المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

الدّكتور منصف حمدون برز اسمه بإلحاح في أوج هجوم نظام الجنرال بن علي على المجتمع التّونسي أواخر الثّمانينات، كما تناوله موقع نواة عديد المرّات. وكانت الحملة قد أسفرت عن تمدّد قائمة الوفايات المسترابة في وقت كان فيه النّظام في أمسّ الحاجة إلى اكتساب شرعيّة تُنسِي أنّه وصل إلى السّلطة بانقلاب مسلّح ولو كان أبيضا و كانت انتخابات 1989 ما تزال ماثلة للأذهان كتكرارٍ مملّ لما كان سائدا زمن حكم الحبيب بورقيبة. كان بن علي قد أحاط نفسه ببعض الوجوه اليسارية و المستقلّة ذات السّمعة وأطلق بمساعدتها حملةَ تواصلٍ دوليّة حثيثة لكسب ودّ الأوساط الخارجية في نفس الوقت الذي كان يجيّش فيه الدّولة و الحزب الحاكم والبيروقراطية النقابية بقيادة إسماعيل السّحباني و من أراد من الوسط المعارض لبسط سلطانه على البلاد و العباد والقضاء على كلّ نفس مخالف.

في ذلك الإطار، قامت الحكومة التّونسية منذ 1988 بسحب تحفّظاتها على الفصلين 21 (شكوى دولة ضدّ دولة) و 22 (شكوى فرْد ضدّ دولة) من الإتّفاقية الدّولية ضدّ التّعذيب لسنة 1984 كما أدخلت تحسينات على النظام القضائي أنقص من مدّة الإيقاف التّحفّظي و الإحتفاظ واعترف ببعض الحقوق الجديدة للمساجين وغير ذلك ممّا كان الإعلام الرّسمي لايترك فرصة ٍتمرّ إلاّ ذكّر به الأوساط الأجنبية قبل الدّاخلية، حيث كان ممثّلو المنظّمات الدّولية يتردّدون على البلاد ويحضون بمقابلة الرّئيس و كبار المسؤولين ولكنّهم إذا ما تحرّكوا إلى داخل المجتمع يلاحظون الرّقابة اللّصيقة التي تُسلّط عليهم و يأتيهم خبر تعرُّضِ البوليس السّياسي لكلّ من يكون تجرّأ على التّحدّث إليهم …

في تلك الظّروف التي بدأت تمّحي من بعض القلوب و ما بالعهد من قدم، توفّي الرّائد محمّد المنصوري بعد تعذيب بشعٍ و مطوّل شهِد بعضَه صحبي العمري الذي كان موقوفا مع الضّحيّة في الطّابق الثّالث سيّء الذّكر من وزارة الداخلية في قلب العاصمة . وقد روى العمري ما سعى إليه من إسعاف المصاب عندما تركه الجلاّدون بين الموت و الحياة و لكن كان الأوان قد فات و إذا بالشّاهد يطّلع على شهادة طبّيّة ممضاة من قبل دكتوريْ الطّبّ الشّرعي عبد العزيز غشّام و منصف حمدون اللّذين ذكرا أنّ الوفاة عاديّة وليس فيها ما يستراب و يكونان بذلك قد أخفيا أوّل جريمة قتل يرتكبها الجنرال حاكم تونس بحضور طبيب تمكّن من المعاينة المباشرة لمسار التّعذيب و لنتيجته المأساوية، في مقرّ سياديّ و على بعد أمتار من مكتب وزيرالدّاخلية الجنرال الحبيب عمّار.

بالنّسبة لي ، كانت تلك الجريمة التي تابعْتُها في حينها مع بعض أقارب الرّائد الشّهيد، ضاعت حقوقهم الى الآن لأنّ شهداءهم لم يصادفوا طبيبا يوثّق مأساتهم إلاّ أن يكونوا اهتدوا إلى هيئة الحقيقة و الكرامة كملاذ وحيد.

