لدينا في تونس حوالي 15 قناة تلفزية بين عمومي وخاص، وما يقارب 20 صحيفة تشتغل بين يومية وأسبوعية و25 إذاعة بين عمومية وخاصة وجمعياتية وجهوية. كل هذه الوسائط الإعلامية غيرت من مضامين بثها في شهر رمضان وفق قاعدة ترتيب الأولويات في الإعلام والتي تسمى في علوم الإعلام والاتصال “أجندة”.

توقف برامج الجدل العام

بإلقاء نظرة سريعة على البرامج التلفزية في تونس في رمضان، نلاحظ في الوهلة الأولى غياب البرامج الحوارية السياسية المتعلقة بمواضيع الجدل العام لصالح البرامج الترفيهية والدينية، خاصة وأن بعض التطورات قد ظهرت على السطح قبيل رمضان بأيام أساسا تلك المتعلقة بقضايا الفساد. فمثلا في القناة الوطنية الأولى وهي مرفق إعلامي عمومي تبث حوالي 40 فقرة في اليوم، من بينها 8 دينية و7 درامية والباقي متفرقات ومنوعات، لم يبق من الفقرات الإخبارية سوى برنامج “في أسبوع” الذي يبقى 45 دقيقة ويبث يوم السبت فقط.

مثال آخر في مسألة تغيير الأجندة وهو قناة الحوار التونسي. فقد كان يبث برنامجين لنقاش الأحداث الوطنية وهما: 7/24 التي تبث يوميا في باقي أيام السنة (من الإثنين إلى الجمعة) ولمن يجرؤ فقط وهو برنامج أسبوعي، ويوجد أيضا برنامج الحق معاك الذي يعنى بالإشكالات القانونية التي يتعرض لها المواطنين. وآخر حلقة لـ7/24 تم بثها يوم 22 ماي أي قبل رمضان بـ5 أيام ولمن يجرؤ فقط كانت يوم 21 ماي أي قبل رمضان ب6 أيام وبرنامج الحق معاك تم بث آخر حلقة منه قبل البرمجة الرمضانية بيومين.

أما قناة التاسعة، فقد أوقفت بث برنامجين حواريين إخباريين في شهر رمضان: هنا الآن اليومي (من الإثنين إلى الجمعة) والذي بثت آخر حلقة منه قبل رمضان بيومين والتاسعة مساء الذي يبث مرتين في الأسبوع والذي توقف يوم 19 ماي. ويعتبر البرنامجان الأبرز في نقاش الشأن العام في تونس. وقد تغيرت البرمجة بشكل تام في القناة لصالح البرامج الرمضانية التي ترتكز بالأساس على البرامج الترفيهية والأعمال الدرامية وبعض الفقرات الدينية قبيل الإفطار. وهذا لم يؤثر فقط في القنوات التلفزية بل امتد التأثير إلى الميديا الجديدة، مثل فايسبوك وتويتر ويوتوب.

الافتراضي تأثر أيضا

انعكس التغيير في شبكة البرمجة التلفزية على مضامين اهتمامات مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فقد كان التفاعل مع القناتين مصدرا للجدل صلب المواقع الافتراضية، لكن في رمضان تأثرت تلك المواقع بالبرمجة الرمضانية اكثر، نظرا لحجم جمهور التلفزيون في أوقات الذروة ا. فمنذ بداية شهر رمضان تتجه التدوينات عموما إلى الحديث عن مسلسلات رمضان وبرامج المسابقات، بل وتتماهى التدوينات مع تلك البرمجة حتى تصبح آراؤهم محل جدال داخل تلك “القبائل الافتراضية”. فقد انعكست الميولات داخل فايسبوك مثلا وأصبحت تلك الميولات تشكل قاعدة تقارب أو اختلاف بين مستخدمي الموقع التواصلي، ولذلك تسمى المجموعة المتماثلة في الميولات بالقبيلة الافتراضية.

