بينما كانت معظم وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي منكبّة على متابعة تطوّر الأحداث في تطاوين خصوصا بعد مقتل الشاب أنور السكرافي أثناء فضّ إعتصام الكامور، انتقل الاهتمام الإعلامي والشعبي على حدّ سواء بصفة كليّة إلى ما عُرف “بحملة الأيادي النظيفة” التي انطلقت في 23 ماي 2017 مع إيقاف رجل الأعمال الصاخب شفيق جرّاية ومرشّح الانتخابات الرئاسيّة 2014 ياسين الشنّوفي وعدد آخر من رجال الأعمال والمهرّبين. وفي 26 ماي 2017، أعلنت لجنة المصادرة قرارها بمصادرة أملاك رجال الأعمال الموقوفين على ذمة التحقيق والذّين بلغ عددهم ثمانية إلى -حدود كتابة هذه الأسطر- ليخرج الناطق الرسمي باسم الحكومة إيّاد دهماني ووزير أملاك الدولة ووزير الداخليّة في 07 جوان 2017 في ندوة صحفيّة ثانية زادت من غموض الحملة، فباستثناء أسماء المشمولين بالمصادرة والإقامة الجبرية، لم تفصح الندوتان عن أيّ تفاصيل أخرى.
نفض الغبار عن لجنة المصادرة
أطّل رئيس لجنة المصادرة منير الفرشيشي في 26 ماي الفارط خلال ندوة صحفيّة ليعلن عن قرار تجميد أرصدة وحجز الممتلكات العقارية والمنقولة لكل من منجي بن رباح وهلال بن مسعود بشر وشفيق الجراية وياسين الشنوفي وعلي القريري ونجيب بن إسماعيل ومنذر جنيح وكمال بن غلام فرج.
حملة الإيقافات الأخيرة، نفضت الغبار عن لجنة المصادرة التّي أحدثت بمقتضى المرسوم عدد 13 لسنة 2011 مؤرخ في 14 مارس 2011 الذّي نصّ على مصادرة جميع الأموال المنقولة والعقارية والحقوق المكتسبة بعد 7 نوفمبر 1987 الراجعة لرئيس الجمهورية الأسبق زين العابدين بن علي وزوجته والعائلة الحاكمة التي تمّ ضبط أفرادها في قائمة ملحقة. كما يشمل عمل اللجنة من قد يثبت حصولهم على أموال منقولة أو عقارية أو حقوق جراء علاقتهم بالقائمة الأولى. وتتبع هذه اللجنة إداريّا وزارة أملاك الدولة والشؤون العقاريّة ويمثّلها لدى المحاكم المكلّف العام بنزاعات الدولة. كما تضمّ تركيبتها ممثّلين عن وزارة الماليّة والبنك المركزي ودائرة المحاسبات. لينتهي عملها بإحالة الأملاك المصادرة المثبت فساد مصدرها إلى اللجنة الوطنية للتصرف في الأموال والممتلكات المعنية بالمصادرة أو الإسترجاع لفائدة الدولة والتي تمّ إحداثها لاحقا وفق المرسوم مرسوم عدد 68 لسنة 2011 مؤرخ في 14 جويلية 2011.
هذه اللجنة، سرعان ما غابت عن المشهد الإعلامي والسياسي عقب موجة المصادرة التي شملت القائمة الأساسيّة، لتفتح جدلا آخر لم يُحسم بعد حول مآل الممتلكات المصادرة التّي تتجاوز قيمتها مئات ملايين الدينارات من عقارات وأسهم في شركات تجارية ومؤسّسات إعلاميّة وأرصدة بنكيّة. الحملة الأخيرة للإيقافات المفاجئة وقرار مصادرة أملاك ثمان من رجال الأعمال الموقوفين، أعادت لجنة المصادرة إلى صدارة اهتمامات الرأي العام، ليصعد رئيسها على عجل في 26 ماي 2017 معلنا عن استئناف العمل على القائمة الثانية التي تشمل من استفادوا بمنافع مالية وتجاريّة من علاقتهم بعائلتي الرئيس الأسبق وحرمه.
إستدعاء على عجل ومصادرة بمحض الصدفة
العملية التي انطلقت يوم الجمعة 23 ماي 2017 بإيقاف رجلي الأعمال شفيق جرّاية وياسين الشنّوفي المرشّح السابق للانتخابات الرئاسيّة، مضت قدما في إسقاط “الرؤوس” واحدا تلو الآخر لتفتح المجال واسعا أمام سيل من الإشاعات والتكهّنات خلال الأيّام اللاحقة. جدل قوبل بصمت حكومي تامّ لم يكسره سوى رئيس لجنة المصادرة منير الفرشيشي الذّي خرج في ندوة صحفيّة بعد 3 أيّام ليعلن قائمة الأسماء المشمولة بالمصادرة دون الخوض في تفاصيل أخرى. هذه الندوة التي خلت من التفاصيل والمعطيات الواضحة فتحت المجال أمام سلسلة من الأسئلة حول الأسس القانونية لهذا الإجراء وحجم الأموال المصادرة وآليات تحديد المشمولين بالقرار. تصريحات انضبطت لسياسة الحكومة التواصليّة المنتقاة بامتياز وفاقمت من حالة الضبابيّة التّي تزامنت مع تقديم القاضية الادارية سامية البكري إستقالتها من لجنة المصادرة لرئيس الحكومة يوسف الشاهد يوم الاثنين 29 ماي الفارط دون الكشف بشكل مباشر ورسمي عن سبب الاستقالة وخلفياتها.