وبما أنّ الّنّظام القضائي مازال على ما يبدو متردّدا في مسايرة عملية وضع الطّبيبين الشّرعيين الصادق ساسي و عبد السّتّار حلاّب في مكان الجناة و أعوانهم ، في تطبيق حرفيّ لخطّة الصّادق شعبان الموثّقة في رسالته إلى الجنرال بن علي بتايخ 26 أكتوبر 1992، فإنّ عَرْضي هذا للقضية يمثّل رسالة عاجلة إلى وزير العدل، المسؤول الأوّل عن النّيابة العمومية و إلى قضاة العدلية في الوطن القبلي حيث لنا تجارب مريرة طيلة ربع القرن الماضي، ليتيقّظوا لِفعال زهير مخلوف السّاعي منذ الثّورة لتطويع المؤسّسة القضائية لأعوان النظام السّابق وعملائه المتنفّذين في أعماق الدّولة والذين يشترون كلّ ماهو قابل للبيع. ومن مظاهر تواصل هذا التّمشّي إصرار التعقيب الأخير لقرار ختم البحث الذي أخرج الأطباء من خانة المتّهمين في قضية الشهيد رشيد الشّمّاخي إلى موقعهم الطّبيعي كخبراء شرعيّين محايدين وثّقوا ما عاينوه على جثّة الشّابّ المغدور حيّا و ميّتا. والحال أنّ قاضي التّحقيق المتعهّد بقضية شهيد سليمان شكر عمل الطّبيبين الذي جعل اتّهام الجلاّدين يقوم على أدلّة المعاينة العلميّة الرّسميّة و ليس فقط على شهادات الشّهود. وهو نفس القاضي الذي كان أمر بحبس الطبيبين في بداية تعهّده.

في هذا السّياق التّاريخي و السّياسي يكون حمدون من الأسماء التي ارتبطت بشكل وثيق ومتواصل على مدى ربع قرن بقضية استشهاد الطّالب فيصل بركات بمقرّ فرقة الأبحاث والتّفتيش للحرس الوطني بنابل، 20 يوما بعد رشيد الشّمّاخي الذي لم ينجُ بدوره من “اختبار” عندما أخرجت رفاته بعد الثورة و قام أطبّاء السلطة، تحت إشراف منصف حمدون، رئيس القسم، بنشر تقرير مشبوه كسابقه ودائما لنفس السّبب وهو إعداد الطبيبين ساسي وحلاّب ، اللّذين قاما بتشريح جثّة رشيد حال وفاته ، لِأن يكونا كبْشَيْ الفداء لصالح أعوان بن علي و جلاّديه.

ولكن لنبْقَ في قضية فيصل حيث طَلَبَتْ السلطة آنذاك من حمدون أن يبدي رأيا علميّا و مهنيّا في سياق دَفْعِها بأنّ وفاةَ الشّهيد لم تكن تحت التعذيب ، مثلما أثبته التّشريح الطّبّي للدّكتورين الصّادق ساسي و عبد السّتّار حلاّب و الذي صادقَهما عليه الخبير الدُّولي ألأستاذ الأسكتلندي درّيك باوندر POUNDER ، فلمّا أخْبَرْتُ السّيّد باوندر بما يأتيه أطبّاء السّلطة للتّعمية على الجريمة و تمكين الجناة من الإفلات من العقاب بالقدح في اختباره هو كطبيب محايد ، وافاني بِردٍّ قاطع عبّر فيه عن تمسّكه بالقراءة التي قام بها لتشريح زميليْه ساسي وحلاّب و توكيده استحالة فرضية حادث المرور، بل و ذهب إلى تأكيد استعداده للمثول أمام اللّجنة الأمميّة ضدّ التّعذيب لمزيد شرح رأيه وإنارة العدالة الدّولية … وختم بأن تمنّى لي التّوفيق في مواصلة المشوار وكأنّه كان يتوقّع العنت الشّديد الذي كان ينتظرني وقتها والذي كان يصعب تصوُّرُ حجمه بُعَيْد الثّورة وما يزال يستفْحل إلى اليوم.

ردّ د. باوندر الى خالد مبارك ، الشّاكي ممثّل الشّهيد والنّاطق باسمه لدى الأمم المتّحدة حول “اختبارات” حمدون و جماعته

لذلك كان لقاؤنا في العاصمة في آخر فيفري 2012 ، عندما جاء لمتابعة إخراج رفاة الشّهيد ، لقاء مؤثّرا إلى أبعد حدّ …

مع د. باوندر الذي يراقب أطبّاء السّلطة عن كثب

أمّا في خصوص د. حمدون، فهو بقي وما زال يلاحق فيصل ساعيا إلى الإجهاز عليه نهائيّا لعلّه ينزع رقبته من قبضة الطّالب المغدور والذي ما زال طيْفُه يؤرِّق قتلَتَه وشركاءَهم من سياسيين و أمنيين و أطبّاء السّلطان و محامين متمعّشين و صحفيين متهافتين تافهين.

ولْيكنْ في علم الرّأي العام و المهتمّين بالقضية أنّ أكثر من سعى إلى قبْر قضيّة الشّهيد فيصل باللّعب على الجانب الطّبّيّ هو آخر وزير للعدل في عهد بن علي، البشير التّكّاري و هو الذي كان راسل اللّجنة الأممية عن طريق وزارة الخارجية واعدا بتعهُّدِه الشّخصي بأن يتمّ القيام بإخراج رفات الشهيد و إعادة فحصها كما طلبت اللجنة الأممية ذلك منذ 1999. ولأهمّيّة هذه الوثيقة التي تمكّن من مقارنة سلوك وزارة العدل قبل الثّورة و بعدها ، فإنّي أنشرها عبْر موقع نواة مع التّنويه إلى أنّني وضعتها بتصرّف قاضي التّحقيق ولكنّ ذلك لم يمنعه من ترك ساحة الوزير التورسيوقراطي و اتّهام الطّبيب الصّادق ساسي، شاهد الإدانة الجدّي الوحيد.

