وجب الانتباه في البداية إلى أن ظاهرة الانقطاع المدرسي تعتبر من أخطر الظواهر التي تتزايد في كل سنة دراسية في تونس، ويشير مصطلح “الانقطاع المدرسي” حسب تعريف اليونسكو إلى كل انقطاع عن الدراسة بعد الوصول إلى مستوى يمكّن التلميذ من الكتابة والقراءة والحساب، وهو أمر ينسحب على التلاميذ بشكل فعلي منذ السنة السادسة من التعليم الابتدائي.

إحصائيات مخيفة

منذ ما يقارب العشرين عاما، يغادر حوالي 100 ألف تلميذ تونسي المدرسة من مختلف المستويات للتردد يوميا على فضاءات أخرى غير تلك المخصصة للتعليم، أي أن تونس ومنذ منتصف التسعينات إلى اليوم تحوي مليوني مواطن منقطع عن الدراسة لأسباب عديدة، ولم تتمكن الوزارة بأي شكل من الأشكال -رغم الحديث المتواتر عن مقاومة هذه الظاهرة- من منع الانقطاع أو التسرب المدرسي.

وقد تفاقمت الظاهرة بشكل ملفت للانتباه بعد الثورة خاصة بالنسبة لتلاميذ الباكالوريا. وتُظهر أرقام وزارة التربية في آخر مسح إحصائي للسنة الدراسية (2016-2017) أن نسبة التسرب المدرسي في مستوى الباكالوريا ارتفعت من 14.3 بالمائة في السنة الدراسية (1984- 1985) إلى 19.8 بالمائة في السنة الدراسية (2015- 2016) علما وأن النسبة الأكثر خطورة تم تسجيلها بين سنتي 2010 و2012 بحوالي 14236 تلميذ وبنسبة تجاوزت الـ16 بالمائة سنة 2012 بعد أن كانت نسبة الانقطاع المدرسي في الباكالوريا سنة 2010 لا تتجاوز 12 بالمائة، والرقم لا يزال في ارتفاع مطّرد إلى اليوم.

وتشير أرقام وزارة التربية في السنة الدراسية (2014- 2015) إلى أن العدد الجملي للمنقطعين عن الدراسة بين المرحلة الإعدادية والمرحلة الثانوية يقدر بـ105175 تلميذا، وقد ازداد ذلك العدد بالنسبة للسنة التي قبلها أي (2013 -2014) نتيجة الضعف المتوالي للربط بين المرحلة الاعدادية والمرحلة الثانوية وارتباك عدد كبير من التلاميذ المترددين بين مواصلة الثانوية أو الانقطاع.وكما سجلت تلك السنة الدراسية (2014-2015) 1921 انقطاعا عن الدراسة في سنة الباكالوريا.

وفي دراسة قام بها سنة 2014 منير حسين، رئيس فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالمنستير، فإن الانقطاع المدرسي ظاهرة أصبحت منتشرة في صفوف الذكور أكثر من الإناث. ومن خلال دراسة ميدانية قام بها في ثلاث ولايات هي القصرين والقيروان والمنستير وبعينة قدرها 601 منقطع عن الدراسة، خلُص إلى أن نسبة المنقطعين من الذكور 66.39 بالمائة بينما تصل إلى 33.61 بالمائة من الإناث.

وتشير الدراسة إلى أن النسبة الهامة من المنقطعين ينحدرون من عائلات ذات دخل ضعيف، أي أن الطبقة الفقيرة في تونس تعتبر المغذي الرئيسي للمنقطعين عن الدراسة وستبقى خزانا للمنقطعين في حالة عدم اتخاذ التدابير الاجتماعية الناجعة، كما أن تراجع الطبقة الوسطى إلى مستوى الفقر، قد يزيد من تعقيد الظاهرة.

وتقدر تكلفة الانقطاع المدرسي حسب وزارة التربية بـ345 مليون دينار أي ما يقارب الـ13 بالمائة من ميزانية وزارة التربية، وهي نسبة ضخمة ومؤثرة في المصاريف العامة للوزارة والميزانية الوطنية، نظرا لكون خسائر الانقطاع تقدر بـ207 مليون دينار سنويا نتيجة الانقطاع، وهي نسبة ترتفع باطراد كل عام.