الغياب التام للتفاصيل، وإصرار رئيس اللجنة منير الفرشيشي على التكتّم حول عمليّة المصادرة وحجمها، تجلّى في مختلف تصريحاته الإعلاميّة التي كان أهمّها حواره على أحد الإذاعات الخاصّة في 29 ماي الفارط ليسهب في شرح الأسس القانونيّة لعملية المصادرة والأطراف المتداخلة وطبيعة العمل الذّي سبق العمليّة. حيث أكّد منير الفرشيشي أنّ الأسس القانونيّة لعمليّة المصادرة ترتكز على الجزء الثاني من الفصل الأوّل من المرسوم 13 والذّي يفتح المجال لتوسيع عمليّات المصادرة لتشمل ما أسماه “الفرع الثاني” ممن استفادوا بعلاقاتهم بالقائمة الأولى لعائلتي الرئيس الأسبق وزوجته لتحقيق منافع مالية وتجاريّة. القائمة الثانية بحسب رئيس لجنة المصادرة تعود إلى عهد الرئيس السابق للجنة نجيب هنان المعيّن على رأس هذا الهيكل في سنة 2012، حيث تحدّث الفرشيشي عن مسودّة لأسماء رجال أعمال ومتورّطين في الفساد بدأ العمل عليها منذ تعيينه في أوائل السنة الجارية. ليوضّح هذا الأخير فيما بعد أنّ عمليّة المصادرة تمّت في المطلق على جميع ممتلكات المشمولين بالقرار، في انتظار تعيين المؤتمنين العدليين لبدأ عملية الجرد والإحصاء وفرز الممتلكات المعنية بالمصادرة والتي يعود مصدرها إلى مرحلة ما بعد 7 نوفمبر 1987 إلى 13 جانفي 2014، واستثناء باقي الممتلكات.
أصرّ رئيس لجنة المصادرة منير الفرشيشي خلال هذا الحوار المطوّل على عدم وجود أيّ علاقة بين الإيقافات التي قامت بها الحكومة مؤخرا لعدد من رجال الأعمال، وبين القرارات التي أصدرتها اللجنة بخصوص عدد من هؤلاء الموقوفين بحجز ممتلكاتهم، معتبرا أنّ التزامن بين الحدثين كان محض صدفة!!
أسئلة دون أجوبة
المصادرة التّي تزامنت مع حملة الإيقافات، تركت أسئلة كثيرة حول ملابسات هذه العمليّة، خصوصا مع تواصل غياب الأجوبة الواضحة في الندوة الصحفية الثانية المشتركة بين الناطق الرسمي باسم الحكومة إيّاد دهماني ووزير أملاك الدولة ووزير الداخليّة يوم أمس 07 جوان 2017. حيث ظلّت عديد النقاط مبهمة خصوصا حول قيمة الأملاك المصادرة. الناطق الرسمي للحكومة وكاتب الدولة لأملاك الدولة والشؤون العقاريّة لم يشذّا عن خطاب رئيس لجنة المصادرة على مستوى التكتّم حول طبيعة وقيمة الأملاك المشمولة بالقرار الأخير. لكنّ الغموض والتساؤلات لا تقتصر على هذا الجانب فحسب. فالحملة الأخيرة لمحاربة الفساد تتضارب والاسس القانونيّة لإيقاف المشمولين بالمصادرة وأهمّهم شفيق جراية الماثل أمام القضاء العسكري بتهم الاعتداء على أمن الدولة الخارجي ووضع النفس تحت تصرف جيش أجنبي زمن السلم. كما تتضارب مع ما أعلنه منير الفرشيشي رئيس اللجنة من أنّ العمل يتمّ منذ مدّة طويلة بخصوص ملفّات الموقوفين بمنأى عن التهم الموجّهة إليهم.
النقطة الثانية التّي تطرح أكثر من استفهام حول عمل لجنة المصادرة هو التأخير الحاصل في عمليّة المصادرة والذّي يناهز 5 سنوات تقريبا استنادا على تصريحات منير الفرشيشي حول وجود قائمة أوّلية منذ سنة 2012 والتي استغرقت هذا الحيّز الزمني لتنفيذ عملية الحجز على الممتلكات. افتراضية التعقيدات الإدارية ومتطلّبات عملية البحث والاستقصاء التي تبرّر كلّ هذا التأخير في التحرّك ضدّ قائمة “الفرع الثاني” تصطدم بتصريحات رئيس لجنة المصادرة وكاتب الدولة لأملاك الدولة الذّين يصرّون على عدم اكتمال عملية الفرز وأنّ المصادرة تمّت في المطلق في انتظار استكمال عمليّة البحث المتواصلة منذ نصف عقد.
السياسة الاتصاليّة لحكومة يوسف الشاهد وتوظيف لجنة المصادرة لاستكمال الاستعراض بعجل وارتجاليّة، أساءت للحملة الأخيرة بتركها الباب مواربا أمام التشكيك والإصرار على الغموض في التعاطي مع حرب تقتضي الشفافيّة واتباع أقصى درجات الوضوح والدقّة، خصوصا مع ما لقيته عمليات الإيقاف من تأييد شعبي وتعاطف من خصوم الحكومة، والذّي قد ينقلب إلى العكس إذا ما تواصلت حالة الفراغ الاتصالي والالتفاف على الأجوبة الحاسمة.
iThere are no comments
Add yours