبوك أو غيره. غير أن ما يمكن تأكيده هو أن هناك علاقة مباشرة بين تنامي الرجعية الفكرية و رواج العوالم الإفتراضية السلبية كالفيسبوك السفلي. فمثلا اشارت مجموعة مقالات حول موضوع العار في عالم الانترنات نشره موقع البي بي سي عربي4 حول السيطرة النفسية المتنامية التي تخضع لها المرأة العربية عموما أمام سطوة الفكر المحافض المتشدد الذي يغذيه الأنترنات إجمالا، و أضيف هنا، الفايسبوك السفلي خاصة. مقال آخر مهم لنورا لوريتو5 حللت فيه تداعيات الأحداث الأخيرة في مقاطعة كيباك الكندية و ناقشت فيه كيف يتحول المزاح العنصري إلى عنف مادي مما يؤكد إرتباط إستعمال الإنترنت الخفي بتنامي العنف المقدس.

طبعا ليس لدي معلومات مؤكدة أو دراسات علمية حول هذا الموضوع الشائك، لكني أريد أن أؤكد بأن تصاعد الأصولية و تنامي شيزوفرينية التدين داخل المجتمع التونسي بعد الثورة هو نتاج التأثير الكبير للفايسبوك الخفي على الفهم الإجتماعي البسيط للدين والتدين. فبعد رواج القنوات الفضائية الناشرة للفكر الأصولي الوهابي في فترة التسعينات و العشرية الأولى من هذا القرن، إنتشر نفس الفكر الرجعي داخل فضاءات الفايسبوك الخفي. هذا الفكر الإجتماعي الرجعي هو المغذي للشخصية التونسية الشعبية المتناقضة.

هل له تأثير سياسي؟

التأثير السياسي للفايسبوك السفلي له تداعيات مركزية وكبيرة بشكل لامحدود. بإختصار، لطالما كانت الأخلاق والثقافة أم المعارك الأولى للحركات الرجعية الفاشية على مر التاريخ وآخرها تنظيم الدولة الجهادية داعش مثلا. من هذا المنطلق، يعتبر رواج الفايسبوك السفلي هو أكبر دليل على إنتشار الدعوة الداعشية داخل المجتمعات العربية، ومنها تونس، من الداخل. فإذا اعتبرنا بأن داعش هي أولا وأخيرا مشروع فكري إجتماعي لاغير خصوصا أمام عجز مفكريه و زعمائه على بلورة مشروع سياسي دائم قادم على تحقيق التنمية الإقتصادية والإستقرار الإجتماعي، إذن سيرورة هذا النموذج الفاشي يقترن اقتران كاملا بإنتشار أفكاره الأخلاقية والثقافية داخل الأوساط الشعبية فكريا (وليس بالضرورة بالمفهوم الإقتصادي). بشكل أو بأخر، إنتشار الفكر الداعشي داخل المجتمع التونسي هو نتاج لرواج الفايسبوك السفلي الدال على الغياب الكلي لأي ثورة ثقافية ما.

في الختام، ما أردت التعقيد عليه هو أن إنتشار الفايسبوك السفلي و الفكر الرجعي و البطريركي الفاشي هو دلالة على مجتمع تونسي مريض. ما استغربه أن السمة الغالبة على النقاش السياسي الإجتماعي الحالي (للدقة هو تضارب مواقف أكثر من أن يكون نقاشا جادا) هو التركيز المفرط على المعطى الإقتصادي كحل سحري للمشاكل الحالية. أرى أن مايجب الإهتمام به هو إعادة البناء الثقافي والإجتماعي السليم القادرعلى إنتاج مجتمع تونسي ناف لأفكار الفايسبوك السفلي الهدامة و المتقبل لمشروع تنموي إجتماعي وثقافي وإقتصادي طويل المدى.