ويلاحظ تغير في مضامين التدوينات على موقع فايسبوك، إذ كانت تلك التدوينات تعنى أساسا بأحداث من قبيل إجراءات الحكومة فيما تسميه الحرب على الفساد (القبض على شفيق الجراية) أو ذبح الراعي خليفة السلطاني شقيق مبروك السلطاني بداية رمضان، لكن وبمرور أسبوع تقريبا في رمضان تحولت الاهتمامات شيئا فشيئا إلى المضامين التلفزية التي يشاهدها المدونون في التلفاز ثم يتم نقل الانطباعات حولها في فيسبوك أو تويتر.

لم يعد رمضان منحصرا فقط في وسائل الإعلام التقليدية، فقد تجاوز الاهتمام بمحتوى رمضان التلفزي، المشاهدة والتفاعل المباشر بين المجموعة التي تتابع البرامج (في الغالب تكون العائلة) وأضحت جملة التفاعلات اساسا تناقش في الفضاء الافتراضي وخاصة موقع فايسبوك بالنسبة للتونسيين. وبهذا فإن احتمال بقاء الميديا الجديدة كفضاء بديل للنقاش العام أصبح احتمالا ضعيفا في رمضان.

تغير البرمجة التلفزية في رمضان أثر في الجمهور أيضا ودفعه للتماهي مع هذا التغير. كذلك لا يمكن التغاضي عن تغير علاقة التأثير والتأثر في طرفي المعادلة: التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي. فقد كانت تلك المواقع قادرة نسبيا على التأثير في اختيار التلفزة للمواضيع وترتيبها، أما في رمضان أصبح المضمون التلفزيوني مؤثرا بشكل كبير على المتابعات والتدوينات في المواقع الافتراضية.

جمهور محافظ؟

بالرغم من تطور الإعلام في تونس بعد الثورة، من ذلك تزايد عدد وسائل الإعلام وبروز نسبة من التنوع في المشهد الإعلامي وتوفير إطار تشريعي جديد معدل للمشهد السمعي البصري، إلا أن السلوك الإعلامي إن صح التعبير في رمضان بقي محافظا على الإيقاع ذاته منذ سنوات، في التحول من البرامج المتنوعة والإخبارية والنقاشات في الشأن العام إلى المادة الترفيهية كالدراما والمواد الإعلامية المتعلقة بالمخيال الشعبي حول رمضان كالطبخ والفقرات الدينية. وهذا لا يعني فقط تغيير ترتيب الاهتمامات لدى الجماهير التونسية وحصرها في زاوية سيميائية رمضانية بل إن السلوك الإعلامي في تونس يحافظ على صورة رمضان في الإعلام المرتبطة باضمحلال للجدل العام وتعويض ذلك بطرح أنماط درامية تعد محل نقاش واسع بدورها.

تستهدف وسائل الإعلام السائد جمهورا تسعى لكسبه والحفاظ عليه وتكبير حجمه، وهذا ما يجعلها خاضعة بشكل أو بآخر لنمط عيش ذلك الجمهور وسلوكه ونفسيته العامة ومخياله وذاكرته وتحاول بشكل دائم أن تسايره. وبالفعل هذا ما يحدث مع وسائل الإعلام في تونس، والتي بقيت على حالها منذ ثلاثة عقود على الأقل في محاولة الإبقاء على جماهيرها “وفية” لها، ولعل إعادة بث مسلسل الخطاب على الباب مثلا هو إصغاء لنوستالجيا شعبية في الشارع التونسي لا تريد فقط الإبقاء على فلسفة البرمجة ذاتها بل وإعادة استهلاك الماضي أيضا.

لقد تمكن رمضان من صناعة إعلامه وصناعة جمهوره وبالتالي صناعة برمجته وفرضها على المتقبل. ولا يمكن فصل ذلك جدليا عن بحث وسائل الإعلام عن المستشهرين والمانحين الماليين وهي الجهات التي تستغل تغير الأجندة الإعلامية حتى تزيد من استثمارها في الإشهار نظرا لزيادة عدد المشاهدين للتلفزيون في شهر رمضان. وقد تسبب هذا السلوك في ظهور إشكالات عديدة على مستوى قيس نسب المشاهدة وترتيب المسلسلات في سبر الآراء، وتتغذى تلك الإشكالات من التنافس على مداخل الإشهار. ولعل الجدل الذي أثاره معز بن غربية مدير قناة التاسعة حول نسبة مشاهدة قناته وترتيب مسلسلاته يعد أبرز دليل.