تستوطن الفوبيا كيان الإنسان بوصفها خوفا مرضيا من الأشياء والظواهر والآخرين، وقد تجاوز المفهوم حدود التوصيف السيكولوجي للأفراد ليتم إطلاقه على بعض الجماعات والمذاهب واتجاهات التفكير، على غرار مصطلح “الإسلاموفوبيا” الذي شاع في الغرب بداية الألفية الثالثة، لوصف الخطابات المعادية لأي شيء متصل بالإسلام والمسلمين. في السياق التونسي تحولت استراتيجيات الضبط والمراقبة التي تستخدمها الدولة ضد الأفراد والمجتمع إلى حالة شبيهة بـ”الفوبيا”، تنعكس في الخوف المرضي للحكام من كل الظواهر والممارسات الخارجة عن خطوط السير التي رسمتها السلطة.

شعار في ملعب كرة قدم –رفعته جماهير النادي الإفريقي السبت الفارط- كان كافيا لإيقاف ثلاث شبان وإحالتهم على القضاء بتهمة “التحريض على الكراهية والتهديد بما يوجب العقاب الجنائي”. تأولت السلطة جناية الكراهية من نص الشعار القائل “كرهناكم يا حكام، تحاصرون قطر وإسرائيل في سلام”. يلوح الخوف مزدوجا في هذه الحالة: خوف مُزمن من ملاعب كرة القدم -بوصفها فضاء عام- منتج دينماكيات سياسية من خارج المنظومة المعترف بها، يعقبه خوف ثاني من الموقف السياسي المُضمّن في الشعار، الذي يتعارض مع الموقف الدبلوماسي الرسمي إزاء أزمة الخليج الأخيرة. ورغم أن الشعار لا يعكس انحيازا لأحد أطراف النزاع (قطر) بقدر ما يرفض صدامات الأنظمة العربية التي استفادت منها الكيان الصهيوني، فإن السلطات كانت تخشى من توظيفه الدعائي ضد موقعها الحيادي المُريح.

الجموع الرياضية، المنفلتة والمتمردة في أشكالها التعبيرية على الخطاب السلطوي، ليست الوحيدة المشمولة باستراتيجيات الترويض والسيطرة. تشاركها في ذلك فضاءات الاحتجاج الاجتماعي التي تتكثف فيها تدخلات الدولة بترساناتها الأمنية والقانونية والدعائية، منتجة بذلك خطاب سياسي لا يخلو من الخوف المرضي والعداء الملتحف بالشيطنة. اعتصام الكامور –الذي تم حله الجمعة الفارط بعد التوصل لاتفاقات مع المعتصمين- تجلت فيه أعراض الفوبيا الرسمية من الاكتساح الجماهيري للفضاء العام وتحويله إلى بؤرة احتجاجية ضد السياسات العامة، وقد انعكس الارتباك السلطوي في تنوع أساليب التدخل وتناقضها: التفاوض، التلويح باستخدام الحل الأمني ثم اختباره، تشويه قادة الاعتصام، الدعاية المضادة للاحتجاج…وقد كان وزير التشغيل والقيادي في حركة النهضة، عماد الحمامي، مثالا على التناقض المسرود، إذ دفعه الفشل في إدارة التفاوض إلى مهاجمة المعتصمين واتهام المتحدث باسمهم بتلقي أموال من “جهات مشبوهة”، متوعدا إياه بالملاحقة القضائية. نفس هذا الشخص المُدان سابقا جلس إليه وزير التشغيل يوم الجمعة الفارط وأمضى معه جملة من الاتفاقات، في مقدمتها التخلي عن التتبعات الأمنية في حق المعتصمين.

تنجم “الفوبيا” الرسمية في معالجة الأزمات الاجتماعية من تَمَثّل قديم لعلاقة الدولة بالمجتمع، قائمة بالأساس على الإخضاع والهيمنة والعقاب. ضمن هذه العلاقة تتخذ الدولة صورة الأب الراعي والقاسي في آن، أما الجماهير فهي ذلك الطفل الذي لا يملك شرائط الوعي بمصيره. من هذا المنطلق حرصت السلطة الحديثة منذ نشأتها على التعاطي مع الحركات الاجتماعية بوصفها نتاج لعوامل خارجية (أطراف مشبوهة، أنظمة مجاورة متآمرة، مخابرات أجنبية…) وليس بوصفها إفراز لوعي نابع من داخل الظروف الخاصة للمجتمع. مع انهيار الهيمنة السلطوية المطلقة على الفضاء العام بعد 14 جانفي 2011، شهد هذا الأخير حالة اكتساح من قبل تعبيرات اجتماعية مختلفة، وبأشكال احتجاجية متنوعة. ولكن رغم هذا التحول الهائل فإن السلطات المتعاقبة ظلت محافظة على التمثل القديم المستند إلى المقاربة الأمنية، عززته بالدعاية الإعلامية الكاشفة لارتباط عضوي بين منظومة الحكم ومالكي وسائل الاعلام السائدة.

عدم التكيف مع حركة المجتمع الجديدة والتواءاتها، ترتبت عنه سياسات آنية عرجاء، محكومة بخلفية الخوف وإرادة الترويض. وقد آلت الأمور إلى اجترار خطابات المؤامرة والشيطنة والكذب، وكثيرا ما اضطرت السلطة إلى التراجع عن هذه الخطابات والاعتراف بمشروعية الحركات الاجتماعية بفعل التماسك الكبير الذي يبديه بعضها. وفي الأثناء كشف الحراك الاجتماعي الذي تركز أساسا في مناطق الجنوب الشرقي (اعتصام الكامور، ملف الأراضي الدولية بجمنة) عن عدوى الفوبيا التي أصابت جزءا من النخب الفاعلة في مجالات الاقتصاد والسياسة والمجتمع المدني والفن…هذا الجنوب الثائر والمتشنج يصعد إلى أذهان تلك النخب بوصفه وعاءا مُغلقا للمحافظة الاجتماعية والتعصب العروشي، ومدفوع برومنسية دينية وانتمائية محلية، ضاربة في القدم. أصبح الجنوب “متخيلا” داخل هذا الوعي، الأمر الذي جعل الاقتراب منه أو محاولات فهمه وإبلاغ صرخاته انتصارا ميكانيكيا لمعسكر التخلف والمحافظة، ولما لا اصطفافا وراء المهربين ومشاريع الأسلمة. هذا التمثل بقدر ما يعكس عجز نخبوي عن إيجاد إجابات لواقع معقد وصعب، فإنه يحاكي في أساليبه أطروحات “الشرق المتخيل” التي انتشرت في مدارس الاستشراق الحديثة، التي كانت تتعامل مع المجتمعات الشرقية بوصفها شاهد دائم على بنيات اجتماعية متأصلة في البداوة والقدم.