بعد أيام قليلة من خطاب الرئيس -الذي أشار فيه إلى أن نسبة النمو الاقتصادي شهدت ارتفاعا- نشر المعهد الوطني للإحصاء أمس الإثنين 15 ماي 2017 أرقاما جديدة، ورد فيها أن الناتج الإجمالي المحلي عَرِف نموا بنسبة 2,1 بالمائة خلال الثلاثية الأولى لسنة 2017، أما البطالة فقد تراجعت خلال الثلاثي الأول من هذه السنة إلى 15,3 بالمائة مقارنة بالثلاثي الرابع لسنة 2016 الذي بلغت فيه 15,5 بالمائة.

الإعلان عن ارتفاع النمو وتراجع البطالة، في ظل وضع عام مَشوب بالتدهور الاقتصادي والقلق الاجتماعي، يحمل على الذهاب خلف الأرقام والمؤشرات لتفكيك العلاقة بين الإحصائيات الرسمية والسياسات الحكومية، كما يستدعي التساؤل حول مناهج الإحصاء ومدى قدرتها على إعطاء صورة شاملة للواقع التونسي، فهل أن أرقام النمو والبطالة الجديدة تخفي استراتيجيا البحث عن إنجازات وهمية  داعمة لشرعية البقاء؟

نمو رغم انهيار القطاعات المُنتجة

نِسب النمو الاقتصادي التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء سرعان ما تلقفتها الدعاية الرسمية لتجعلها مؤشرا على “تعافي الاقتصاد التونسي” و”اتجاهه نحو تحقيق نسبة نمو 2,5 بالمائة سنة 2017″، وفق ما صرح به فاضل عبد الكافي وزير التنمية والاستثمار. التأويل الرسمي للإحصائيات يعكس توظيفا لتطور ظرفي في قطاعي الفلاحة والسياحة لإخفاء الإنهيار البنيوي الذي تعيشه القطاعات المنتجة (الصناعة، الفلاحة).

تم احتساب مؤشر النمو الاقتصادي –حسب منشورات المعهد الوطني للإحصاء- من خلال قياس تطور القيمة المضافة لعدد من القطاعات: الصناعات المعملية وغير المعملية، الفلاحة والصيد البحري، الخدمات المسوقة وغير المسوقة. ومن الملاحظ أن قطاع الصناعات المعملية تراجع بنسبة 1,1 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2017 مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2016، إضافة إلى انخفاض في قطاع استخراج النفط والغاز الطبيعي بنسبة 3 بالمائة. أما القطاعات التي شهدت نموا في قيمتها المضافة فهي أساسا الفلاحة والصيد البحري بنسبة 4,9 بالمائة في الثلاثي الاول من 2017، ولعل الطفرة الموسمية لبعض المنتوجات الفلاحية ساهمت في خلق هذا الارتفاع، على غرار إنتاج القوارص الذي سيبلغ –حسب الإحصائيات الرسمية- 600 ألف طن لهذه السنة مقارنة ب380 ألف طن خلال الموسم الفارط. أما قطاع الخدمات المسوقة شهد نموا بـ3,4 بالمائة ساهم فيه بالأساس ارتفاع القيمة المضافة لخدمات النزل والمقاهي بفضل الانتعاشة الظرفية التي تمر بها السياحة.

استمرار انخفاض القيمة المضافة لقطاعي الصناعة واستخراج النفط والغاز مقابل النمو الموسمي والظرفي للفلاحة والسياحة، هل يمكن اعتبارها مؤشرا على بداية تعافي الاقتصاد التونسي؟ في هذا السياق أكد مصطفى الجويلي، أستاذ الاقتصاد لموقع نواة “الحديث عن نمو الاقتصاد التونسي لا معنى له، لأنه لايعكس نموا للقطاعات المنتجة مثل الصناعة والفلاحة التي تشكل عماد الاقتصاد، أما تطور القيمة المضافة لقطاع الخدمات مثل السياحة لا يمكن اعتبارها دلالة على النمو الاقتصادي لأنه قطاع غير خالق للثروة”. وأضاف الجويلي بأن “هناك إشكال منهجي في المقارنة الإحصائية التي تم حصرها بين سنة 2016 و2017، لأن الحديث عن تعافي الاقتصاد يتطلب مقارنة واقعية مع مؤشرات سنة 2010، كما أن احتساب مؤشر النمو في ظرف يتسم بطفرة في بعض المنتوجات الفلاحية وانتعاشة محدودة لقطاع السياحة لا يعطي صورة شاملة لواقع الاقتصاد التونسي، ولعل الهدف منه دعائي بالأساس”.

تراجع البطالة:الهوة بين الواقع والأرقام

الترابط الإحصائي بين ارتفاع نسبة النمو وخلق مواطن شغل جديدة جَعل المعهد الوطني للإحصاء ينشر معدلات البطالة والتشغيل، ليسجل تراجعا آليا في النسبة الوطنية للبطالة إلى حدود 15,3 بالمائة خلال الثلاثي الأول لسنة 2017 مقارنة بـ15,5 بالمائة خلال الثلاثي الأخير من سنة 2016. هذا التراجع أدى حسب نفس المصدر إلى انخفاض عدد المعطلين بنسبة 6900 (مواطن شغل جديدة). ولعل وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي قدّم حصيلة أخرى لمواطن الشغل الجديدة بلغت حدود الـ15 ألف، وذلك انسجاما مع نسبة النمو المُسجّلة.

تعكس النسب الرسمية حول تراجع البطالة سعيا حكوميا إلى الإيهام بوجود تغيير اجتماعي مُساوق للنمو الاقتصادي. ولكن الأرقام الرسمية تصطدم في حقيقة الأمر بواقع مغاير، يطغي عليه تنامي الحركات الاحتجاجية المطالبة بالتشغيل خصوصا خلال الثلاثية الأولى لسنة 2017. إضافة إلى تجميد الانتداب في القطاع العام وركوده في القطاع الخاص خصوصا في ظل موجة الغلق التي تعرفها العديد من المؤسسات الخاصة. في هذا السياق أكد سالم العياري، المنسق الوطني لاتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل، لموقع نواة أن “تراجع البطالة يندرج ضمن استراتيجيا التهدئة التي تتبعها السلطة ولايعكس واقعا اجتماعيا، لأن عدد المعطلين عن العمل في ازدياد خصوصا في ظل توافد المتخرجين الجدد من الجامعات، كما تشهد البلاد ظاهرة فقدان الشغل خصوصا في القطاع الخاص”. وأضاف العياري بأن “اللجوء إلى أن مكاتب التشغيل أصبح فاقدا لأي مصداقية، لأن هذه المؤسسات تحولت فقط إلى مكاتب تسجيل مرهقة وهي تكلف ميزانية الدولة أموالا باهضة”.

إن النسب الرسمية علاوة على ما تطرحه من إشكاليات سياسية متعلقة بالتماهي بين مؤسسات الإحصاء وتوجهات السلطة فهي تكشف عن إشكالات منهجية وأخلاقية تقوض مصداقية هذه الؤسسات، وفي هذا السياق سبق وان نشر موقع نواة تحقيقا حول معدلات الفقر التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء أواخر ديسمبر 2016، وأوضح فيه التلاعب المنهجي والإحصائي الذي شهدت عملية الإحصاء.