أسباب الانقطاع

يشير الباحث محمد جلال بن سعد رئيس الجمعية التونسية للتعليم الذكي إلى أن العوامل المؤثرة في ظاهرة الانقطاع عديدة، وهي مصنفة في أبواب الأسباب النفسية والاجتماعية والقيمية والاقتصادية والتربوية. فسلم القيم تغيّر وصورة التعليم في الذهنية العامة أخذت شكلا آخر يرتكز إلى الثراء السريع أو المشاريع التي لا تعتمد على محصول دراسي عالي أو متوسط. كما أن تراجع القيمة التشغيلية للشهائد، باعتبار تزايد عدد العاطلين عن العمل من ذوي الشهادات العليا، يجعل نسبة لا بأس بها من التلاميذ تترك المدرسة و تندمج مبكرا في سوق الشغل خاصة من تلاميذ الباكالوريا.

ومن أهم أسباب الانقطاع المدرسي هو الظرف الاقتصادي الصعب الذي تعيشه العديد من العائلات التي تجد صعوبة في حث أبنائها على مواصلة الدراسة إلى الباكالوريا أو ما بعدها، فالنشاط الدراسي يتطلب حدا أدنى من النفقات لمدة سنة دراسية كاملة يكون هدفها النجاح. الكثير من العائلات التونسية الفقيرة وغير القادرة على تأمين تلك نفقات الدراسة تجبر أبناءها على الانقطاع عن الدراسة خاصة في سن متقدمة (باكالوريا أو قريبة منها) لمقدرة نسبية على العمل في تلك السن، وفي الغالب تكون طبيعة ذلك العمل حرفية أو فلاحية أو تجارية. يحدث هذا في الوقت الذي تضحي فيه بعض العائلات الأخرى بالعديد من الأساسيات في سبيل تعليم أبنائها. لكن في عدم تحمل الدولة مسؤوليتها فإن الانقطاع مآل جل التلاميذ في تلك الوضعية.

ثم إن الضغط الزمني المتعلق بالتوقيت المخصص للأبناء خاصة في السنوات المفصلية (السادسة ابتدائي، التاسعة أساسي والباكالوريا) يعد من أبرز الإشكالات المتسببة في الانقطاع عن التعليم، إذ يتسبب ضعف التأطير في شرود البوصلة لدى التلميذ وعدم اعتماده على نفسه للارتقاء في السلم الدراسي والوصول إلى مراحل متقدمة. فعدم اهتمام العائلة بالشكل المطلوب بالتلميذ والإحاطة بحياته الدراسية (خاصة في السنوات الرابطة بين التاسعة أساسي والباكالوريا) تزيد من نسبة الانقطاع عن الدراسة.

من جهة أخرى يعتبر الالتحاق بالأسلاك الأمنية في مناظرة الرقباء والعرفاء الهدف الأول للكثير ممن غادروا تعليمهم في مستوى التاسعة أساسي بالنسبة للرقيب، والباكالوريا بالنسبة للعريف أو مفتش الشرطة. وقد ساهمت سياسة وزير التربية السابق ناجي جلول في الدعاية المكثفة لمؤسستي الأمن والجيش من خلال زرع الثقافة الأمنية والعسكرية في التفاصيل الإدارية لوزارة التربية بإقراره شرط الخدمة العسكرية قبل الانخراط في الدورات التكوينية لموظفي التربية في وزارته. وبالنظر إلى هشاشة الوضع المالي للعديد من التلاميذ وخاصة في الجهات المهمشة فإن حساسية هذه الفئة تجعلها أشد قابلية لأي دعاية صادرة عن مؤسسة رسمية. وقد أثبتت بعض الأحداث المتعلقة بالإرهاب أن عددا ممن غادروا معاهدهم حديثا قد انخرطوا في سلك القوات الحاملة للسلاح ومنهم من استشهد في معارك مباشرة مع العناصر الإرهابية وسنه لم يتجاوز الـ21 عاما.

وتبقى ظاهرة الانقطاع المدرسي في الباكالوريا غير مستقلة عن الانقطاع في مستويات أخرى أدنى، تتكثف حسب محمد جلال بن سعد في مستوى السابعة أساسي حيث بلغت في السنة الدراسية (2012 ـ 2013) نسبة الـ14.5 بالمئة بعدد وصل إلى 194224 تلميذ منقطع. ويعيد الباحث هذه النسبة من الانقطاع إلى العديد من العوامل من بينها ضعف حلقة الربط بين الابتدائي والأساسي من ناحية التحصيل العلمي وأيضا خروج عدد كبير من التلاميذ إلى مدارس التكوين الخاصة التي تمكنهم من حرف يديوية في مدة قصيرة وسن صغيرة.