⬇︎ PDF

وبما أنّ فيصل كان سيبلغ الخمسين من عمره في اليوم الرّابع من ماي 2017، و هو ما يزال يصارع المتآمرين عليه و السّاعين إلى الإقتتات من رأسه ويدفعهم إلى كشف ألاعيبهم، فقد آن الأوان ليطّلع الرّأي العام الوطني والأوساط الدّولية المعنيّة و جمهرة أطبّاء تونس على أحد أهمّ جوانب ذلك التّآمرالمتواصل الذي يقوم عليه د. منصف حمدون.

فبعد السياسيّين (الصّادق شعبان ، عبد الله القلاّل ، عياض الودرني …) و المحامين وجب عرض الحالة الخاصّة لهذا الطّبيب الذي يتميّز على كل من أحرقوا أصابعهم قبله بالإصرار على دوْرِه ومثابرته على الباطل، حتى بعد الثّورة وهو يعلّق آمالا عريضة على لعب الوقت حتّى يضمن الإفلات من السّؤال.

ولْيكنْ في علم أطبّاء تونس و منظّماتهم من عمادة و نقابة وكلّ أصحاب المهن الطّبّية أنّ اطّلاعهم على كلّ الحقائق الموثَّقة التي هي الآن بين أيديهم والتي تُثبت قمعَ و هرسلة و ابتزاز زملائهم منذ الثّورة بأكاذيب لم توجَدْ إلاّ بعد 14 جانفي 2011، دون أن يُبْدُوا حراكا أو يحرّكوا ساكنا، فإنّهم يخِلّون بواجب الزّمالة المنصوص عليه في مدوّنتهم ويساهمون في وضعية يمكن أن تَحْدُث لأيٍّ منهم إضافة إلى تنكُّرِهم لأبسط قواعد العدل حيال زملاء قاموا بواجبهم وهم مسخَّرون ، في قضيتين هما الحلقة الأضعف فيهما . والحديث هنا عن الدّكاترة الصّادق ساسي و عبد السّتّار حلاّب وعلي عيّاد ومعهم بشكل أو بآخر جمال الدّين سويلم وآخرَيْن ذكَرَهُما على رؤوس المَلَءِ بعضُ من لا يُعْتَدُّ بقولهم وسوف نفصّل الحديث عنها قريبا.

يضاف إلى ذلك أنّ حمدون و كلُّ الشركاء في الجريمة امتنعوا عن وضع أنفسهم على ذمّة هيئة الحقيقة و الكرامة حتى يتسنّى لهم الإعتراف فالإعتذار فربّما العفو لذلك فهم اختاروا أن يكونوا من أنظار القضاء العادي و الرّأي العام الذي يطالبهم بكشف الحساب. بل هم أثبتوا أمَلَهُم اليائس في غَلَبَة تكتيك عياض الودرني و فتحي عبد النّاظر الذي قدّماه إلى بن علي كما تُبيِّنُه الوثيقة التالية ، التي هي بداية الحرب الطّبّيّة على الخبراء الذين وثّقوا التّعذيب لحظة وقوعه:

ذلك هو أصل السيناريو الذي سيتبنّاه الصّادق شعبان ويعطيه صبغةَ مُخطّط الدّولة بعد بضعة أسابيع في رسالته الشّهيرة أسفله ، ثمّ يأتي البشير التكّاري ليُواصلَ السيناريو إلى سقوط النّظام ولِينطلق من جديد بمساعدة قسم الطّبّ الشرعي و رئيسه البروفسور منصف حمدون ، الذي سوف نسأله في المقال القادم ما لم يسأله إياه قضاء ميؤوس منه أو يكاد وما يمكن أن يُفيد هيئة الحقيقة و الكرامة : كم رأيا طبّيّا قَدّم في قضيتَيْ بركات و الشمّاخي كطبيب شرعي و كرئيس قسم ؟ ما علاقته بجثّة فيصل ؟ كيف دخلَتْ و كيف خرجتْ جثّةُ الشهيد من شارل نيكول في أكتوبر 1991 ؟ بل كيف نفى د. حمدون سنة 2016 وهو يجادل راضية النصراوي، أن تكون الجثّةُ إياها قد مرّت أصلا من القسم الذي يديره ؟ تأمّلوا هذه الوثائق و كيف آلت القضيّتان إلى الوضع الذي هما عليه اليوم، وللحديث بقية.